من الآية 38 الى الآية 52
الآيــات
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ* وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ* تَنـزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ* وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ* وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَـفِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (38ـ52).
* * *
معاني المفردات
{الْوَتِينَ}: عرق يسقي الكبد، وقيل: هو نياط القلب.
* * *
القرآن هو حقّ اليقين
وهذا حديث عن القرآن الذي أثار المشركون حوله كثيراً من الأحاديث التي أرادت إبعاد القرآن عن أن يكون وحياً من الله من خلال إبعاد النبي عن صفة الرسالة، ومحاولة التأكيد على صفة الشاعر أو الكاهن في شخصيته.. فكانت هذه الآيات لتقرير الحقيقة الرسولية في صفته، ولتأكيد الوحي في النص القرآني الذي يقدّمه النبي بصفته الرسولية، بعيداً عن أيّة صفةٍ أخرى.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} من المخلوقات التي قد تشاهدها العين، وقد لا تشاهدها، أو من عالم الغيب والشهادة في ما خلقه الله من ذلك.
وربما استفاد البعض من التركيز على {وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ}، أنها إشارةٌ إلى المخلوقات الدقيقة الموجودة في هوامِّ الفضاء أو في الماء أو في أعماق الأرض، مما لا يستطيع الإنسان أن يدركها بالبصر، بل يحتاج إلى استعمال الوسائل التي تكبِّر حجم الأشياء من المناظير المكبِّرة، مما لم يهتدِ الإنسان إليها إلا بعد اكتشاف هذه الوسائل. ورأى أن الحديث عنها من إعجاز القرآن الذي أشار إلى ما لم يكتشفه الإنسان إلا بعد مئاتٍ من السنين، من الميكروبات وغيرها من الهوامّ والحشرات.
وقد جرى الحديث عن القَسَم بها لتوجيه الأفكار إلى التعمّق في أسرارها للوصول بذلك إلى عظمة الله. وقد جاء الحديث عن نفي القَسَم بها على أساس أن المسألة لا تحتاج إلى القسم باعتبار أنها حقيقةٌ واضحةٌ. وربما احتمل البعض أن كلمة «لا» زائدة وأن المراد أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ينطلق بالقرآن في تبليغه وتلاوته من خلال صفته الرسالية، ما يعني أنها رسالة الله إلى الناس التي أمر رسوله بأن يبلّغهم إيَّاها {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} لأن للشعر قواعده التي لا تلتقي بالأسلوب القرآني.
{قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} يحتمل أن يكون هذا إشارةً إلى قلّة عدد المؤمنين منهم بالقرآن، كأسلوبٍ من أساليب التوبيخ، ويحتمل أن يكون إشارةً إلى أن الاتهام بالشعر يراد من خلاله الإيحاء بترك الإيمان به، باعتبار أن الناس قليلاً ما تؤمن بقول الشاعر لأنه لا ينطلق لديهم من موقع الحقيقة.
{وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} من هؤلاء الكهّان الذين يعتقد أهل الجاهلية أنهم يأخذون معلوماتهم من الجنّ، وبذلك يكون القرآن قولاً يلقيه الجنّ إليهم، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي لا يتذكر به أحدٌ منكم إلا القليل، أو لا ينطلق التذكر من خلاله، لأنه إذا كان قول كاهن يستمد كلامه من الجن فلا يملك القداسة التي تدفع إلى التذكر من خلال الروحية التي يحملها الكلام.
* * *
القرآن تنزيل من رب العالمين
{تَنـزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} فهو وحده الذي خلقه وأنزله على رسوله، ليكون نوراً للعالمين من الجنّ والإنس في ما ينبغي لهم أن يأخذوا به في نظام حياتهم على مستوى المفاهيم والمناهج والأحكام في الشؤون العامة والخاصة.
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ} بحيث زاد النبي كلاماً من عنده ونسبه إلى الله {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو يمنع بالقوة من القيام بما يحتاج إلى استعمال اليد، أو قطعنا يده اليمنى أو نحو ذلك.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وهو ـ كما قيل ـ عرق يسقي الكبد، وإذا انقطع مات صاحبه، وقيل: هو رباط القلب، فيكون التعبير على كل حال كنايةً عن قتله بقطع ما يعتبر شرياناً للحياة، ولن يستطيع أحدٌ أن يخلّصه من ذلك {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} لأن الله إذا أراد أمراً فلا يمكن لأحدٍ من عباده مهما كانت درجة قوته أن يحول بينه وبينه.
وهكذا كانت الآيات حاسمة في مسألة تحريف القرآن بالزيادة عليه، بحيث لو كان النبي محمد(ص) هو الذي يقوم بذلك لتعرض لجزاء الله ولكنه(ص) الصادق في كلامه، لا يقول إلا حقاً وصدقاً، الأمين على كل شيء، لا سيّما على وحي الله، فلا يزيد فيه شيئاً، ولا يخون أمانة الله في كتابه، بل يقدّمه إلى الأمة كلها كما أنزله الله مصوناً من أيّة زيادة ومن أي نقصان.
* * *
القران تذكرة للمتقين
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يعيشون روحية التقوى في حياتهم الفكرية والعملية، ويحرصون على أن يكون كل ما يؤمنون به أو يلتزمون به مطابقاً لرضى الله في وحيه ولرضى رسول الله في شريعته، فيقرأون الكتاب المنـزل من الله، فيجدون فيه التذكرة من كل غفلة والوعي من كل جمود، فيستقيمون به على الخط المستقيم، ويرتفعون به إلى الدرجات العليا في معرفة الله وفي الإخلاص لدينه وفي الجهاد في سبيله.
أمّا غير المتقين، فقد أراد الله أن يفتح لهم باب التقوى من خلال كتابه، ولكنهم رفضوا ذلك، لأنهم لم ينطلقوا في حياتهم من مراقبة الله في أمره ونهيه، ولم يحرّكوا فكرهم في ما يتمثل في كتاب الله من المعرفة الحقة التي تخطط للإنسان نهج الحق وطريق الصدق، فانحرفوا عن الخط، واتبعوا الضلالة العمياء.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} يواجهونه بمنطق التكذيب الذي لا يرتكز على حجة، ولكن ذلك لن يضر الإسلام شيئاً، ولن يمنع كتاب الله أن يفرض نفسه على الحياة في خط المعرفة وطريق الالتزام.
* * *
القرآن حسرةٌ على الكافرين
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} الذين سيواجهون الحسرة يوم القيامة عندما يميّز الله بين المصدقين والمكذبين، ليدخل الصادقين المصدقين في جنته، ويدخل الكاذبين المكذبين في ناره.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} الذي يتمثل عمق الحق الذي يوحي باليقين، فلا يعتريه الريب من أيّ جانب كان، بل يشرق بالنور في قلب الإنسان وعقله، ليمتدّ بالطمأنينة في حسه وشعوره.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } الذي أنزل الكتاب بالحق، كما خلق السماوات والأرض بالحق، وأراد للإنسان أن يتحرك في حياته على نهج الحق،ليلتقي بالله غداً في دار الحق التي وعد بها عباده المتقين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير القرآن