تفسير القرآن
الحاقّة / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 12

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 12
 

سورة الحاقّة
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية تتحرك ـ كأمثالها من السور المكية ـ في إيقاظ العقل البشري والروح الإنسانية وتوجيههما الى الأساس العقيدي الذي يرتكز عليه الإسلام، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي تتحرك في فصول ثلاثة:

فالفصل الأول يثير تاريخ الأمم السالفة الذين كفروا بالله فأخذهم بذنوبهم.

والفصل الثاني حول يوم القيامة، وانقسام الناس فيه إلى أهل اليمين وأهل الشمال في مصيرهم المختلف بين الجنة والنار.

وفي الفصل الثالث حديثٌ عن القرآن، وكيف تحدث الكفار عنه، وكيف هو في حقيقته النازلة من الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. حتى أن النبي محمداً(ص) ـ وهو صاحب الرسالة ـ لا يجرؤ على أن يزيد فيه كلمة واحدة، لأن الله سوف يأخذ بيده، فالله يريده تذكرةً للمتقين، لينطلق إيمانهم من خلال الصفاء الذي يمثله حق اليقين.

أمّا عنوان السورة فقد كان يتناول المسألة الأساس في بدايتها.

ـــــــــــــــــ

الآيــات

{الْحَاقَّةُ* مَا الْحَآقَّةُ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ * وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (1ـ12).

* * *

معاني المفردات

{الْحَاقَّةُ}: القيامة، وتسمى أيضاً بالقارعة والواقعة.

{بِالطَّاغِيَةِ}: المراد بها: الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة.

{حُسُوماً}: الحسم: إزالة أثر الشيء، ويقال: قطعه فحسمه، والحسوم هنا القاطعة لأثرهم وخبرهم، وقيل: القاطعة لأعمارهم.ٌ

{أَعْجَازُ}: جمع عجز، وهو أصل النخلة الذي يتحوّل إلى خشب.

* * *

الحاقة وأهوالها حقيقة دينية ثابتة

{الْحَاقَّةُ *مَا الْحَآقَّةُ} الكلمة مشتقة من الحق الذي يمثل الثبات، ولمّا كان يوم القيامة يمثل الحقيقة الدينية الثابتة التي لا مجال للشك فيها، فقد عبّر عنه بهذه الكلمة التي أريد لها أن تهزّ الضمير الإنساني في أعماقه عندما يتطلع في وعيه إلى اليوم الآخر الذي كان الجدل يثور حوله بين المؤمنين والمكذبين به، في ما يؤكده هؤلاء ويكذبه أولئك، فإذا بالصيحة تدوّي لتطلق الكلمة غير المألوفة لديهم في اشتقاقها، فتطرحها لتوحي بأن الآخرة هي الحاقّة في طبيعة تمثيلها للحق وهي التي تعطي الحق عمقه وامتداده.

ثم يثور السؤال: ما الحاقّة، ما هي حقيقتها، ما هي تفاصيلها، ما هي طبيعة الموقف فيها، كيف يواجهها، وكيف يكتشف الغموض في داخلها؟ وتنطلق الكلمة الأخرى {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} للإيحاء بالتهويل، فهي الحقيقة التي لا مجال لإدراكها لما فيها من الأهوال العظيمة، والمشاهد الكبيرة، والأوضاع المتنوعة التي لم يشاهدها الناس من قبل، بحيث إن التصوّر لا يبلغ مداها.

وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في تهاويلها الحقيقية الكامنة في الغيب، ليدفعه ذلك إلى مواجهة الموقف الذي يطلّ عليها في ساحة العمل بكل جدّيةٍ ومسؤولية، في ما يقبل عليه من حسابها العسير أمام الله.

* * *

عاد وثمود تكذبان بالقارعة

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} وهذا هو الاسم الآخر ليوم القيامة، ولكن من جانب آخر، فهي ـ كما قيل ـ تقرع وتدكّ السماوات والأرض بتبديلها، والجبال بتسييرها، والشمس بتكويرها، والقمر بخسفه، والكواكب بنثرها، والأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات. وربما أريد من معناها أنها تقرع السمع والقلب بأهوالها التي تجعلهما يرتجفان في أجواء الرعب والهلع، كما تقرعهما عندما يتذكران تأثيرها على الحياة العملية، ولعلّ هذا أقرب من المعنى الأول، لأن التعبير موجّه ـ على الظاهر ـ للإنسان في تأثيره على مشاعره في حركته في الحياة.

ولكن هذه القارعة كانت محل تكذيب لبعض الأمم السابقة كعاد وثمود، لأنها لم تتوفّر على التأمل في طبيعة الموقف، وفي احتمالاته، وهل هو ممكن بذاته أم لا، هذا فضلاً عن التأمل في طبيعة المعطيات التي تؤكده في ما تثيره من نفي عبثية الخلق، لتوحي بأن الجدّية هي في المسؤولية عن أعمالهم الخيّرة والشريرة. وهكذا كانت الغفلة المطبقة على عقولهم بفعل الاستغراق في خصوصياتهم التي دفعتهم إلى التكذيب السريع، لأنهم لا يريدون أن يخرجوا من عاداتهم وتقاليدهم، ولا يوافقون على إتعاب أنفسهم في البحث والتحليل، بل يريدون للحياة أن تستمر في امتدادها على الطريقة التي كانت عليها في عصور أجدادهم من دون تغيير أو تبديل.

ولم يتركهم الله لتكذيبهم، لأن ذلك قد يترك تأثيره على الحياة عندما يمتدّون في السيطرة عليها، ليمنعوا الناس من الإيمان من خلال تعاظم قوتهم في الضغط على من حولهم، وهكذا أنزل الله عليهم العذاب.

