من الآية 10 الى الآية 19
الآيــات
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً* إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً* وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً* يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً* إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً* فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً* السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً* إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (10ـ19).
* * *
معاني المفردات
{هَجْراً جَمِيلاً}: الهجر الجميل: إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعوة إلى الحق على وجه المناصحة.
{وَذَرْنِي}: يذر ويدع بمعنى يترك. يقال: دعني وفلاناً وذرني وفلاناً، أي: لا تحل بيني وبينه حتى أنتقم منه[1].
{أَنكَالاً}: الأنكال: القيود، ونكلته: قيدته. والنكل ـ بالكسر فالسكون ـ قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع: أنكال.
{غُصَّةٍ}: تردد اللقمة في الحلق ولا يسيغها آكلها. يقال: غصّ بريقه يغص غصّاً، وفي قلبه غصّة من كذا، وهي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام والشراب.
{تَرْجُفُ}: الرّجف: الاضطراب الشديد. يقال رجفت الأرض والبحر.
{كَثِيباً}: الرّمل المجتمع الكثير.
{مَّهِيلاً}: الرمل الذي إذا حرك أسفله سال أعلاه.
{وَبِيلاً}: الوبيل: الشديد.
{مُنفَطِرٌ}: الانفطار: الانشقاق.
* * *
اصبر على ما يقولون
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} مما يوجهونه إليك من كلمات السباب والإِيذاء والسخرية، وما يثيرونه حولك من اتهامات بالجنون والسحر والشعر والكهانة ونحو ذلك مما قد يثقل صدرك، ويزيد في أذاك، لأن الرسالة الثقيلة في التزاماتها ومسؤولياتها ونتائجها التغييرية في مستوى حياة الناس تستثير ذلك كله، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} والهجر الجميل: إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعوة إلى الحق على وجه المناصحة، وهو يمثّل الأسلوب القرآني الحكيم في الإعراض عن الكافرين في لحظات التمرد على الرسالة والرسول، إذ لا يضعف أمامهم في أسلوب الردّ العملي السلبي، لأن الهجر ينطلق من موقع قوّة دون أن يقطع العلاقة معهم بحيث لا يترك لنفسه مجالاً للدعوة، ولا لهم مجالاً للرجوع إلى الحق... وهذا ما ينبغي للداعية أن يعيشه في نفسه من أخلاقٍ واسعةٍ كريمةٍ في أسلوب الدعوة، وفي صفات الشخصية الرسالية التي لا تملك مزاجها الذاتي في حرية الحركة من جهة الفعل وردّ الفعل، بل تخضع في مشاعرها وأحاسيسها وحركتها المزاجية لمصلحة الرسالة وروحية الانفتاح على الناس من خلالها، بالعقل المفتوح، والصدر الواسع، والقلب الكبير...
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ} من هؤلاء المكذبين برسالتك الذين يملكون النعمة في حياتهم، بفضل ما أعطيتهم من مالٍ أو جاهٍ، جعلوه أساساً للتمرد على الرسالات، فلا تشغل نفسك بهم وبالطريقة التي يمكن أن تواجه فيها مواقفهم السلبية العدوانية، فإنّ جزاءهم على الله الذي قد يتركهم مدّة تبعاً للحكمة في التأخير، ولكنهم لا يفوتونه، مهما طال الزمن، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} فسوف يأتيهم العذاب والذلّ في الدنيا قبل الآخرة، وقد ذُكر في كتب التفسير أنه لم يكن إلا اليسير من الزمن حتى كانت وقعة بدر التي أهلكت الكثير منهم، والله العالم.
