تفسير القرآن
القلم / من الآية 34 إلى الآية 53

 من الآية 34 الى الآية 53
 

الآيــات

{إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ* إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ* سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ* أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ* يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ* خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ* فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ* فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ* وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} (34ـ52).

* * *

معاني المفردات

{أَيْمَانٌ}: عهود ومواثيق.

{مَّغْرَمٍ}: المغرم: الغرامة.

{مَكْظُومٌ}: مملوء بالغم.

{بِالْعَرَآءِ}: الأرض غير المستورة بسقف أو نبات.

{لَيُزْلِقُونَكَ}: الإزلاق: الإزلال، وهو الصَّرْع، كناية عن القتل والإهلاك.

* * *

دحض مزاعم المكذّبين

وهذه إطلالةٌ على مصير المكذبين للنبيّ، وتسجيلٌ للحجة القاطعة عليهم في مواقفهم السلبية من الدعوة، والتي لا ترتكز على أساس من العلم والواقع، ما يجعل لله الحجة عليهم عندما يواجهون العذاب في الآخرة، بينما يبرز المتقون بالحجة التي تدعم موقفهم وتجعلهم موضع رحمة الله في الآخرة.

{إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} لأنهم عرفوا مقام ربهم، وفكروا بمنطق عقولهم لا بمنطق غرائزهم، والتزموا بالحق الثابت لديهم من ربهم ونهوا النفس عن الهوى، مما كان يريد الشيطان أن يضلّهم من خلال الأجواء العاطفية المحيطة بهم من أهلهم وقومهم، فرفضوا ذلك كله واقتربوا من الله، وفضّلوا رضاه على رضى الأقربين.

* * *

ليس المسلمون كالمجرمين

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} في الميزان، بحيث يتساوى مصير الذين اتقوا ربهم وأسلموا أمرهم إليه، وجعلوا الحياة ساحة الطاعة لله في جميع جوانبها ومجالاتها العملية، ومصير الذين ابتعدوا عن التقوى وتمرّدوا على الله، وجعلوا من الحياة ساحة الجريمة الفكرية والعملية، فأساءوا إلى مقام ربهم، وظلموا عباده في أقوالهم وأفعالهم، إن ذلك مرفوضٌ عند الله الذي يحكم بين عباده بالعدل، فيجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

وهذا خطٌّ مستقيمٌ لا بد من أن يأخذ به العاملون في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، بحيث يواجهون الموقف من الناس الذين يحيطون بهم، على أساس الإخلاص لمنطق الدعوة في القيمة الاجتماعية، فيقفون من المسلمين الذين يلتزمون الخط الإسلامي موقف الإِعزاز والتكريم والدفاع عنهم في ساحات الصراع التي يخوضونها ضد الكفر والباطل، ولا يفعلون كما يفعل البعض ممن يسيرون مع المستكبرين في مواقعهم الرسمية، ليرفضوا الملتزمين بالخط الإسلامي إرضاءً للواقع العام الذي يرمي المؤمنين بالاتهامات اللامسؤولة كالتعصب والتطرف وما إلى ذلك من الكلمات التي استحدثها الاستكبار والكفر، للنيل من هؤلاء السائرين على خط الله، فإن ذلك يوجب اهتزاز قواعد الإسلام، وتوجيه المجتمع إلى التحوّل نحو المجرمين في ما هي القيمة الاجتماعية والسياسيّة، ليكون فريق الباطل هو صاحب القيمة لدى المواقع الرسمية الإسلامية دون فريق الحق، باعتبار الواقع الاستكباري الذي يبحثون عن كسب رضاه.

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} من دون قاعدةٍ في منطق الحق الذي لا بد من أن يكون هو الأساس في الحكم، فإذا كانت المسألة في التقييم هي التمايز الذي يظهر بين الناس، فكيف يمكن أن نساوي بين الإنسان المؤمن الذي أسلم كل حياته لله في كل أقواله وأفعاله وعلاقاته وخططه، وجعل حياته كلها في خدمة الله الذي خلقه وخلق الناس كلهم في قدرته وحكمته، وأنعم عليه وعليهم بتدبيره في ما مهّد لهم من وسائل العيش وفي ما أنعم عليهم من نعمه التي لا تحصى، وبين الإنسان الكافر الذي أجرم في حق نفسه، وفي حق ربّه، وفي تصرّفاته مع الناس من حوله.. فإذا لم يكونا متساويين في الصفات التي تميز الناس عن بعضهم البعض، فكيف نجعلهما متساويين في الحكم وفي المصير؟!

