تفسير القرآن
الجن / من الآية 8 إلى الآية 17

 من الآية 8 الى الآية 17
 

الآيــات

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً* وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً* وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً* وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الاَْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً* وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً* وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً* وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً* وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً* لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} (8ـ17).

* * *

معاني المفردات

{لَمَسْنَا السَّمَآءَ}: لمس السماء: الاقتراب منها بالصعود إليها.

{حَرَساً}: اسم جمع ـ على ما قيل ـ لحارس، ولذا وصف بالمفرد، والمراد بالحرس الشديد: الحفّاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها.

{رَشَداً}: بفتحتين، والرشد بالضم فالسكون: خلاف الغي. وتنكير «رشداً» لإفادة النوع، أي نوعاً من الرشد.

{الصَّالِحُونَ}: الصالح: مقابل الطالح.

{دُونَ ذَلِكَ}: غير ذلك.

{طَرَآئِقَ}: جمع طريقة، والطَّريقة: السيرة. وطريقة الرجل: مذهبه.

{قِدَداً}: القطَع، جمع قدّة بمعنى قطعة، من القدّ بمعنى القطع. ووصفت الطرائق بالتعدد، لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها.

{ظَنَنَّآ}: الظن هنا يراد به العلم اليقيني.

{الْقَاسِطُونَ}: هم المائلون إلى الباطل. في المجمع القاسط: هو العادل عن الحق. والمقسط: هو العادل إلى الحق[1].

{تَحَرَّوْا}: تحري الرشد: توخيه وقصده.

{اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ}: الاستقامة على الطريقة: لزومها، والثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله وآياته.

{مَّآءً غَدَقاً}: الماء الكثير.

{عَذَاباً صَعَداً} هو الذي يتصعد على المُعَذَّب ويغلبه. وقيل: هو العذاب الشاقّ.

* * *

حال الجنّ مع السماء

ويتابع هؤلاء النفر من الجن حديثهم عن أوضاعهم التي كانوا عليها وعن المتغيّرات الجديدة التي حدثت لهم بعد نزول الرسالة على النبي(ص)، فيتحدثون عن عدم وجود أيّة مصادر للمعرفة الغيبيّة عندهم، مما كان يعتقده فيهم الناس، أو مما كان ينسبه الكهان إليهم، ليرتبط الناس بهم لذلك من خلال ما يرونه فيهم، أو يدّعونه لأنفسهم من الصلة بالجن أو في ما يوحي إليهم الجن من ذلك.

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} كما كنا نلمسها سابقاً عندما نقترب منها لنستمع أخبار الملأ الأعلى، من خلال ما أطلع الله سكانه عليه، عما يمكن أن يحدث في الأرض مما قدّره الله فيها. فوجدنا الأمر قد تغير عما كنا عليه، فلم يعد هناك مجالٌ للاقتراب من آفاق السماء، {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} يطردوننا عنها {وَشُهُباً} تلاحقنا لتحرقنا بنارها إذا فكرنا بالاقتراب منها، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} في ما مضى من الزمان {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} يمنعه من ذلك.

وقد يتحدث البعض أنّ الجن لم يتحدثوا عن تفاصيل ما يسمعونه، فهل كانوا يعلمون الغيب بذلك في ما قد يطّلعون عليه من أخبار السماء؟ لعل المسألة كانت أصواتاً يعتبرونها غيباً وما هي بالغيب، لأن الله لم يطلع على غيبه أحداً. ولكن الظاهر من الآية أن المسألة تتصل بالمعلومات التي يمكن أن يطلعوا عليها في ما يمكن أن يفسر لهم بعض الأوضاع من خلال قدرتهم على الارتفاع بعيداً عن الأرض في ما يسمعونه من بعض أخبار السماء، مما لا نعرف طبيعته وخصوصياته، تماماً كما هي المعلومات التي يعرفها بعض الناس الذين يملكون التجارب التي لا يملكها الآخرون، مما لا يعتبر غيباً بالمستوى الذي ينفيه الله عن غيره، والله العالم.

{وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرْضِ} من خلال هذه المتغيرات الجديدة، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} لأنّا لا نملك معرفة أسرار ذلك، ويمكن أن يكون المراد نفيهم لعلم الغيب، بعيداً عن مسألة منعهم من استراق السمع، فهم لا يملكون أيّة معرفةٍ غيبيةٍ في ما قدره الله للناس في أمور حياتهم مما قد يكون خيراً أو شرّاً.

* * *

مناقشة لبعض المناهج التفسيرية في مسألة الجن

وقد يحاول البعض من الناس تأويل هذه الظواهر الغيبية على أساس بعض الموازين التجريبية التي استحدثها الناس، أو على أساس اعتبارها حالةً تمثيليةً أو تصويريةً في أسلوب الأدب الرمزي، لأنهم لا ينطلقون من موقع الإيمان بالغيب في ما ينزله الله على رسله من الحديث عما لا يملك الناس علمه، لأنهم لا يملكون وسائل الوصول إليه، وذلك من خلال الأفكار السابقة التي يحملونها في تربيتهم الثقافية.

إنَّ الإسلام يريد أن يربط الإنسان في تفكيره بالعقل تارة في ما يمكن أن يدركه العقل، وبالتجربة أخرى في ما يمكن أن تبلغه التجربة، ولا يريد أن يربطه بالمألوف والمحسوس، لأن عدم الألفة في ما هي الظاهرة، أو عدم الحس في ما يتحرك فيه الواقع، لا يعني عدم الوجود، لأن الوجود أوسع من ذلك في ظواهره وفي خفاياه. فإذا أدرك العقل إمكان شيءٍ وجاء الوحي الصادق بوقوعه، فلا بد من الإيمان به، لأن الحقيقة قد استكملت وسائل الوصول إليها، فلا قيمة لما يرفضه الناس منها على أساس المعرفة السطحية التي لا تنفذ إلى العمق في وسائل المعرفة. وهذا هو أساس الإيمان بالغيب في مصادره العقلية، وفي مصادر الوحي الذي أكد العقل وجوده، في تأملاته للحالة التي يعيشها الرسول في ما يثبت رسالته.

* * *

في الجن صالحون وطالحون

ثم يتابع هؤلاء النفر من الجن الحديث عن طبيعة مجتمعهم من حيث الانتماء، فهناك الذين يندفعون إلى الإيمان من موقع القناعة المطمئنة المنفتحة على الحقيقة المتصلة بالله، وهناك الذين يبتعدون عن الحقيقة، ويتّبعون الهوى، ويستغرقون في ملذاتهم وشهواتهم، فينحرفون عن خط الإيمان، ويسيرون مع الكفر والشرك في حياتهم، كأيّ مجتمع آخر.

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} الذين عاشوا الصلاح فكراً وسلوكاً من خلال القاعدة الإيمانية التي أدركوا ثباتها على صعيد الحقيقة، فتحركوا من خلالها، ليكون كل قول أو فعل أو علاقة مرتبطاً بها ومشدوداً إليها، ومتفرعاً عنها.

{وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ممن لم يلتزموا الصلاح كقاعدة للحياة، بل انطلقوا في خط الانحراف تماماً كما هم الإنس الذين يختلفون في الخطوط العقيدية والعملية.

{كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أي طرقاً مختلفة مقطّعة، أي مذاهب مختلفة. وقد لا يكون من الضروري أن يكون هؤلاء الصالحون من الذين آمنوا بالرسول، فكان صلاحهم من خلال ذلك، فربما كانوا منفتحين على الصلاح قبل ذلك، لأن هؤلاء النفر الذين استمعوا إلى القرآن كانوا يتحدثون عن واقع المجتمع في دائرة الجن، ليؤكدوا أن الجن لا يمثلون مجتمع الشر، بل يمثلون المجتمع المختلط الذي يشتمل على الخيّرين، كما يشتمل على الشريرين، على خلاف الفكرة الشائعة عنهم في ذلك، ولو كان الأمر كما يظن الناس في أجواء الشائعات، لما كانوا موضعاً للتكليف من قِبَل الله.

{وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} فقد عرفنا معنى الألوهية في معنى الله الذي يحيط بكل شيء علماً، ويهيمن على الوجود كله، فلا يغيب شيءٌ عن علمه، ولا يخرج شيءٌ عن قدرته، فإذا أراد الله بنا شرّاً فلن نستطيع الخلاص منه، ولن يَعْجَز الله عنه، ولن نتمكن من الهروب من سلطته، لأن أعماق الأرض ورحاب الفضاء جزءٌ من ملكه، فإلى أين المفرّ وكيف الخلاص؟!

ومن خلال ذلك نفهم أنَّ علينا الخضوع له في كل أوامره ونواهيه، لأن ذلك وحده هو سبيل النجاة من عقابه في الدنيا والآخرة. وإذا كان بعض الناس ينحرفون عن هذا الخط، فإنهم كانوا يعيشون الغفلة المطبقة على عقولهم التي تبتعد بهم عن وعي الحقيقة الإيمانية التي تعرّفهم مقام ربهم في الكون، وموقعهم منه في ضعفهم المطلق أمام القوّة المطلقة لله.

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} لأن وجداننا الصافي، وفطرتنا المنفتحة، كانا الدليل على الهدى في العقيدة والشريعة والمنهج، فلا مجال لإنكاره، لأنه لا مجال للريب فيه، لا سيّما وأن الهدى الديني التوحيدي لا يمثل حالةً فكريةً تجريديةً لا دخل لها بالحياة في مسألة المصير، بل يمثل الحالة المتصلة بالمصير كله في الدنيا والآخرة، بحيث يتحرك الهدى والضلال في دائرة النعيم الدائم، والشقاء الخالد، فكيف يمكن أن نعيش جوّ اللاّمبالاة تجاه الرسالة، وأن نواجه حالة العناد في حركتنا عندها لنتمرد عليها، كما يفعل المعاندون في خط الرسالات، {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} أي نقصاً {وَلاَ رَهَقاً} أي ظلماً، لأن الله تكفل للمؤمنين بالرحمة والعدل والإحسان، وعاهدهم على أن لا يضيع عمل عاملٍ منهم من ذكرٍ أو أنثى، فلا ينقص أحداً أجره، ولا يظلم عبداً حقه، ما يجعل من مسألة الإيمان مسألةً تتصل بالعلاقة العميقة بين المؤمن وبين ربّه، في ما هي النتائج العظيمة على مستوى المصير السعيد في رحاب الله في الدار الآخرة.

* * *

في الجن مسلمون وقاسطون

{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} الذين أسلموا وجوههم لله، فلم يلتفتوا إلى غيره، {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} وهم الجائرون العادلون عن الحق، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} لأن الإسلام في معناه العميق يفتح الإنسان بكل آفاقه على الله، فلا يبقى له أفقٌ مفتوح على غيره، ولا إرادة له إلا الإِرادة الخاضعة لإرادة الله. ولذلك كانوا المصدّقين بالرسالات، التابعين للرسل، السائرين في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، ويؤدي بهم في نهاية المطاف إلى الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين، هذا بالإضافة إلى ما في الإسلام، كدين شامل، من مضمون فكريٍّ وروحيّ وعمليّ، يطلّ على واقع الإنسان كله، من موقع التوازن الذي يرعى كل جوانبه وكل تطلعاته، بحيث لا يشعر بالغربة معه في كل مفرداته الفكرية والشرعية، وهذا هو الرشد الذي تحراه هؤلاء المسلمون في سعادة الدنيا والآخرة.

وقد نستوحي من كلمة {تَحَرَّوْا} أن وصولهم إلى هذه النتيجة في قناعاتهم الإيمانية في ما أسلموا به حياتهم لله، لم يكن حالة انفعالية ناشئة من تأثير البيئة المحيطة بهم، أو من الخضوع الغريزي للتاريخ العاطفي المتصل بآبائهم وأجدادهم، بل كان حالةً إراديةً واعيةً ناشئةً من البحث والتطلع إلى كل الاحتمالات المتنوعة في أذهانهم، وإلى كل الأفكار المطروحة في واقع الحياة، ليكون الاختيار من موقع القناعة المرتكزة على التأمل العميق، والتفكير الواسع. وهذا ما يتّصف به المسلمون الذين يحملون مسؤولية الانتماء قبل أن يختاروا الإسلام كعقيدةٍ ومنهج حياة، كما يحملون مسؤوليته بعد ذلك ليحافظوا عليه في أنفسهم وفي المجتمع الذي يلتزمون فيه خطّ الدعوة من أجل هدايته إليه.

