المقدمة + من الآية 1 الى الآبة 14
سورة نوح
مكية، وهي ثمان وعشرون آية
في أجواء السورة
وهذه السورة المكية نزلت على النبي محمد(ص) والمؤمنين معه، وهو يعاني من قسوة النتائج السلبية التي واجهها نتيجة إصراره على دعوة الحق في دين الله، في ما عاناه من المشركين المتمردين على دعوته من ضغطٍ وتهويلٍ واتهامٍ غير مسؤول، وسبابٍ وحصارٍ ومحاولةٍ للطرد من بلده ونحو ذلك. فكانت هذه السورة حديثاً عن نوح ـ النبي ـ الداعية الذي عاشت تجربته الرسالية ما يقارب الألف سنة، وحاول من خلالها أن يثير أمامهم كل الأساليب الحكيمة المقنعة التي تفتح قلوبهم على الله وعلى خط التقوى في الإيمان به، وعلى أجواء العبادة التوحيدية في عبادته، وعلى طاعة الرسول الذي يدعوهم إلى الاستجابة للوحي الذي يخطط لهم نهج الحياة السليم، من خلال اطِّلاع الله على ما يحتاجونه من الأمور التي تخدم حياتهم وترتفع بهم إلى الدرجات الرفيعة، كما يدفعهم إلى السير في خط القيادة في ما تتحرك به الحياة من تفاصيل كثيرةٍ تحتاج إلى الهدى التفصيلي في تعليمات القائد، وفي توجيهات الرسول.
وهكذا كانت دعوته بسيطةً بساطة العقيدة التوحيدية في طبيعتها ونهجها وإيحاءاتها وصفاء النور المشرق في داخل مفاهيمها، وكانت إرادته الرسالية في دعوته التغييرية أقوى من كل الضغوط الداخلية التي تضغط على مشاعره، والضغوط الخارجية التي تضغط على حريته في حركته. فلم يسقط أمام كل القوى الطاغية، بل حاول أن يفتح عقولها على الحق من دون أن ينفذ اليأس إلى قلبه، لأنه كان يرى من مسؤولية الداعية أن يتحرك في اتجاه المواقف العنيدة المتحجرة ليفتح ثغرةً في داخلها هنا وثغرة هناك، لأن النفس الإنسانية مهما تحجرت فإنها تبقى قريبةً للكلمة الحانية والأسلوب الجميل والروح الرسالية الواعية في دائرة أَفكارها ومشاعرها، فإنه ما من إنسانٍ إلاَّ وفي داخله بعض مواقع الصفاء ومنطلقات الخير التي يمكن للداعية أن يستثيرها وينفذ منها ليبعث الإيمان في القلب، والتقوى في الموقف.
* * *
دعوة لتدمير المجتمع المتمرّد
وهكذا كانت تجربة نوح ـ النبي ـ من التجارب الفريدة في تاريخ النبوّات، فقد كانت كلمات الرسالة كلماتٍ محدودةً في ما حدثنا الله عن عناوينها، لأن الحياة ـ كما يبدو ـ لم تكن معقّدة آنذاك، فلم تكن بحاجةٍ إلى شريعةٍ تفصيلية واسعة. وكان يكرّر الكلمات في أسلوبٍ متنوّعٍ من دون مللٍ ولا كلل، وكانوا يكرّرون الرفض في أسلوب واحدٍ. وكان ينتهز كل فرصةٍ ليدخل معهم في حوارٍ، وكانوا يرفضون ذلك، حتى أنهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويغطون وجوههم، ويعلنون الإصرار على موقفهم المتمرّد، للإيحاء له بأنهم ليسوا مستعدين لاحترام موقعه وموقفه معهم، فضلاً عن احترام دعوته والإيمان بها، حتى وصل إلى نهاية التجربة التي لم يترك أيّ بابٍ من أبوابها إلاّ ودخل فيه، ولم يدع أسلوباً من أساليب الإِقناع إلاّ واستعمله، فكان تقريره النهائي الذي قدّمه إلى الله ـ سبحانه ـ في نهاية التجربة الطويلة المريرة، دعوةً إلى تدمير كل هذا المجتمع، لأن المسألة لم تعد تحتمل التجربة الجديدة بعد استنفاد كل التجارب، وأصبح الواقع الكافر يمثل أعلى مستوى من الخطورة على الأجيال القادمة التي سوف تعيش في مجتمع مغلقٍ على الكفر، ممنوع من الانفتاح على الإيمان، بفعل مراكز القوى المتحالفة ضد الرسالة والرسول.
