الآية 20
الآيــة
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (20).
* * *
معاني المفردات
{أَدْنَى}: اسم تفضيل من الدنوّ بمعنى القرب. وقد جرى العرف على استعمال (أدنى) في ما يقرب من الشيء وهو أقل، فيقال: إن عدّتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلاً دون ما لو كانوا أحد عشر.
{يُقَدِّر}: التقدير: تحصيل مقدار الشيء وعدده والإحاطة به.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ}: توبة الله على العبد انعطافه بالرحمة عليه.
* * *
الله يخفّف عن رسوله والمؤمنين معه قيام اللّيل
لقد دلت السورة في صدرها على صلاة الليل، كفريضة لازمة على النبي(ص) وعلى من معه من المؤمنين، وقد دأب النبي(ص) ومن معه على القيام بها، وكانوا يلاقون من ذلك عناءً شديداً لأنهم كانوا يبغون الدقة في التوقيت، بما لم يكن متيسراً لهم، حتى أن بعضهم كان يقوم الليل كله ليبلغ الوقت المحدّد، فأنزل الله هذه الآية حسبما تتحدث به بعض الروايات في أسباب النزول، ليخفف عنهم ثقلها وليجعلهم في حلٍّ من الإلزام، فتكون مستحبّةً بشكلٍ خفيف، ما يجعل من هذه الآية ـ كما يذكر البعض ـ نسخاً للآية المتقدمة في صدر السورة.
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أي أقرب وأقل {مِن ثُلُثَي اللّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}، أي أنك تقوم في بعض الليالي قريباً من الثلثين، وفي بعضها قريباً من نصف الليل، و في بعضها قريباً من ثلثه، {وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} من المؤمنين الذين يسيرون في ضوء هداك، فقد كنتم موضع عناية الله وقبوله، لأنكم من العباد الصالحين الذين يتركون النوم والراحة والاسترخاء، ويعانون الجهد البدني والروحي، ليقفوا بين يدي الله في خشوع العابد، وخضوع العبد، وروحية التقوى... وقد رأى الله في مواقع علمه المنفتح على رحمته كل هذا العناء والثقل، فأراد أن يخفّف عنكم هذا العبء الثقيل من الإِلزام، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللّيْلَ وَالنَّهَارَ} في حساباته الدقيقة للنظام الذي يحكمها في طول هذا، وقصر ذاك، في عملية تبادليّةٍ متحركة، وهو وحده المطّلع على الدقة في الحركة والتقدير، {عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ} أي لن تستطيعوا تحديد الوقت بدقة، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي خفف عنكم فلم يلزمكم بقيام الليل، فلو تركتموه لم يكن عليكم حرجٌ، كما هو الأمر بالنسبة إلى التائب الذي لا يبقى عليه شيءٌ من ذنبه بعد التوبة، {فَاقْرَأواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} في الصلاة أو في غيرها بما لا يشقّ عليكم أمره، لأن الله يريد لكم أن تعبدوه عبادةً منفتحةً على طاقة الجسد وتوجّه القلب، وحيويّة الروح، كما يريد لكم أن تعيشوا روحيّة القرآن وفكره، لترتفعوا إلى مستوى المعرفة الفكرية والروحية والعملية في وحي الله الذي أرسل رسوله ليزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ولتهتدوا إلى مواقع رضاه في خط طاعته.
* * *
مسوّغات تخفيف قيام اللّيل
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى} لا يطيقون الجهد الكبير الشاقّ الذي يثقل الجسد، {وآخرون يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ} في أسفارٍ بعيدة شاقة {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} ليطلبوا الرزق من مواضعه، ويقوموا بمسؤولياتهم المالية تجاه أنفسهم وعيالهم، وما كلّفهم الله من الإنفاق في مجتمعهم، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيعانون الكثير من الحركة في طريق الجهاد بما قد يعطّل عليهم الكثير من القيام ببعض الأعمال العادية، مما قد يفرض التفرّغ والتخفف في نظام الواجبات العادية.
وقد لا يكون هذا من النسخ في الحكم، بل هو يشتمل ـ كما يقول صاحب الميزان ـ على «التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامّة المكلّفين تفريعاً على علمه تعالى أنهم لن يحصوه. ولازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار، حتى يسع لعامّة المكلّفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ، بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرّمة، وذلك أن الإحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلّفين، لا لجميعهم، ولو امتنع لجميعهم ولم يتيسَّر لأحدهم لم يشرّع من أصله، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.
على أنه تعالى يصدّق لنبيه(ص) وطائفة من الذين معه، قيام الثلث والنصف والأدنى من الثلثين، وينسب عدم التمكن من الإحصاء إلى الجميع، وهم لا محالة هم القائمون وغيرهم، فالحكم إنما كان شاقاً على المجموع من حيث المجموع دون كل واحدٍ، فوسّع في التكليف بقوله: {فَاقْرَأواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وسهّل الأمر بالتخفيف ليكون لعامة المكلّفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الإحصاء وأراده، والحكم استحبابي لسائر المؤمنين وإن كان ظاهر ما للنبي(ص) من الخطاب الوجوب، كما تقدمت الإشارة إليه"[1].