* * *

تساؤلات استنكارية

{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} من الكتب التي أنزلها الله على رسله لتكون لكم حجة على ما أنتم فيه. وهذا أمرٌ لا أساس له، لأن الكتب النازلة من عند الله تؤكد على تفضيل المسلمين على المجرمين. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي ما تختارونه من المصير الذي تريدونه، من المصير الذي ينتظركم في الآخرة أو مطلقاً، {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بحيث التزمنا لكم بالعهود والمواثيق المتمثلة بالأيمان من قبلنا أن يكون لكم الحق بالحكم كما تشاءون، لتكون لكم الحجة بذلك في ما جعل الله لكم من إرجاع الأمر إليكم إلى يوم القيامة. وهذا أمر لا أساس له ولا معنى، لأن الله لا يمكن أن يجعل عهداً على نفسه للمنحرفين عنه بأن يحكموا بما يشاءون في ما لا يرتكز على قاعدة الحق والعدل {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}.

{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} فمن هو الذي يتكفل بهذا الموقف الجائر الذي لا يتفق مع خط الله، وكيف يمكن أن يتحمّل المسؤولية في الأخذ بذلك والالتزام به؟ وهذه إشارة ـ على الظاهر ـ إلى أن ذلك مما لا يستطيع أحد أن يتكفل به، لأنَّه الباطل الذي لا يتفوه به كل من يحترم عقله، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} يقررون لهم هذه الأمور، فيعتمدون عليهم في موقفهم وفي حكمهم، ممن يكون له إصدار الأمر الملزم للناس، وذلك بأن يكون هؤلاء الشركاء في مواقع الالهة، {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} ولن يستطيعوا ذلك، لأنه غير واردٍ في حساب الحقيقة الأصلية. وقيل: إن المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، للإِيحاء بأنهم ليسوا وحدهم فيه، فلا يكونون حالةً شاذةً في المجتمع، في ما يقولونه أو يلتزمونه من الحكم، ولكن وجود آخرين يثبتون هذا القول لا يصلح سنداً لهم، لأن أولئك يكونون مثلهم في الخطأ والسقوط.

* * *

موقف الخسران للكافرين يوم القيامة

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} وهو وارد مورد المثل عن اشتداد الأمر اشتداداً بالغاً لأنهم كانوا يشمرون عن ساقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو للفرار. قال صاحب الكشاف: «فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} في معنى يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمَّ ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمَّ ولا غل وإنما هو مثلٌ في البخل»[1].

{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} لأنهم لا يملكون القدرة على ذلك من خلال العجز الروحي والجسدي الذي لا يمكنهم من القيام بذلك بشكل طبيعيّ.

{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} فلا يملكون أن يحدّقوا بها في ما حولهم، لأنه من الأمور التي لا يستطيعون التماسك أمامها، لما تشتمل عليه من مظاهر الرعب الذي يرهق الأبصار ويهزُّ القلوب {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} في موقفهم الخاسر الذي يواجهون فيه العذاب الأليم ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} وذلك عندما كانوا في الدنيا قادرين على أن يستقيموا في خط توحيد الله في العقيدة والعبادة، وأن يسجدوا له إيماناً وخضوعاً، ليتفادوا هذا الموقف الخاشع الذليل في يوم القيامة، {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} فلست ـ أنت يا محمد ـ الذي تواجهه بالموقف المتحدي في ساحة المواجهة الصعبة التي تقوده إلى نهايته المحتومة. ولعل الإنسان الذي يستمع إلى الله رب العالمين وهو يقول لرسوله: ذرني وهؤلاء فأنا الكفيل بهم، يشعر بالهول الكبير الذي لا هول مثله، من خلال هذا التهديد الإلهي الحاسم.