وهذا هو ما فكر فيه نوح النبي الداعية، عندما دعا الله أن لا يدع من الكافرين ديّاراً، فقد أثار بعدها الحيثيات الواقعية التي تؤكد ذلك: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} ولهذا فلم تكن القضية لديه قضية اليأس الطارىء في ما يمثله من الحالة النفسية المتعبة التي يعيشها بعض الدعاة عندما يواجهون التمرّد العنيف القاسي من الناس الذين يحيطون بهم، بل كانت القضية لديه قضية الواقعية العملية التي استكملت كل عناصر التجربة، فلم تجد هناك أيّ مجالٍ لتجربة جديدةٍ توحي بالأمل، بينما كان الدعاة الآخرون اليائسون يمتلكون الفرصة في أكثر من تجربةٍ قادمةٍ في ما يختزنه مستقبل الدعوة من التجارب الواقعية، ما يجعل من تجربة نوح التجربة الرائدة التي تمثِّل الإصرار على السير في الدعوة بعيداً عن كل تهاويل اليأس الذاتي الذي ينطلق من الملل والتعب وحبِّ الابتعاد عن الضغوط والتحدّيات المضادّة.
* * *
نموذج نبوي
وهكذا قدّم الله لرسوله وللمؤمنين معه ومَنْ بَعْدَه هذه التجربة الرسالية، ليجدوا فيها النموذج الأمثل الذي يصرّ على الاستمرار في الدعوة إلى نهاية المطاف، من دون أيّة حالةٍ صعبة من التعب النفسي، فقد نلاحظ فيها أن نوحاً النبي الداعية لم يتعب ولم يطلب من الله السماح له بالابتعاد عن ساحة الدعوة، بل طلب منه تدمير هذا المجتمع، وخلق مجتمع جديد ينفتح على الرسالة لتنفتح الرسالة عليه في تجارب جديدة نحو واقعٍ إيمانيٍّ متحركٍ في خط الإيمان والتقوى والطاعة.
وقد نحتاج إلى أن نستوحي هذه السورة التي تتميز بأسلوبها الذي ينطلق فيه النبي ليقدم تقريره إلى الله بأسلوب الدعاء، لينتظر أوامره الجديدة في المرحلة المقبلة على أساس ذلك، لنجعل منها وثيقةً رساليةً حيّةً نتعلم فيها الصبر والمعاناة والاستمرار في الدعوة إلى الله، حتى نستفيد من التجارب كلها، كما نأخذ منها التجربة الروحية التي يلجأ فيها الداعية إلى ربه، ليستلهمه الرأي السديد والروحية الصافية المنفتحة على مواقع رضاه، وليفتح قلبه له، ليشهده على أنه لا يزال في الموقع الرسالي، بالرغم من كل أثقال الضغوط التي تسيطر عليه من كل جانب.
ـــــــــــــــــ
الآيــات
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَنِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً* مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (1ـ14).
* * *
معاني المفردات
{جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}: كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته.
{وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ}: أي: غطوا بها رؤوسهم ووجوههم.. وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع.
{جِهَاراً}: النداء بأعلى الصوت.
{أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ}: متقابلان وهما: الإظهار والإخفاء.
{مُدْرَاراً}: كثير الدرور بالأمطار.
{وَيُمْدِدْكُمْ}: إلحاق المدد، وهو ما يتقوى به المُمَدّ على حاجته.
{لاَ تَرْجُونَ}: الرجاء: هو ما يقع مقابل الخوف، وهو الظن بما فيه مسرَّة.
{وَقَاراً}: الوقار: العظمة.
{أَطْوَاراً}: جمع طور، وهو حدُّ الشيء وحاله التي هو عليها.
* * *
الإنذار في خلفياته التاريخية والفكرية
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأنهم كانوا مقيمين على الشرك، رافضين لعبادة الله، سائرين على خط الأهواء الضالة التي تدفعهم إلى الانحراف عن التوازن في أوضاعهم العامة والخاصة على مستوى العقيدة والعمل.
وقد يكون الإنذار ناشئاً من تمرّدهم على رسالات سابقةٍ على رسالة نوح في ما تمثلّه من قيام الحجة عليهم بها، الأمر الذي يجعلهم في موقع العذاب الذي يستحقه كل رافض للرسالات بعد إبلاغه إياها، من دون أن يملك أيّة حجةٍ على الرفض.
وقد تكون المسألة منطلقةً من الحجة العقلية التي تتمثل بالفطرة في ما توحي به من الإيمان بالله وبتوحيده، ومن الانفتاح على مراقبته في ما تفرضه من مواقع رضاه في السلوك الذي تدفع إليه الفطرة التي هي بمثابة الرسول الباطني.