* * *

هلاك ثمود بالطاغية

{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ} وهي الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة، حسب اختلاف التعبير القرآني عن طريقة عذابهم، وربما كانت الرجفة من تأثير الصيحة أو الصاعقة، وقد تكون الصيحة من نتائج دويّ الصاعقة التي قد تكون الأقرب في العذاب. أمّا التعبير عنها بالطاغية، فقد يكون من خلال تجاوزها الحدّ الطبيعي في تأثيرها على الناس في مقابل الصيحة العادية أو الرجفة العادية، أو ما إلى ذلك. وهكذا بالنسبة إلى الصاعقة التي قد تصعق فتذهب بالوعي بشكلٍ خفيفٍ أو موقت، وقد تذهب بالحياة كلها.

وقيل: «الطاغية مصدر كالطغيان والطغوى، والمعنى: فأما ثمود فأهلكوا بسبب طغيانهم، ويؤيده قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ}»[1] [الشمس:11]، ولكن الظاهر خلاف ذلك، بالنظر إلى الآيات التالية التي تعرّضت لكيفية إهلاك الأمم الأخرى حسب الوسائل المتنوعة في ذلك.

* * *

إهلاك عاد بريح صرصر عاتية

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} الصرصر: هي الريح الشديدة الهبوب، والعاتية: من العتوّ، وهو تجاوزها الحدّ بحيث تتمرد على الانقياد فتطغى على الجوّ كله فتغيّره إلى وضعٍ جديد وتبدّلّه إلى الأسوأ.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وهي أصول النخل التي تتحوّل إلى أخشاب لا تحمل في داخلها شيئاً، فلا تملك حياةً فيما هو النموّ، ولا تملك صلابةً لفراغ داخلها. وهذا هو ما حلّ بهؤلاء الناس الذين ضغطت عليهم الرياح الباردة الشديدة الطاغية التي خرجت عن المألوف، وكانت مستمرة طيلة هذه الأيام والليالي، متكررة في عددها، وهذا ما توحيه كلمة الحسوم التي هي ـ كما قيل ـ تكرار الكيِّ مراتٍ متتالية، {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} فقد استوعبهم العذاب، فلم يبق منهم أحد.

* * *

هلاك قوم فرعون ولوط ونوح

{وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} من الأمم المتقدمة عليه زماناً {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} وهي قرى قوم لوط، والمقصود بها أهلها، {بِالْخَاطِئَةِ} حيث سلكوا الطريق الخطأ الذي ابتعدوا فيه عن عبودية الله وعن الالتزام بطاعته بعد إقامة الحجة عليهم من قِبَل الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم.

{فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} والمراد بالرسول: المرسل إلى كل واحدٍ منهم، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي مرتفعة زائدة، كما هي الرابية، وهو كناية عن العقاب الشديد الذي يزيد عما هو المتعارف من العقوبة، من خلال انتهائه إلى الهلاك.

{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} في طوفان نوح الذي أهلك الله به القوم الكافرين، {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أيها المؤمنون، لأن الله أراد للحياة أن تبدأ عهداً جديداً في خط الإيمان به وبرسله وباليوم الآخر.

{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} في ما تفتح به قلوبكم وعقولكم على ما يؤاخذ الله به عباده الذين يمتدّون في الطغيان، حتى لا يبقى هناك مجالٌ للرحمة عندما يتحوّلون إلى سدٍّ قويٍّ أمام الإيمان، بحيث يحُوْلون بين الناس وبينه، كما يخلِّص الله عباده المؤمنين عندما يتمرّدون على كل الضغوط الشديدة التي تضغط عليهم، فلا يزيدهم ذلك إلا إصراراً والتزاماً بالله في كل تعاليمه، ليفكر الإنسان في ذلك كله، ليتذكر حقائق الأشياء حتى لا يستسلم للغفلة التي تقوده إلى الضلال.

{وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فلا تسمع الكلمة بطريقةٍ سريعةٍ انفعالية، بحيث لا تتوقف عند مدلولاتها بعمق، ولا تنفتح على آفاقها بشمولية، ولا ترصد إيحاءاتها بمسؤولية، بل تسمعها سماع الوعيَّ الذي يريد أن يؤكد للإنسان شخصيته الثقافية المنطلقة في خط العقيدة المسؤولة، والحركة الواعية، والهدف الكبير، لأن الله يريد للإنسان أن يرتفع إلى مستوى المعرفة العالية التي تربطه بالله، وتربطه بحقائق الأشياء كلها من خلاله. ولا يكون ذلك إلا بالاستماع إلى كلام الله في ما يتضمنه من دروس وعبرٍ، بالأذن الواعية التي لا تكتفي بالكلمة التي ترنّ في داخل طبقات السمع، بل تنطلق بها إلى العقل الذي يضعها في نصابها الصحيح في دائرة المعرفة، ليتكامل السمع والعقل في تحقيق النتائج الحاسمة للمعرفة، لتعطي الأذن المادّة الخام، ويتحرك العقل في تصنيعها وربطها بغيرها مما لديه من مفرداتٍ كونيّةٍ وإنسانيّةٍ، ليدفع بالمسألة الفكرية إلى الوعي العملي للإنسان، فيحركها في واقع الحياة، لتستقيم الحياة لديه في خط الفكر والحركة.

وهكذا نستوحي من هذه الآية أن المفروض في الإنسان المؤمن أن يتحرك في مسموعاته التي هي نموذجٌ لكل أدوات الحس، من منطق الوعي الذي يحدّق بالأشياء أو يلمسها أو يسمعها، من خلال النافذة التي تطل على عقله،ولا تتجمد في زوايا الحسّ المحدود.

ــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:19، ص:410.