تفسير القرآن
الجن / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 7

 سورة الجن المقدمة الآيات من 1-7
 

سورة الجن
مكية، وهي ثمان وعشرون آية

مفهوم الجنّ في القرآن

وهذه السورة المكية نزلت لتعالج مفهوم الجنّ كحقيقةٍ وجوديةٍ أكّدها القرآن في أكثر من سورة، فقد تحدث عن الجنّ كمخلوقاتٍ حيّةٍ عاقلةٍ مسؤولةٍ، تماماً كما تحدث عن الإنس، وخاطبهما معاً، وجعلهما مسؤولين عن عبادة الله الواحد، وحذّرهما من الكفر به والانحراف عن خط طاعته تحت تأثير الإنذار بدخول النار والوقوع في دائرة غضبه. وأثار الحديث عن وجود الشياطين من الإنس والجن الذين يوسوسون في صدور الناس، واعتبر إبليس من الجن، وتحدث عن ذريته وأنكر على الناس أن يتخذوه وذريته أولياء، وقصّ علينا القصص المتنوّعة التي تدل على وجود طاقات متنوّعة قد تفوق طاقة الإنسان، حتى ليستطيع أن يقترب من السماء ليسترق السمع.

وتلك هي الصورة التي يمكن لنا أن نؤمن بها على أساس الحقيقة القرآنية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كما في الكثير من حقائق الغيب التي لم تقع تحت إدراك حواسّنا الظاهرة، فلا نزيد عليها وعلى ما جاءت به السنّة الصحيحة من النبي محمد(ص). أمّا العقائد الشعبية التي تتحدث عن الجنّ بما يشبه الخرافة، وترى أن لهم تأثيراً في الحياة العملية للناس في ما قد يحدث للناس من حالاتٍ غير طبيعية، أو في تسخيرهم وإيجاد علاقاتٍ معيّنةٍ بهم، ممّا قد يتحدث به البعض، فلم يثبت لنا ذلك بطريقٍ صحيحٍ، ولذا فإننا لا نستطيع أن نجد فيه أيّ أساسٍ للحقيقة. ونحذّر المؤمنين من أن يخضعوا لمثل هذه الأحاديث التي قد يحرّكها الكثيرون من الجاهلين، أو من الذين يعملون على استغلال جهل الناس للإيحاء لهم بالجوّ الخفيّ للجنّ بادّعاء علاقتهم بأمراضهم وأحلامهم وآلامهم وقضاياهم الحياتية المتنوعة.

كما أنّ علينا أن نلاحق بعض التصوّرات عن الجنّ التي حفلت بها أقاصيص ألف ليلة وليلة ونحوها، بحيث أثارت في الوجدان الشعبي عقليةً خرافيةً تركت آثارها على كثير من أوضاع التصوّر والسلوك.

* * *

في أجواء السورة

وقد انطلقت آيات هذه السورة لتثير الحديث عن بداية إيمان نفرٍ من الجنّ بالإسلام من خلال استماعهم إلى النبي وهو يقرأ القرآن فآمنوا به، واهتدوا إلى الحق من خلاله، وتحدّثوا بعد ذلك فيما بينهم عن الانحرافات التي كانت تعيش في حياتهم، وعن الأوضاع المتغيّرة في حرية حركتهم في الكون، وأنهم كانوا يختلفون في طرائقهم وانتماءاتهم.

ثم كان ختام السورة في حديث النبي مع الإنس عن الدعوة التي يحملها لتوحيد الله، فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلا به، وأن عليهم أن يؤمنوا بالله ويطيعوه ليتخلصوا من عذاب النار في يوم القيامة الذي لا يعلم وقته، لأنه من غيب الله الذي لم يطلع عليه إلا من اختصّه برسالاته في ما يمكن أن يطلعه عليه ممّا قد يحتاجه في حركة الرسالة في الحياة.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً* وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً* وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً* وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً* وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} (1ـ7).

