تفسير القرآن
المدثر / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 7

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 7

سورة المدثر
مكية، وهي ست وخمسون آية

في أجواء السورة

وهذه سورة مكيّة من السور الحركية في بداية الدعوة، وقد ثار هناك حديثٌ حول توقيت نزولها، فقيل: إنها نزلت في أوائل البعثة وظهور الدعوة، حتى قيل: إنها أوّل سورةٍ نزلت في القرآن.

وقال بعضهم: إنها نزلت بعد سورة العلق، وذهب بعضهم إلى أن النازل أولاً هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة، ولازمه كون السورة لم تنزل دفعةً واحدةً.

واحتمل بعض آخر أن السورة كانت أوّل سورة نزلت على النبي(ص) بعد انقضاء المدّة السرّية، أي في أوّل المرحلة العلنية، حسب ما تحدث بعض مؤرّخي السيرة عن مرحلة سرّية للدعوة سبقت المرحلة العلنية لها، وبذلك جمع هذا البعض بين الروايات الواردة بأنها أول ما نزل، وما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، وما ورد من نزول هذه السورة مع سورة المزّمّل معاً... وقد جاء في صحيح البخاري ـ بسنده عن يحيى بن أبي كثير ـ قال: «سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن؟ فقال: {يا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؟ [العلق:1]، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت. فقال جابر: لا أحدِّثك إلا ما حدَّثنا به رسول الله(ص) قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثّروني وصُبُّوا عليّ ماءً بارداً قال: فدثّروني وصبُّوا علي ماءً بارداً، قال: فنزلت: {يا أيّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}»[1]. وهناك رواية مماثلة في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعتُ بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء، جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فَرُعِبْتُ منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، فأنزل الله تعالى: {يا أيّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. إلى.. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فَحَمِيَ الوحي وتتابع»[2].

ويعلّق صاحب مجمع البيان على ذلك فيقول: «وفي هذا ما فيه، لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيّرة، والآيات البيّنة، الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها، ولا يفزع ولا يفرق»[3].

ونحن نؤكد ما ذكره صاحب المجمع ـ في ملاحظته ـ لأن مثل هذا الجو الذي توحي به مثل هذه الروايات ليس هو الجو الذي يتناسب مع وعي النبيّ لدوره الرسالي ولرسالته، وفي الوقت الذي تفرض فيه النبوّة عليه أن يعيش الوضوح في الرؤية كأقوى ما يكون، وأن يمثّل القوّة في الموقف لدى الناس الذين يلتقيهم ليؤكد لهم صفته من خلال موقفه، فكيف يمكن أن يأتي من موعد الوحي مهتزاً خائفاً مرعوباً، كما يوحي به جوّ الرواية.

ومهما كان الأمر في الأقوال في مسألة وقت نزول السورة، فإن من المتّفق عليه أنها من السور المكية النازلة في أوائل الدعوة.

وقد انطلقت هذه السورة في نداءٍ صارخٍ متحرك للبدء بالإنذار في شروطه المادية والمعنوية التي يريد الله للنبي ولكل داعيةٍ من بعده أن يحيط بها موقفه ودوره، وفي وعيدٍ للمكذّبين في بعض نماذجهم في مكة، الذين كانوا يتهمون الدعوة بالسحر ليحوّلوا صورة النبي في نظر الناس إلى صورة الساحر الذي يسحر عقول الناس بدلاً من صورة النبي الذي يهديهم ، فيؤكد الله سبحانه وتعالى بأنهم سَيَصْلَوْنَ سقر. ثم يتحدث في نهاية السورة عن المجرمين الذين يدخلون سقر ليفصّل الأسباب التي أدّت بهم إلى هذا المصير الأسود، في ابتعادهم عن أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، وخوضهم بالباطل وتكذيبهم بيوم الدين، في أجواءٍ غير مسؤولة، لأنها لا تنطلق من تقدير الموقف على أساس الاستماع إلى حقائق الوحي، بل من الاستسلام للأهواء الذي يدفع بها إلى الإعراض عن التذكرة التي يثيرها الرسول، فهم سادرون في غيّهم، لاهون في عبثهم، مستغرقون في غفلتهم، فلا يستفيقون منها إلا أن يشاء الله، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

ــــــــــــــــــــ

الآيــات

{يا أيّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (1ـ7).

* * *

معاني المفردات

{الْمُدَّثِّرُ}: بتشديد الدال والثاء، أصله: المُتدْثِر اسم فاعل من التدثر، بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.

{وَالرُّجْزَ}: الرجز: بضم الراء وكسرها العذاب. وقيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق.

* * *

يا أيها المدثر، قم للدعوة وللعمل

{يا أيّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي المشتمل على ثيابه اتقاءً للبرد، أو طلباً للنوم، وربما لا يكون المعنى الحرفي مقصوداً بالكلمة، بل يكون المعنى الكنائي الذي يوحي بالاسترخاء والقعود والاستسلام للراحة، والبعد عن حركة المسؤولية في الفترة التي قد يعيش فيها الإنسان الشعور بعدم مسؤوليته عن الواقع من حوله.

{قُمْ فَأَنذِرْ} فقد بدأت الرسالة، وانطلقت في حركيتها في خط الدعوة التي قد تتحرك في أسلوب الهزّة الروحية التي تحتوي الحالة الشعورية للناس، لا سيما حين يعيشون الإحساس بالأمن والطمأنينة لمستقبلهم في الدنيا والآخرة، فلا يشعرون بأن العذاب الخالد ينتظر المكذّبين بالرسول وبالرسالة، ولا بدَّ للرسول من أن يتحرك ليواجه المجتمع وليهزّه وليثير مسألة الصراع في ساحته، وليؤكد موقفه في حركته، مهما كانت الأوضاع والتضحيات.