وقد نستطيع استيحاء وجود حالةٍ دينيّةٍ في الواقع التاريخي السابق على رسالة نوح من قصة ابني آدم اللَّذين {قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأقتلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِني أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:27 ـ 29] وهكذا نفهم من ذلك وجود مفهوم دينيّ واضح عن القربان المرفوع إلى الله، وعن التقوى وعن السلوك الأخلاقي الذي يدفع إلى رضى الله، في مقابل السلوك غير الأخلاقي الذي يدفع إلى سخطه وإلى دخول النار. ولا بد من أن يكون هذا المفهوم ممتدّاً في مستقبل الناس بعد ذلك، في ما يمثله الوجدان الديني من حالةٍ عامة في المجتمع آنذاك، ما يجعل من الصعب زوالها واندثارها. وبذلك يمكن أن يكون هذا الوجدان قد تنامى بفعل إرسال الرسل الذين لم يقصص الله علينا تاريخهم، مع ملاحظةٍ مهمّةٍ، وهي أن الله لا بد من أن يقيم الحجة على عباده، بإرسال الرسول قبل أن يعذبهم، وذلك ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وربما نستوحي وجود رسلٍ غير نوح من قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان:37] فإن الجمع يفرض ذلك. وقد ورد الحديث عن أبي جعفر الباقر(ع) في ما رواه صاحب كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة قال: "كان بين آدم ونوح عشرة آباء كلهم أنبياء".
وربما كان الإنذار بالعذاب باعتبار ما يأتي بعد إرسال نوح إليهم وإبلاغهم رسالة الله ليؤمنوا بها، لأنهم سيواجهون العذاب عند الانحراف عنها.
أمّا اختصاص رسالته بقومه، فقد يكون بلحاظ أنهم القاعدة الأولى التي تتحرك في داخلها الرسالة، كما ورد التعبير بذلك عن كثير من الأنبياء أولي العزم الذين قيل إن رسالتهم تتعدّى محيطهم.
* * *
النذير المبين
{قَالَ يا قَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} في ما أرادني الله أن أحذّركم من عقابه الذي ينزل على الجاحدين بربوبيته وتوحيده، المنحرفين عن عبادته، وذلك من خلال الحجة الواضحة التي لا غموض فيها ولا ضعف في دليلها، {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} في ما تمثله العبادة من الخضوع لله في كل شيءٍ، بحيث تكون الحياة كلها في وجودكم العملي خاضعة له، منقادةً لإِرادته، {وَاتَّقُوه} في ما تمثله التقوى من الحالة العقلية التي تراقب الله كحقيقةٍ تفرض نفسها على الجانب العقلي للإنسان، ليكون ذلك أساساً للمراقبة المسؤولة التي تقود إلى السلوك المسؤول، وفي ما تثيره من الحالة الشعورية التي تزحف إلى وجدان الإنسان وشعوره، فتهزّ الإحساس بالخوف الشعوري من الله ومن عقابه، حتى يتحوّل ذلك إلى موقفٍ للطاعة في حركة الإنسان في الالتزام العملي.
{وَأَطِيعُونِ} باعتبار أنه الرسول القائد الذي يقود خطاهم إلى الخط المستقيم، في ما يمكن أن يبلّغه من الأوامر والنواهي التي أراد الله له أن يبلغهم إيّاها، وفي ما يمكن أن يحرِّك أوضاعهم التفصيلية في مجال التطبيق للنظرية في تفصيلات الحياة وجزئياتها، وفي ما تتحرك به القيادة من تدريب الناس على طريقة احتواء النظرية العامة في الحياة الواقعية، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} التي بدأتموها بالكفر، وحركتموها في أوضاع التمرد والجريمة في سلوككم العملي المنحرف عن الخط الصحيح. فإن الإيمان السائر على خط العمل يهيىء للغفران الإِلهي الذي يناله المؤمنون بالله العاملون في خط طاعته، فلا يبقى للماضي الأسود أيّ تأثير على مصيرهم المستقبلي في رحمة الله، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فلا يستأصلكم بعذابه، بل يمهلكم إلى الأجل الطبيعي الموعود المحدَّد لكم في وجودكم الخاص، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} فهو الذي حدّده في عملية تحديد جزئيات الوجود.
ويمكن أن يكون المراد بالأجل يوم القيامة الذي سوف يأتي بحتميته في وقته الحاسم الذي لا مجال لتخلّفه وتأخره، {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} بالحقائق النهائية الحاسمة التي لا يمكن أن تنحرف عن دائرتها الواقعة في حركة الوجود المنطلق من إرادة الله.
