تفسير القرآن
نوح / من الآية 21 إلى الآية 24

 من الآية 21 الى الآية 24
 

الآيــات

{قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً* وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً* وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً}     (21ـ24).

* * *

معاني المفردات

{كُبَّاراً}: اسم مبالغة من الكبير.

{وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}: خمسة من آلهة قوم نوح كان لهم موضع اهتمام خاصّ.

* * *

نوح يتحدّث عن دور المترفين في إضلال الناس

كيف كان ردّ فعل قوم نوح على كلماته الهادئة الهادية، وما هي المؤثرات السلبية التي كانت تترك تأثيراتها المضادة على موقفهم منه؟

{قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} وابتعدوا عن الاستجابة لكل المنطق العاقل المتّزن الذي كنت أثيره في عقولهم، وعن الالتزام بكل النصائح التي أقدّمها لهم، لأن مشكلتهم أنهم لا يملكون منطق العقل الذي يدفعهم إلى التفكير العميق، أو لا يريدون تحريك هذا المنطق في حياتهم الفكرية أو العملية، بل عملوا على تجميد حركة الوعي في وجدانهم، كما أن مأساتهم هي أنهم لا يعيشون الجدّية التي هي قضية المسؤولية العملية في سلوكهم الأخلاقي في جميع المجالات، بل كل ما لديهم هو أنهم يخضعون لسلطة المال، فينبهرون بمظاهره وزخارفه وخيلاء أصحابه وكبريائهم، كما يعتبرون كثرة الأولاد قيمةً اجتماعيةً لدى هؤلاء الناس الذين يستغرقون في كثرة أموالهم وأولادهم حتى يضلّوا عن السبيل.

{وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} لأنه استغرق في ذلك حتى ضلّ عن معرفة الحقيقة التي تشرق في وجدان المنفتحين على الله وعلى النور القادم من وحيه.

وهكذا تطوّر الأمر به، أي بالذي «لم يزده ماله وولده إلا خساراً» إلى أن اجتذب المستضعفين من الفقراء والمحرومين، أو من المنبهرين به من سائر الناس، فمنعهم عن الاستجابة للرسالات السماوية التي تزرع القيمة الروحية في الحياة، ليكون التفاضل بالعلم والعمل الصالح بعيداً عن كل الأمور المادية، فتبعد الناس عن القيم الروحية التي تعمِّق في الإنسان شعوره بإنسانيته، وتدفع الجميع إلى المعاملة الإنسانية على صعيد العلاقات العامة.

* * *

مكروا ليضلّوا الناس

{وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} وبدأوا يخططون بكل ما لديهم من أساليب شيطانيةٍ للإِجهاز على الرسالة وصاحبها، وأثاروا الكثير من التهاويل حولها، وامتدت الحيل والمؤامرات لتحاصر كل وجودها، لأنهم شعروا بالمنطق الإيماني يمتدّ إلى عقول الناس البسطاء الطيبين، فأرادوا بالمكر الكبير جداً أن يعطّلوا ذلك الامتداد، ويبطلوا تأثيره على صعيد الواقع الجديد. وكان من تلك الأساليب محاولة الإِثارة العاطفية التي تستثيرهم للدفاع عن أصنامهم التي ارتبطوا بها بوحي الألفة والعادة، لأنهم عاشوا طفولتهم في رحاب عبادتهم إيّاها، وخضوعهم لها، {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} التي تمثل الالهة الكبار التي هي في موقع الأهمية الكبيرة، {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقيل: إن هذه الخمسة ظلت تُعبد إلى عهد النبي(ص) وأن ودّاً كان لقبيلة كلب، وسواعاً لهذيل، ويغوث لغطيف، ويعوق لهمدان، ونسراً لحِمْيَر، بالإضافة إلى ما استحدثوه من هبل واللاَّت ومناة والعزى.

وهكذا كان أسلوبهم العاطفي يستهدف الوقوف ضد الأسلوب التأمّلي الهادىء المتوازن الذي كان نوح يطرحه على هؤلاء لينطلقوا في أوضاعهم الفكرية والعملية، في محاكمةٍ عقليّةٍ واعيةٍ، من أجل تصحيح الخط المنحرف في حياتهم، وتقويم العادات العوجاء في تاريخهم، كما هي قضية الرسالات الإلهية التي تريد أن تقود الإنسان إلى مصيره من خلال مسؤوليته عما يفكر ويعمل بعيداً عن تفكير الآخرين وسلوكهم، لأن المسؤولية في دائرة الإيمان فردية {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولا يكسب الإنسان عمل غيره، إلاَّ من الناحية التي يمثل فيها مقدّمةً لعمل الآخرين، ولم تكن مشكلة نوح هؤلاء الرؤساء المترفين عند أنفسهم، بل كانت المشكلة هي وقوفهم حجر عثرة في طريق الدعوة.

{وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} من الناس بضلالهم، فمنعوهم من الاستجابة للحق لمّا جاءهم، فظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، ما جعل نوحاً يدعو عليهم ربّه، {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} أي هلاكاً، في ما تختزنه كلمة الضلال من معنى الهلاك بلحاظ ما تؤدي إليه، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47].