* * *
جزاء المتقوّلين المكذّبين
{إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} أي قيوداً في الآخرة عظاماً لا تُفك أبداً ـ كما قيل ـ أو أغلالاً، {وَجَحِيماً} بما تمثله نار جهنم من إيحاءات العذاب، {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} وقيل إنه الشوك الذي يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج، وقيل إنه طعامٌ يأخذ بالحلق لخشونته وشدة تكرّهه، {وَعَذَاباً أَلِيماً} أي عقاباً موجعاً، ينزله الله بهم في يوم القيامة، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ} في زلزالها الهائل الشديد {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} التي تضطرب حتى تزول من مكانها بالرغم من قوتها وصلابتها، {كَثِيباً مَّهِيلاً} أي رملاً سائراً متناثراً، وقيل: المهيل الذي إذا وطئته القدم زلّ من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهار أعلاه، والمقصود أن الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل.
* * *
أخذ العبرة من عذاب فرعون
{إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} كما هم الأنبياء الذين يرسلهم الله برسالاته ليبلّغوها للناس، وليؤكدوا عليهم السير في خطها المستقيم، وليراقبوا التجربة الحيّة على الطبيعة في عملية ملاحقةٍ لكل أوضاعها السلبية أو الإِيجابية، ليشهدوا غداً أمام الله أنهم قد قامت عليهم الحجة في وصول الرسالة إليهم بكل ما فيها من مواقف الحق النازل من الله، {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} عندما اقتضت الحكمة الإِلهية أن يرسل موسى(ع) إلى فرعون ليصدم جبروته وكبرياءه، وليحطّم الحاجز الذي كان يضعه أمام الناس المستضعفين، ليمنعهم من الانفتاح على الإيمان بالله في أفكارهم، ومن الوعي لمواقع الحرية والعزة في حياتهم، ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وليتحرّروا من سيطرة طغيانه وجبروته.
وانفتحت كل ساحات الصراع في حركة الرسالة ضد الكفر والظلم والاستكبار... وكان التحدي الرسالي سيّد الموقف، فوقف موسى(ع) الموقف القويّ الذي يستمد حيويّته وقوته من قوة الإيمان بالله.
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ولم يخضع لكل ما قدّمه إليه من بيّنات ودلائل على صدقه في الرسالة، بل استكبر وتمرّد وحاول أن يخطط للقضاء على موسى(ع) والمؤمنين معه، ويلاحقهم في محاولتهم التحرر من سيطرته للخروج من دائرة ملكه، {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي شديداً ثقيلاً، فغرق وجنده في البحر، وانتصر موسى(ع) عليه، وتحركت الرسالة بعيداً عن كل الضغوط الفرعونية لتبدأ عهداً مع مجتمعها الذي يحمل الكثير من العُقد والمشاكل.
* * *
كيفية اتّقاء عذاب الآخرة
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} أي كيف تتخلصون من العذاب الذي أعده الله للكافرين في ذلك اليوم الذي تحتشد فيه الأهوال، وتشتد فيه المخاوف بالمستوى الذي تشيب فيه الأطفال من شدة الرعب.
{السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} لأن السماء تتشقق في الأجواء التي تسبق يوم القيامة، ما يوحي بشدة هذا الحدث العظيم، وقد ذكر أن تذكير الصفة بلحاظ أن كلمة السماء تُذكّر وتؤنث.
{كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} لأن الله هو الذي ينطلق قضاؤه من مواقع إرادته، فإذا أراد شيئاً كان، وإذا وعد بشيء كان حتماً مقضيّاً، فهو أصدق الواعدين، حين يقضي ويريد.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} لأنها تهز القلب والشعور، وتدفع بالإنسان إلى أن يخرج من غفلته، في هزّةٍ روحيّةٍ يواجه فيها حقائق الوجود بمسؤولية تجاه الموقف الحاسم أمام الله، ما يدعوه إلى أن يكتشف الطريق المستقيم الذي ينتهي به إلى الله، في إيمانه وانتمائه، وفي حركته وعلاقاته على جميع المستويات، وهذا ما يريد الله من الإنسان أن يؤكده تأكيداً جدّياً حاسماً في الانسجام بين الوعي والواقع، {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ليصل من خلاله إلى مواقع طاعته، وآفاق رضاه، ورحاب رحمته... فهذه هي الغاية التي ينتهي إليها كل مؤمن في حياته الفكرية والعملية.
ــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:73.
تفسير القرآن