من الآية 25 الى الآية 28
الآيــات
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً* عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (25ـ28).
* * *
معاني المفردات
{أَمَداً}: الغاية التي ينتهي إليها الشيء.
{يُظْهِرُ}: الإظهار: الإعانة والتسليط.
{رَصَداً}: الرصد: المراقب للأمر، الحارس له. والرصد: الراصد، يطلق على الواحد والجماعة، وهو في الأصل مصدر.
* * *
الغيب من اختصاص الله
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} من أمر الآخرة التي تواجهون فيها الموقف الحاسم بين يدي الله {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي غاية ينتهي إليها في ما يعلمه من غيب الآخرة {عَالِمُ الْغَيْبِ} الذي يملك معرفة الغيب كله، كما يملك معرفة الحسّ كله، لأنه هو الخالق لذلك، فلا يغيب عنه من أمر خلقه شيء، ولا غيب بالنسبة إليه، بل هو الحضور المطلق في كل الأشياء بدقائقها الخفية والظاهرة.
{فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} من خلقه، لتكون لهم المعرفة الغيبية في ما يريد الله أن يختص به من علم الدنيا والآخرة مما لا يملك الناس وسائل معرفته.
{إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يلقي إليه بالوحي الذي هو من عالم الغيب، كما يلقي إليه ما يتوقف عليه من الأمور التي قد يحتاج إليها في أمر الرسالة. ولكن هل يجعل لديه مَلَكَةَ العلم بالغيب، حتى إذا أراد علم شيءٍ علمه، أو يحدّد له بعض الأشياء بشكل خاص تفصيليّ، أو يلهمه علم ما يحتاج إليه في بعض حالات الضرورة أو التحدي؟
هناك وجوهٌ عديدة في المسألة، وقد يأخذ بكل وجه قائلٌ معيّن، ولكن الظاهر من الآيات القرآنية أن المسألة ليست مسألة مَلَكَةٍ في داخل شخصية الرسول، بل هي علم من ذي علم، يحدّد الله له فيها خصوصيته في نطاق الرسالة لا في نطاق الذات. ولعلّ أبلغ آيةٍ دالةٍ على ذلك هو قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السّوءُ} [الأعراف:188]، ما يوحي بأن النبي لا يملك علم الغيب الذي يقيه من مكاره الدهر من مرضٍ أو بلاءٍ ونحوهما، أو الذي يطلعه على مواقع الخير، لأنه لو كان كذلك لاستطاع أن يتفادى السوء عن نفسه، أو يجلب الخير لها، وليس معنى ذلك أن النبيّ ليس في مستوى المعرفة الغيبية في ما يمكن أن يمنحه الله من ملكاته القدسية وفيوضاته الربانية، ولكن قد لا تكون لذلك أيّة ضرورة في ما هي المهمة الموكولة إليه التي يراد من خلالها تأكيد عنصر البشرية فيه، بما لا يتنافى مع طبيعة رسالاته، ولا يُعتبر مخالفاً لصفة الكمال العملي والروحي في ما ينبغي أن تتّصف به شخصيته كنبيٍّ مرسل، لأن الكمال في هذا المجال من الأمور النسبية في الدائرة البشرية من خلال القدرات الطبيعية فيها، فلا بد من ثبوت أيّة صفة غير بشرية من خلال النصوص القطعية التي تثبت ذلك، لنؤمن بها في هذه الدائرة الخاصة.
وقد يلاحظ المتأمّل في القرآن أن الآيات تؤكد دائماً على جانب الوحي كفارقٍ بين الناس وبين النبي، كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك، للمحافظة على شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع. كما أن هناك نقطة مهمة في سيرته، وهي أنه لم يعهد عنه التحدث بالمغيّبات في مجتمع المسلمين في ما يتعلق بشؤونهم العامة والخاصة، لأن رسالته لم تحتج إلى ذلك، خلافاً لما أخبر به القرآن عن عيسى(ع).
* * *
رعاية الله لرسوله
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ربما كان هذا شاهداً على أن الغيب الذي يظهر الله رسوله عليه هو الوحي الذي يمثل حالةً غيبيّةً بلحاظ طبيعته وطبيعة الملائكة الذين ينزلون به، وطبيعة الأجواء المحيطة بذلك كله، وبعض المفاهيم القرآنية المتصلة بالغيب في ما يتصل بالدنيا والآخرة. وهذا هو الذي يضع الله له الرصد الذي يحفظه من بين يديه ومن خلفه لحمايته من الضياع ومن التحريف ومن الخطأ، ليكون ذلك أساساً في الرقابة الدائمة التي تحمي الرسول في وعيه للرسالة، وقدرته على إبلاغها، وتحمي الرسالة من كل زيادةٍ أو نقصان أو تحريف في ما يمكن أن يعرض لها من الطوارىء والعوارض المتنوعة في ذلك كله.
{لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} في ما تثيره كلمة العلم من ظهور ذلك، باعتباره سبباً من أسباب العلم العادي للأشياء، لا بمعنى توقف علم الله على ذلك {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} في ما يملكونه في داخلهم وفي خارج حياتهم، مما يتصل بهم أو يحيط بأوضاعهم المتصلة بحركتهم في حركة الرسالة {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} في ما يحصيه الله من أعمال رسله بكل مفرداتها الجزئية والكلية، وبكل الحالات النفسية التي يعيشها هؤلاء الرسل، وبكل المواقف الجادّة في ساحة الدعوة أو في ساحة الجهاد.
وهكذا نرى أن الله يرعى رسوله ويراقبه ويحيط بما لديه، ويحصي كل شيء عليه، في ما يوحي به ذلك من معنى المسؤولية في كل حياة الرسول المتصلة برسالته في مواقفه الرسالية، وفي نوازعه الذاتية، لنستوحي منها الرقابة الدائمة على الدعاة إلى الله، التابعين للرسول في خط الدعوة، والسائرين على خطه في خط الجهاد في سبيل الله.
وقد فسر بعض المفسرين الآية بمعنى آخر، فقد جاء في مجمع البيان أن «الرصد الطريق، أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء والسلف وعلم ما يكون بعده طريقاً»[1]. وما ذكرناه أقرب إلى الجو العام للسياق في السورة والله العالم.
وقد ذُكر في تفسير قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أن المراد به لا يختص بما يتعلق بالرسول، بل يشمل كل شيء، فالله قد «أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل»[2]، وهذا ما رووه عن ابن عباس، وقيل: «عدّ جميع المعلومات المعدومة والموجودة عدّاً، فعلم صغيرها وكبيرها، وقليلها وكثيرها، وما يكون وما لا يكون، وما كان وما لم يكن، وغير ذلك من الوجوه التي قد تكون مقصودة، وقد يكون المقصود جميع الأشياء بحيث يشمل الوجوه كلها.
وهكذا تطوف بنا هذه السورة في أكثر من موضوع، وفي أكثر من حقيقة إيمانية، ما يمنحنا التحديد لكثرة من المفاهيم الإسلامية حول عدد من القضايا المرتبطة بالعقيدة والوجود وحركة الرسالة في الحياة.
ــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:5، ص:563.
(2) (م.س)، ج:10، ص:564.
تفسير القرآن