* * *

معاني المفردات

{نَفَرٌ}:النفر: الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، وقيل: بل إلى الأربعين.

{عَجَباً}: ما يدعو إلى التعجّب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله.

{الرُّشْدِ}: إصابة الواقع، وهو خلاف الغيّ.

{جَدُّ}: فُسِّر بالعظمة، وفُسِّر أيضاً بالحظّ.

{سَفِيهُنَا}: السفه: خفّة النفس لنقصان العقل.

* * *

مناسبة النزول

وقد جاء في مجمع البيان ـ في أسباب نزول هذه السورة ـ في ما رواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «ما قرأ رسول الله(ص) على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله(ص) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمرَّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي(ص) وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم، وقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} فأوحى الله تعالى إلى نبيه(ص) {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ}»[1].

وقد نلاحظ على هذه الرواية عن ابن عباس أنها تتحدث عن حوار الجن في مشكلتهم التي فاجأتهم وهي عدم استطاعتهم استراق السمع، ومحاولتهم البحث عن ذلك، فكيف استطاع ابن عباس معرفة ذلك، وما هي تجربته الحسية التي عاشها في هذا الموضوع الغيبـي، فهو لم يلتق بالجن، أو بمن التقى بهم ليحدثوه عنه، ولم يروِه عن رسول الله(ص) في ما قد يكون النبي(ص) قد عرفه من الجن أو من الله. ثم ما هي الطريقة التي فهم منها الجن السبب في انقطاع خبر السماء عنهم بمجرد سماعهم للقرآن؟

إنّ مثل هذه الروايات أقرب إلى الأحاديث الموضوعة على ابن عباس وأمثاله لإِرضاء الفضول الذي يعيشه الناس في أسباب النزول. ولهذا فإن علينا أن ندقق فيها، لما قد تترك من تأثيرات سلبية على فهمنا للقرآن، في ما قد يثيره من أجواء خاصة بعيدة عن الجوّ القرآني الرائع.

* * *

النبي يتعرف وحياً على إيمان الجن

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} فلم يعش النبي تجربة اللقاء بهم والحديث معهم، بل كانت معرفته بالموضوع ناتجةً عن تعريف الله له ذلك من طريق الوحي، مما قد يثير فينا التفكير حول الكثيرين من الناس الذين يتحدثون عن تجربتهم الحسية مع الجن بشكلٍ تفصيليٍّ شامل، في الوقت الذي كان من المفروض أن يكون النبيّ هو الأولى بمثل هذه التجارب، لا سيّما في ما يتصل بعلاقته بهم من جهة إيمانهم به وبرسالته، لما يفرضه ذلك من حاجتهم إلى سؤاله والحديث معه، ومن حاجته إليهم في ما يمكن أن يعاونوه به في التحديات التي واجهته من المشركين، لا سيّما في مكة التي كانت ساحة اضطهاد الدعوة والمسلمين من قبل المشركين.

ومن خلال ذلك، قد نستوحي أن العلاقات لم تكن متصلةً بينهم وبين النبي والناس معه أو من بعده، لأن المرحلة التي كانوا يلتقون فيها ببعض الأنبياء وهو سليمان أو غيره قد انتهت، مع ملاحظة نقطةٍ مهمة، وهي أن طبيعة العلاقة بالنبي كانت تفرض حديثاً قرآنياً متنوعاً عن قضاياهم ومسائلهم، كما جرى الحديث في القرآن عن الناس في ذلك كله.

وهكذا جاء الوحي للنبي ليحدّثهم عن هؤلاء الذين استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن: {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَباً} في أسلوبه وحلاوته ومفاهيمه العميقة الرائعة، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} في براهينه ودلائله على الله وتوحيده وشرائعه التي تبني الوجود على أساس النظام المتوازن في ما يدعو إليه من العمل على أساس الخير والابتعاد عن الشر، {فَآمَنَّا بِهِ} لأننا لا نملك أن نتوقف أو نتردد أمام الحقيقة الإيمانية التي فرضت نفسها علينا من موقع القناعة اليقينيّة، فعرفنا أن الله وحده هو ربنا ورب كل شيء فآمنا به {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} لأن كل موجود غيره فهو مخلوقٌ له، محتاجٌ إليه، فكيف يمكن أن يكون شريكاً له؟!