* * *
النبي نوح يقدم تقريره النهائي إلى الله
{قَالَ رَبِّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} فلم تشغلني أوضاع النهار ومشاغله عن الدعوة إليك، كما لم يبعدني الليل في راحته الاسترخائية التي تدفع إلى النوم عن ذلك، لأنني أعتبر مسألة الرسالة مسألةً حيويّةً تفرض على الرسول أن يتابع إبلاغها وتحريكها في حياة الناس، لحظةً بلحظةٍ، من خلال مراقبته للأوضاع التي يعيشونها في نقاط ضعفهم وقوّتهم، ليستفيد من أيّة حالةٍ عميقةٍ أو طارئةٍ، في سبيل الوصول إلى قناعات الناس الفكرية والروحية التي تتغير وتتبدل، تبعاً لما يحيط بهم من أوضاع، ولما تحفل به حياتهم من متغيّرات، لأن الإنسان قد يقتنع في الصباح على أساس بعض الأوضاع النفسية أو بعض الأحداث الطارئة بما لا يتأثر به في المساء، باعتبار اختلاف الأوضاع والأحداث، ما يجعل الرسول أو الداعية في حالة ملاحقةٍ دائمةٍ ورصدٍ دقيقٍ لحركة الناس اليومية، فلعلّ ذلك الإصرار على التبليغ في مدار الساعة يحقق شيئاً من التقدم في قناعاتهم. ولكنّ قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك، لأنهم قرروا الرفض الحاسم للرسالة وللرسول، فأغلقوا آذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير، وألسنتهم عن الحوار. وهذا ما عبر عنه نوح في تقريره الرسالي إلى ربه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً} من الحقيقة الدامغة التي تفرض نفسها عليهم، وتنفذ إلى عقولهم، وتنساب في مشاعرهم، وتطبق على وجودهم، فيفرون منها كما لو كان هناك خطرٌ كبيرٌ يتهدّدهم ليخرجهم من واقعهم الذي اعتادوا عليه، ويُربك عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من أجدادهم، ولذلك فإن الرسول الماثل أمامهم يمثل الرمز لهذا الخطر، فيفرون منه وهو الضعيف بينهم في نظرهم، كما لو كان يريد الإطباق عليهم لافتراسهم.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بدعوتهم للسير في خط الهدى بالتزام الإيمان بالله {جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} خوفاً من أن تنفذ كلمات الرسالة إلى أسماعهم، فتمتد في عقولهم، وتأخذ عليهم قناعاتهم، فيتصورونها كما لو كانت مطارق صاخبة تثير الضجيج الشديد في آذانهم، فيغلقون آذانهم عنها {وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} فغطوا وجوههم بثيابهم ليتفادوا رؤية الرسول الذي يجسّد لهم الخطر القادم من الرسالة ضد الواقع الذي يحرسونه بكل وجودهم، {وَأَصَرُّواْ} على الكفر والضلال، {وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً} في ما توحيه إليهم أوضاعهم المالية والاجتماعية من الكبرياء التي تجعلهم يستعلون على مَنْ حولهم من الناس الضعفاء الذين لا يملكون مالاً ولا موقعاً اجتماعياً متقدماً بين الناس، فيقودهم الاستكبار إلى رفض الأفكار الرسالية التي توحّد بين الناس وتساوي بينهم في إنسانيتهم، وتلغي الفروق الطبقية فيما بينهم، لا سيّما إذا كان الذين يحملون هذه الرسالة من المستضعفين الذين هم أدنى الناس في الطبقة الاجتماعية، أو كان رسولهم من بين هذه الجماعة. وهكذا نرى أن القرآن يتحدث عن الكافرين في كفرهم ليوحي بأن الاستكبار لمِا يمثّل من عقدةٍ ذاتيةٍ لدى المستكبرين هو المسؤول في كثيرٍ من الحالات عن كفر الكافرين، لأن الحالة النفسية قد تترك تأثيراتها الضاغطة على واقع الناس الفكري والعملي، باعتبار أنّ الإنسان يخضع في نشاطاته الداخلية والخارجية للعوامل النفسية المعقّدة.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} بالصوت العالي المسموع الذي ينفذ إلى أسماعهم بقوّة، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} بالطريقة العلنية التي تملك الوضوح في الحياة العامة بحيث لا تخفى على أحدٍ {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالطريقة السرية التي كانت تتم بالتشاور والتناجي مع جماعةٍ معينين في دائرةٍ اجتماعيةٍ ضيّقةٍ من هؤلاء الذين يملكون التأثير على الناس التابعين لهم، أو من الذين يخافون إعلان مواقفهم في ما كانوا يريدونه أو يدّعونه من مواقف، فيطلبون أن يكون اللّقاء سرّياً حتى لا يفتضح أمرهم عندما يريدون اتّباع الرسالة والعمل على تأييدها، لئلا يكون لأحد حجّةٌ في الامتناع عن الإيمان على أساس ظروفه الخاصة التي قد تلتقي بالحاجة إلى الإعلان تارة، وإلى الإِسرار أخرى.
