تفسير القرآن
نوح / من الآية 25 إلى الآية 28

 من الآية 25 الى الآية 28
 

الآيــات

{مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً* وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً * رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمناتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} (25ـ28).

* * *

معاني المفردات

{دَيَّاراً}: الدّيّار: نازل الدار.

{فَاجِراً}: الفجور: الفسق الشنيع.

{كَفَّاراً}:الكَفَّار: المبالغ في الكفر.

{تَبَاراً}: التَّبَار: الهلاك.

* * *

إجابة الله دعاء نوح

واستجاب الله لنوح دُعاءه، فزادهم هلاكاً بالطوفان الذي أغرقهم ولم يظلمهم، لأنهم استحقّوا ذلك بالخطايا التي ارتكبوها.

{مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ} أي أنهم أُغرقوا من خلال إصرارهم على الامتداد في طريق الخطيئة التي تحولت إلى طوفان أحاط بهم من جميع جوانبهم، فهلكوا ووقفوا بين يدي الله للحساب ليواجهوا كل تاريخهم الكافر المتمرد على الله.

{فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أعدّها الله للكافرين المعاندين، {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} يخلّصونهم من عذاب الله، في ذلك اليوم الذي {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]. وقد ذُكِرَت هذه الجملة عن طريق الاعتراض، في داخل تقرير نوح الذي لم يُستكمل بعد، لمناسبتها للدعاء السابق عليها بالهلاك والدمار لهؤلاء القوم، ثم تابعت السورة حكاية التقرير الرسالي الذي رفعه نوح إلى ربّه.

* * *

رب لا تذر من الكافرين ديّاراً

{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أي شخصاً حيّاً يعيش في داره ليتحرك فيها في ساحة الحياة، فلا بدّ من إهلاك كل الجيل القديم الذي تربّى على الكفر وأصرّ عليه واستغرق فيه، حتى أصبح الكفر جزءاً من ذاته، لينشأ جيلٌ جديدٌ على الإيمان وتقوى الله من أجل أن يبني الحياة بناءً قائماً على الحق والخير والعدل.

ولم ينطلق نوح في هذا الدعاء المدمّر من عقدةٍ نفسية مستحكمةٍ في داخله، كما يفعل البعض من الناس عندما يواجهون التحدي والتمرّد والعناد من الآخرين الذين يرتبطون بهم من خلال الدعوة، أو من خلال أشياء أخرى، بل انطلق من خلال دراسةٍ طويلةٍ شاملةٍ عميقةٍ، استنفد فيها كل التجارب، فلم يعد هناك أيّ أملٍ في هدايتهم، بل أصبحت المسألة مسألة الخطر الذي يمثله وجود هؤلاء على الأجيال القادمة من أولادهم، {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} بما يملكونه من وسائل الضغط من خلال امتيازاتهم القائمة على الكثرة العددية، والقوّة المالية، ما يجعل الناس مشدودين إليهم من موقع الحاجة والخوف، فيخضعون لهم في انتماءاتهم لأنهم هم الذين يتولّون مهمَّة تنشئة أولادهم على الكفر والفجور، ويمنعون غيرهم من العمل على إرشادهم إلى الطريق المستقيم. وقيل: إن الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إليه، ويقول له: احذر هذا ـ مشيراً إلى نوح ـ فإنه كذّاب، وإنَّ أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ على ذلك الصغير.

ويختم نوح تقريره بالابتهال إلى الله والانقطاع إليه في طلب المغفرة منه لنفسه في ما يمكن أن يكون قد قصّر فيه من تبليغ الرسالة، ولوالديه وللمؤمنين معه، في ما توحي به كلمة المغفرة من الرضى والرحمة واللطف الإلهي الكبير.

{رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} من المجتمع الكافر الذي استطاع هؤلاء أن يتمردوا على قِيَمَهِ وضغوطه فآمنوا من موقع القناعة العميقة.

{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين عانوا الكثير في خطّ الرسالة، وثبتوا على الإيمان بالرغم من كل الضغوط الهائلة والإغراءات الكثيرة. {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً} أي هلاكاً. وينتهي التقرير الرساليّ، ويسود الصمت في تاريخ نوح والمؤمنين معه بعد نهاية الطوفان ممّا لا يعلم سرّه إلا الله.

* * *

كيف نستوحي السورة؟

وتبقى للدعاة إلى الله، العاملين في سبيله، مسألة العبرة التي تفتح قلوبهم على مواقع الثبات على الحق، وآفاق الحركة في ساحات الصراع والامتداد في التجربة إلى أبعد مدًى، حتى لا يبقى هناك أيّ مجال لتجربةٍ جديدةٍ ولأمل أخضر. فلا موقع لليأس في طريق العاملين المخلصين، لأن مسألة الأمل ليست شيئاً يأخذونه من زوايا الواقع المحدود الذي يحاصرهم في حدوده وحواجزه، بل هي شيء يستمدّونه من إيمانهم بالله الذي يجعل للمتّقين المخرج حيث لا مخرج، وللمحرومين الرزق من حيث لا يحتسبون، وللمجاهدين النصر من حيث لا ينتظرون.

هذا بالإضافة إلى أن مسألة الدعوة ليست حالةً ذاتيةً مزاجيّةً لتخضع للنوازع النفسية والطوارىء العابرة، بل هي حالةٌ رساليةٌ متصلةٌ بالله، في ما يستهدفه الإنسان من خلالها من رضى الله، فلا مشكلة لديه إذا كان الله راضياً عنه، حتى في أشد ساعات الشدة، فهو الغاية في كل عمل، والهدف الكبير في كل شيء.