* * *

استدراج الكافرين من حيث لا يعلمون

{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وذلك بالأسلوب الذي قد يخيّل لهم فيه بأن الله قد أهمل أمرهم، من خلال ما يشاهدونه من النعم الكثيرة المحيطة بهم، وربما يحسبون ذلك كرامةً من الله لهم.. ولكنه الاستدراج الذي يقعون فيه من دون وعي للنتائج المقبلة عليهم، {وَأُمْلِي لَهُمْ} وذلك بإمهالهم حتى يمتدوا بالمعاصي، وتمتد النعم بهم في مواقع الابتلاء والامتحان، {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قويّ لا يتخلّف عن هدفه، في ما يتخلف فيه كيد الكافرين عن غاياتهم، لأنهم لا يملكون امتداداً في القدرة الخفية التي تتعامل مع واقع القضايا لا ظاهرها.

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} على دعوتك، كما هو حال الكثيرين من الدعاة الذين يريدون أن يحصلوا من خلال دعوتهم على المال، في ما يحصلون عليه من المواقع المتقدمة في المجتمع، ليتعللوا بذلك في الوقوف ضدك، لأنهم لا يريدون التحاور معك في هذا الهدف، لعدم استطاعتهم دفع هذا الأجر، فيهربون منك هرباً من الغرم الذي قد يفرض عليهم، {فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} كما يفعل الناس مع كل الذين يكلّفونهم مالاً يثقل عليهم دفعه، فيواجهونه بالرفض بطريقة غير مباشرة.

{أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي هل يملكون أمر الغيب في ما تختزنه من أوضاع المستقبل، ليحددوا بذلك حدود قضايا المستقبل من خلال رؤيتهم خفاياه، فهم يكتبون ذلك ويقررونه لينطلقوا إلى شاهدٍ على ما يدّعونه، تماماً كما هم الأنبياء الذين يتحدثون عن الغيب النازل عليهم من الله. ولكن من أين لهم علم ذلك، وأنّى لهم مثل هذه الدعوة الباطلة؟ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وتابع رسالتك، ولا تستعجل الأمر، فإن كثيراً من القضايا تحتاج إلى وقت طويل لتبلغ مداها، لأن لها شروطاً كثيرة في واقع الحياة التي تفرض لكل حادثٍ مراحل متعددة في امتداد الزمن، ما يفرض على الذين يتعاملون مع سنن الله في الكون من هذه القضايا، أن ينتظروا الأسس الواقعية التي ترتكز عليها، كما هو النبات في مواعيد ثمره، وكما هو الإنسان في مدة حمله، وكما هو الليل والنهار في مواعيدهما.

* * *

لا تستعجل النتائج

{وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} الذي استعجل أمر ربه بعذاب قومه، أو أنه استعجل الوصول إلى النتائج في حركة رسالته، فلم يصبر، بل امتلأ غيظاً وحنقاً من تكذيب قومه، {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} في ما يشبه المختنق الذي يتجرع الغيظ ولا يستطيع أن يجد له متنفساً، {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وهو قبول الله له لإيمانه وتسبيحه وإخلاصه، مما جعل مسألة الاستعجال منطلقةً من موقع الإخلاص لله لا من موقع التمرد عليه، {لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ} وهي الأرض العارية التي لا سقف فوقها ولا نبات عليها، {وَهُوَ مَذْمُومٌ} على هذا السلوك الذي لا يتناسب مع صبر الرسالة وثبات الرسول، {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} واختاره إليه {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين اختصهم برحمته، وجعلهم من أهل كرامته.

* * *

من إيحاءات الآيات

وقد نستوحي من هذه الآيات وصية الله للنبي أن لا يكون كصاحب الحوت الذي ضاق صدره بتكذيب قومه، فاستعجل العذاب لهم، ولم يصبر على الامتداد في تبليغ الرسالة لتبلغ مداها في تحقيق شروط النجاح أو نهاية التجربة.

قد نستوحي من ذلك أن الأنبياء يستسلمون لنقاط الضعف البشري تبعاً لدرجاتهم، وقد لا يكون من الضروري أن يكون ذلك في حجم المعصية، لأنهم ربما انطلقوا من معطيات إيمانيةٍ في الغضب لله ولرسوله، ولكن ذلك يعني أن درجاتهم في الكمال تتفاوت حسب تفاوت مواقعهم الإيمانية والروحية.