* * *
كيف كان نوح يدعو قومه؟
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} فهو الإِله الغفّار الذي يمنح عباده الفرصة للرجوع إليه، ويدعوهم إلى الاستجابة له، ليرجعوا إلى الحق الذي يكفل لهم رحمة الله ومغفرته ورضوانه، لأن القضية ليست قضية كلمةٍ تقال، بل هي قضية موقفٍ ثابتٍ حاسم، والمقصود بالذنب الذي يدعوهم إلى الاستغفار منه، هو الكفر أو الشرك وما يتفرع عنهما على صعيد الأعمال التي تبتعد عن مواقع رضى الله.
{يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً} أي ينزل عليكم المطر الغزير من السحاب المرتفع في الفضاء الأعلى، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} لأنه مصدر الرزق كله، ومصدر الخلق كله، {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} في ما تمتد بها الخضرة الحافلة بألوان الزرع من فاكهةٍ وثمارٍ وعشبٍ ونحو ذلك، {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} تجري في الأرض من الينابيع التي أودعها الله في أعماقها، أو من الثلوج التي جعلها الله في أعالي الجبال، فتبدع الخصب والرخاء، وتحيي الأرض بعد موتها.
* * *
العلاقة بين الإيمان وإنزال هذه النِعَم!
ولعلَّ هذا الربط بين الإيمان الذي يعبّر عنه الاستغفار، وبين إنزال الله هذه النعم التي تمثل حاجاتهم الحيوية العامة، ناشىءٌ من أنَّ الإِيمان الخالص يجعل الناس موضع رحمة الله في ما ينزله عليهم من ألطافه وفيوضاته، مما قد يزيد من حجمها وامتدادها. كما أنّ الانحراف عن الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي قد يقلّل من نعم الله، ويؤدي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان، وبذلك فإن نوحاً(ع) ربما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله من موقع الإيمان به في حياة الناس العامة على مستوى النعم التي يحتاجونها. وربما كان الأساس في ذلك هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأن الله هو وحده المهيمن على الكون كله في ما يشتمل عليه من الظواهر المتصلة بالحياة الإنسانية، ليرتبطوا به من موقع النعمة، كما يرتبطون به من موقع القدرة والعظمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى الجانب الإيجابي في هذا المجال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} [الأعراف:96] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ولأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65ـ 66] وقوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 2 ـ 3].
أمَّا في الجانب السلبي، فقد جاء في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقوله تعالى:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].
* * *
في خلقكم أطواراً سرّ عظمة القدرة الإلهية
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي لا تأملون له توقيراً، أي تعظيماً، وقد يبدو أن الرجاء هنا واردٌ على سبيل الكناية، باعتبار ما يمثله الرجاء من محبة الشيء المرجوّ، والالتزام به، في ما يمثله من مواقع الالتزام. وبذلك يكون المقصود ـ والله العالم ـ ما لكم لا تلتزمون مواقع العظمة لله في ما تفرضه من توقير لمقامه بالإيمان بالله والالتزام بأوامره ونواهيه.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي خلق كلَّ واحدٍ منكم تاراتٍ متنوّعةٍ، وذلك في ما تعبر عنه الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل العظمي إلى الخلق الكامل، أو في ما تعبر عنه مراحل النموّ الإنساني من الطفولة إلى الشباب، إلى الشيخوخة.
وربما يكون المراد تعدّد الأطوار بتعدّد الأشخاص والجماعات في اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأوضاعهم الجسدية المتنوّعة.
ولا بد لهذا التنوّع العجيب في خلق الإنسان من دلالاتٍ وجدانيةٍ فكريةٍ على سرّ العظمة في القدرة الإلهية التي تخلق ما تخلق من دون مِثال، وتُبدع الألوان والأوضاع والأحجام المختلفة من نطفةٍ مماثلةٍ لا تختلف أشكالها ولا طبيعتها ولا أحجامها، فكيف انطلق التعدد من الوحدة؟
تفسير القرآن