* * *

حديث الجن عن الله

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي حظه من العظمة والعلو والمجد والتنزّه عن مماثلة الآخرين له، {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} لأن ذلك شأن المخلوق في حاجته الطبيعية إلى ذلك، لا شأن الخالق الذي لا يحتاج إلى شيءٍ، لأنه الغني عن الحاجات، من خلال غناه في ذاته.

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} فقد كان في مجتمعنا جماعةٌ من السفهاء الذين لا يلتزمون المنطق العاقل المتّزن في تصورهم لله وفي حديثهم عنه، فقد كانوا يشركون بالله من دون علم، ويتحدثون بذلك فيما بينهم، ويخرجون عن خط التوازن في ذلك كله، فيتجاوزون الحدّ المعقول في الفكرة والكلمة.

{وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} لأنه ليس من المعقول أن يكذبوا عليه وقد دلّهم على مواقع المعرفة في داخل وجودهم، وفي كل المظاهر الكونية المحيطة بهم والموجودة فوقهم، لأن مقتضى ذلك أن يحبّوه ويخافوه ويعرفوه بما له من العظمة والكبرياء والجبروت، فيمنعهم ذلك من الافتراء عليه بغير علم، وعن نسبة الشريك إليه من دون أساس. ولكن الظاهر أن الواقع هو غير ذلك، فنحن نجد الجن كما هم الإنس، يكذبون على الله اتِّباعاً للمترفين منهم وللمستكبرين في ساحتهم، غفلةً عن الحق وعن النتائج المترتبة عليه.

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} في ما كانوا يعتقدونه من قدرة الجن على تخليصهم من المشاكل التي يتخبطون فيها، والأخطار التي يتخوّفون منها، والأمراض التي تحلّ بهم، وذلك أنهم كانوافي الجاهلية يتعوذون بالجن بواسطة الكهان الذين يعتقدون بأنهم على علاقةٍ بالجن، فيوحون إليهم بما يزعمون أن الجن توحي إليهم به، وقيل: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلاً قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، ونُقل عن مقاتل أنّ أول من تعوّذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب.

{فَزَادوهُمْ رَهَقاً} أي أوصلوهم إلى الحالة الصعبة التي قد لا يطيقونها، وفسر البعض ذلك بالطغيان الذي يمارسه الجن عليهم، ولكن من الممكن أن يكون المقصود به النتائج السلبية التي قد تحصل لهم من خلال هذه الذهنية غير المتّزنة التي تقودهم إلى الخضوع لأفكار غير واقعية وللاعتماد على الكهان الذين لا يملكون أساساً في الاعتماد عليهم، أو على بعض الجهال الذين يدّعون علاقة بالجن، فيخيِّلون للناس بأن هناك أوضاعاً معينة لا بد من أن يأخذوا بها ليتخلصوا ـ بفضل الجن ـ من بعض مشاكلهم، ما قد يؤدي بهم إلى كثيرٍ من حالات السقوط على أكثر من صعيد، والله العالم.

{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} الظاهر أن المراد هو أن هؤلاء الإنس ظنوا كما ظننتم ـ أيها الجن ـ والخطاب لقومهم من الكفرة إذا كان الكلام من كلام الجن، كما هو الظاهر، أو أن المقصود ـ على غير الظاهر ـ هو خطاب الإنس بأن الكافرين من الجن ظنوا كما ظننتم.

{أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} فهم ينكرون المعاد كما تنكرونه من دون أساسٍ علمي، ولذلك فإنهم لا يتحركون من منطق المسؤولية في ما يفرضه عليهم الإيمان بالآخرة.

ــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:10، ص:554.