وقد نستوحي من هذه الآية، أنّ على الداعية أن يصبر في موقفه الصعب في مواجهة التحديات، ليبقى في متابعةٍ دائمةٍ للواقع من حوله من خلال دراسة الظروف الموضوعية الضاغطة عليه أو على الناس الذين يريد هدايتهم، ليفسح المجال لظروف أخرى ملائمة في ما يمكن أن يختزنه المستقبل من متغيرات على صعيد حركة الواقع السلبية والإيجابية، وأن عليه أن لا يتعقد من النكسات أو بعض مواقف الفشل، ولا يثور بسرعة، بحجة الثأر لرسالة الله التي لا يطيق المؤمن الصبر على الإساءة إليها، لأن الإنسان لن يكون أكثر اهتماماً من الله برسالته، في ما يريد أن يأخذ به المتمردين من عقابه، فقد يأتيهم العذاب من حيث لا يحتسبون.

* * *

الخروج عن المألوف ليس خروجاً عن الحقيقة

{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي ينظرون إليك نظر الذي يريد أن يصرعك ببصره، في ما كانوا يعتقدونه بأن العين تقتل الذي تصيبه، أو أنهم يحدّقون بك تحديقة الحقد الذي يشتعل في عيونهم حتى يخيّل إليهم أنهم سيحرقونك به، أو أنهم ينظرون إليك كما ينظر الإنسان إلى المجنون في حالةٍ نفسيّةٍ توحي بالخوف منه، والاستعداد للانقضاض عليه إذا بدرت منه أيّة حركةٍ {لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} الذي جاءهم بما لم يعهدوه من الأفكار والأجواء والمواقف، فكانوا يثيرون القضية كعادتهم في كل كلام خارج عن المألوف، مما يسمعونه من أيّ شخص، فيعتبرونه جنوناً، لأنه كلام لا يصدر عن الناس العقلاء الذين تتحرك عقولهم في دائرة المألوف المعروف لدى المجتمع، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وقد ذكر صاحب الميزان أن «رميهم له بالجنون عندما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، ولذا ردَّ قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكراً للعالمين»[2].

ونلاحظ أن هذا الاحتمال غير ظاهر، لأن المسألة قد تكون في دائرة الاحتمال الذي ذكرناه، كما أن إلقاء الشياطين له لا يعني جنونه، إذ لم يكن الكلام يوحي بالذهنية الجنونية في طبيعته، ما يجعلنا نفهم منه التأكيد على التهمة، أو الإِيحاء به من خلال استغرابهم لمضمون القرآن في خروجه عن المألوف في تفكيرهم. أمّا قوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} فإنه يؤكد ما قلناه، لأنه يريد أن يقرر الحقيقة القرآنية التي أنزلها الله لتذكّر الناس بالحقائق في العقيدة والعمل، ولتخرجهم من الغفلة المطبقة على عقولهم المستغرقة في زوايا الجهل والتخلّف، كما يوحي بأن استغرابهم لها ناشىء عن الجوّ الضبابيّ الذي يحجب الحقيقة عنهم، لأن الخروج عن المألوف لايعني الخروج عن الحقيقة، فربما كان المألوف خاضعاً لذهنيةٍ متخلفةٍ أو عقليةٍ موروثةٍ من الآباء المتخلفين.

* * *

عالميّة رسالة الإسلام

وقد نجد في هذه الآية المكية التي أكدت على أن القرآن جاء ذكراً للعالمين، ردّاً على بعض المستشرقين الذين تحدثوا عن أن عالمية الرسالة لم تكن في وعي النبي محمد(ص) عندما كان في مكة، بل كانت حالةً طارئةً انطلق فيها وهو في المدينة بعد أن اتسعت انتصاراته، ما أدّى إلى اتساع طموحه في السيطرة على العالم.

إن هذه الآية في هذه السورة المكية تؤكد من الناحية التاريخية أن المسألة كانت منطلقة في الوحي الإلهي منذ الأيام الأولى للدعوة، ولم تكن مسألة الحديث عن أنه ذكر للنبي ولقومه، أو إنذار أم القرى ومن حولها، ناشئةً من محدودية ساحة الدعوة، بل كانت ناشئةً من طبيعة الظروف الزمانية والمكانية التي كانت تفرض التدرّج في الدعوة، من أجل الوصول إلى الساحات الأخرى من موقع القوّة الممتدة في أكثر من مكان.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:4، ص:147.

(2) تفسير الميزان، ج:19، ص:405.