* * *
مناقشة مع العلامة الطباطبائي في الميزان
وقد نلاحظ على ما ذكره العلامة الطباطبائي، بأن الظاهر من قيام المؤمنين معه في نداء التشريع الأوّل في صدر السورة، أنهم لم يفهموا من خلال النبي(ص) اختصاص التشريع به، سواء كان إلزامياً أو استحبابياً، على أساس أن الله يخاطبه في القرآن في كثير من الحالات بما يريد للمؤمنين أن يقوموا به، لأن التشريع شاملٌ للجميع. وقد يكون عدم تيسّر الإحصاء لمجموع المكلّفين من باب الحكمة للتخفيف، فلا يكون التشريع الأول مختصاً بجماعةٍ خاصّة، بل إن الظروف الأولى للدعوة كانت تقتضي نوعاً من التشديد، لأن طبيعة الظروف الصعبة التي تحيط بالدعوة الإسلامية، تفرض التعبئة الروحية بالمستوى الكبير، أو يكون أخذ المؤمنين له مع النبي على أنفسهم بأسلوب الشدّة للاستغراق في روحية التقوى لا من جهة اقتضاء التكليف ذلك، والله العالم.
* * *
قراءة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاءالزكاة
{فَاقْرَأواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ليستمر التشريع العبادي الليلي في جوّ التيسير والتسهيل على أساس إرجاع الأمر إلى المكلّفين من جهة ما يختارونه منه، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} باعتبارهما الفريضتين الأساسيتين اللتين تتحركان في حياة الناس بشكلٍ إلزاميّ، بما يترتّب عليهما من الارتفاع بمستوى المسؤولية الروحية في الشعور الدائم بحضور الله في وعي الإنسان، والمسؤولية التكافلية في حركة الإنسان بمواجهة المشاكل الإنسانية في دائرة الحرمان.
{وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} في ما تقدمونه من الإنفاق الخاص والعام، في غير الزكاة المفروضة، ممّا يقرض به الإنسان الناس المحتاجين إليه، أو مما يعيرهم من أدوات وأشياء، أو مما يقضي به حاجاتهم ونحو ذلك.
* * *
مع صاحب الميزان في تفسير الآية
وقد جاء في الميزان أن «عطف الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض، للتلويح إلى أنّ التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها والاعتناء بأمرها، فلا يتوهَّمَنَّ متوهِّم سريان التخفيف والمسامحة في جميع التكاليف، فالآية نظير قوله تعالى في آية النجوى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:13][2].
ونلاحظ أن الظاهر هو أن ذكر هذه التكاليف إلى جانب قراءة ما تيسر من القرآن للإِيحاء بأنّه يدخل في عداد التكاليف العامة التي تتكامل في بناء شخصية الإنسان المسلم، بما تشتمل عليه من عناصر متنوعة ذات صلةٍ وثيقةٍ به، كما أن أهمية هذه التكاليف تجعل القرآن يكرر الحديث عنها ليوجّه الناس إليها بأدنى مناسبةٍ لذكرها، وليس في الآية إشعارٌ بما ذُكِر، أما آية النجوى فقد كانت دلالتها بلحاظ قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ}، الدالّة على أن عليهم أن يتابعوا الواجبات العامة، ولا يتراجعوا عنها بعد رفع التصدق عنهم، لأن الصلاة والزكاة ليستا من هذا القبيل، والله العالم.
* * *
ثواب عمل الخير
{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} وهذا هو الخط الذي يريد الله أن يؤكده للناس الذين يبحثون عن النتائج الإِيجابية الحاسمة في المصير الذي ينتظرونه في الآخرة، فهناك عنوانٌ كبيرٌ لا بدّ من أن يكون العنوان الذي تخضع له كل أعمال الإنسان وأقواله، في ما يعبّر عن كل الخطوط الشرعية التي شرّعها الله لعباده في دينه، فإذا سار الناس في حياتهم العامة والخاصة على هذا الخط تحت عنوان الخير، فإنهم يقدّمون لأنفسهم خير الآخرة في رضوان الله ورحمته ونعيمه في جنته، ولا يضيع أيّ عمل من أعمالهم مهما كان صغيراً {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} فهذا هو العمل الذي لا يوافقه أيّ عملٍ من أعمال الدنيا مهما كان حجمها كبيراً، لأن القيمة ليست للطبيعة الذاتية للعمل، بل هي للعمق الروحي الذي يربط العمل بالله، لتتكامل الحياة كلها في الإنسان وفي غيره من مظاهر الوجود، في تجسيد معنى العبادة لله والتسبيح له.
وهذا ما يفرض عليهم أن يجعلوا كل أعمالهم في الدنيا حركةً من أجل الخير في الآخرة، {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} من كل ذنوبكم التي أذنبتموها في ابتعادكم عن مواقع طاعته، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو الذي يفتح أبواب مغفرته للمستغفرين الذين أخلصوا لله توبتهم، ويفتح أبواب رحمته للمسترحمين الذين يتطلعون إلى رحمته تطلّع الغريق للنجاة، فيجدون لديه كل عطف وعفو ورحمةٍ وحنان.
ــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:82ـ83.
(2) تفسير الميزان، ج:20، ص:84.
تفسير القرآن