{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الجائرون العادلون عن الحق، الذين ابتعدوا عن الله، وأسلموا حياتهم كلها للشيطان، ليعبث فيها ما شاءت له الشيطنة أن يعبث، وليبتعد بالإنسان عن الإيمان بالرسالات، وليدفعه إلى التمرد على الله وعلى رسله، {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} لأن ذلك هو الجزاء العادل للكافرين الذين أقام الله عليهم الحجة في مسألة الإيمان، فتمردوا عليها وساروا في خط الضلال، وهذه هي مشكلة الذين عاشوا في حياتهم عقلية الخضوع للآخرين في التلاعب بوجودهم وبأفكارهم ومشاعرهم، ما جعلهم يعيشون الذهنية الحطبية التي تجعلهم وقوداً لكل نارٍ يريد الآخرون أن يشعلوها ليحرقوا بها خصومهم، أو ليحرقوهم بها في الدنيا والآخرة.

* * *

لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً

{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ} الحقة في ما تخطط له شريعة الله من التشريعات التي تحدد للناس حقوقهم وواجباتهم، فلا يطغى أحد في حقوقه، ولا يضيع في واجباته، وفي ما تثيره العقيدة في أسلوبها التربويّ الإِيحائي من اختلافٍ وروحيّاتٍ وأفكارٍ تجعل من الإنسان المسؤول عن الحياة، فلا يحاول أن يسيء إليها أو يفسد فيها أو يبتعد بها عن الخط الذي أراد الله لها أن تسير فيه، سواءٌ في ذلك في علاقته بالأرض والإنسان والحيوان، أو بكل المفردات التي تقع في نطاق مسؤوليته. وهذا ما يفرض انفتاح الحياة في حركة الإنسان على الخير كله، لأن الاستقامة على الخط، تفرض توجيه الطاقات كلها نحو البناء لا الهدم، والخير لا الشر، والحياة لا الموت، ما يجعل الخير يتحرك في الإنسان، كما هي الأمطار وكما هي الينابيع، في هطولها على الأرض الميتة لتحييها، وفي تفجرها في رحاب الوديان والسهول لتبعث فيها الخضرة والرخاء العميم. وهذا هو قول الله سبحانه: {لأََسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أي كثيراً، وهو ـ على الظاهر ـ واردٌ على سبيل الكناية، تعبيراً عن الرخاء والسعة في الرزق، باعتبار أن الماء هو الأساس في ذلك كله.

وهذا هو التلازم بين الاستقامة وبين الرخاء، وهو الذي يريد القرآن تأكيده في وعي الإنسان، على أساس أنّ ذلك هو الوضع الطبيعي الذي يفرضه اتجاه الطاقات في مجراها العادي الذي يملأ الحياة خيراً وبركة، بينما يتمثل الانحراف في ابتعاد الطاقات عن النتائج الطيبة لتحل محلها النتائج الخبيثة البعيدة عن مصلحة الإنسان.

وخلاصة ذلك، أن خراب الحياة وعمرانها بيد الإنسان، فإذا أخلص لله فيها على منهاجه كانت الحياة جنة الله على الأرض، وإذا سار بعيداً عن منهاج الله، وانحرف عن خطه، تحولت الحياة عنده إلى جحيم من الشقاء، في ما ينتجه من الحروب والدمار والفساد.

{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لأن الرضى كما يمثل النعمة التي أنعم الله بها على الناس، فإنه يمثل الفتنة التي يختبر فيها عباده، هل يشكرونه عليها ليزدادوا إيماناً وعملاً، أم يكفرون بها ليبتعدوا عن مواقع الإيمان والطاعة والرخاء؟!

{وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} في ما يمثله الذكر من الشعور بحضور الله في حياته، أو من المراقبة الروحية التي تمنعه عن العصيان في فعل المحرّمات وترك الواجبات، {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي شديداً، لأن هذا الإعراض يؤدي به إلى الإعراض عن طاعة الله في أوامره ونواهيه، مما يقتضيه الوقوع في دائرة غضب الله وسخطه.

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:10، ص:558.