* * *

وربّك فكبّر

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} في إيحاءٍ قويّ بأن الله هو الأكبر، ليتصاغر كل أولئك الذين جعلهم الناس في موقع الآلهة على مستوى العقيدة أو العبادة، ليشعروا بأنهم في الموقع الصغير جداً، أمام الله الأكبر الذي هو أكبر من أن يوصف، لأن الخلق لا يستطيعون بلوغ كنه صفاته أو كنه ذاته، كما أنه أكبر من أن يشبّه به أحدٌ من خلقه، أو يبلغ مواقع عظمته.

قال في الكشاف في قوله: {فَكَبِّرْ} «إن الفاء دخلت لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره»[4].

وهذا ما يريد الله أن يوحي به إلى الرسول في صفته الحركية كداعية، وإلى كل داعية من بعده، بأن يطلق كلمة التكبير في وجدانه وفي لسانه، ليؤكد عمق التوحيد في موقفه من خلال التطلّع إلى الله الأكبر الذي لا يدانيه شيءٌ، وليستوحي منها القوّة الروحية التي تستمد معناها من مضمون المعنى الذي تتحرك فيه الكلمة، فإذا كان الداعية متحركاً من خلال الأكبر فما قيمة كل الأصاغر الذين يعارضونه أو يحاربونه، وإذا كان الله هو الأكبر، فما قيمة كل الذين يؤكدون مواقعهم في موقع الألوهية أمامه، الأمر الذي يمنح الداعية قوّةً وامتداداً في طريق الدعوة إلى الله، فلا يسقط أمام الضغوط، ولا يتراجع أمام التحديات.

* * *

وثيابك فطهّر

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ربما كان المراد بذلك نظافة الثوب وطهارته من النجاسات والأقذار، فالله يريد للداعية، رسولاً كان أو غيره، أن يظهر بالمظهر النظيف الخالي من الأقذار، لأن الظهور بمظهر القذارة قد يبعد الناس عن احترامه، وعن الراحة في النظر إليه والانسجام معه في المجتمع، وقد يكون تفسير التطهير بتقصير الثياب، باعتبار ما يستلزمه ذلك من النظافة بارتفاعها عن قذارات الأرض.

وربما كان المقصود به المعنى الكنائي، بأن ترمز طهارة الثياب إلى طهارة الذات والأخلاق، بحيث لا يلحقه شيءٌ من القذارة الروحية والفكرية والعملية، وهذا ما ورد التعبير عنه بطهارة الذيل ونقاوة الثياب ونحو ذلك... ولعلّ هذا هو الأقرب إلى جوّ الساحة الرسالية التي تفرض في الداعية أن يملك النقاء الأخلاقي الذي يجعله في مستوى التلقّي للوحي الطاهر، وفي مستوى القدوة للآخرين، لأنه إذا لم يكن نقياً في ذاته، طاهراً في أخلاقه، فإنه لا يستطيع أن يحصل على الثقة برسالته، كما أنه لا يملك أن يمنح الناس شيئاً من حركة الطهارة في مضمون الرسالة، لأن الناس يعملون دائماً على المقارنة بين الرسالة والرسول، كما أن فاقد الشيء لا يعطيه.

وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أن الداعية يتعرض للكثير من ألوان الإِغراء التي تهدّد سلامته الروحية، ومناعته الأخلاقية، فإذا لم يكن في المستوى المتوازن من الطهارة الرسالية، كان معرّضاً للسقوط أمام تلك الإغراءات، ممّا يمنعه من الاستمرار في أداء رسالته.

* * *

والرّجز فاهجر

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قيل: الرجز العذاب، والمراد بهجره هجر سببه، وهو الإثم والمعصية، وقيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق، وقيل: الرجز: هو الصنم، فيكون كنايةً عن الشرك.

وفي جميع المعاني، تتضمن الفقرة توجيه النبي إلى هجران الأمور التي تتنافى مع المضمون الحيّ لرسالته، لأن التلوّث بالخبث الروحي أو الفكري أو العملي، يعني الانفصال عن خط الرسالة، والاستسلام للوضع المنحرف الذي يحوّله إلى إنسانٍ منحرفٍ خبيث، لا يستطيع أن ينطلق بخفّة الروح، وطهارة الضمير، وسلامة الخط، واتّزان الحركة في خطواته، ممّا يبتعد به عن الوصول إلى النتائج الكبيرة التي يتحرك في اتجاهها في الدعوة... وقد نستوحي من كلمة الهجر للرجز بجميع معانيه، أن الدعوة لا بد من أن تتحرك في خطين: خطٍّ إيجابيٍّ يلتزم الأخذ بكل طاهرٍ وحسنٍ، وخطٍّ سلبيٍّ يلتزم الإِعراض عن كل رجس وقبيح، انطلاقاً ممّا يمثّله السير على خط الإسلام، والابتعاد عن خط الجاهلية.

* * *

لا تمنن تستكثر

{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي لا تشعر بالمنّ على الناس عندما تكابد الجهد في الدعوة، وفي الرعاية والخدمة، لتحس بأنك قدمت الكثير عندما تجد ما أعطيته لهم كثيراً، في إحساسٍ بالعجب في داخل الذات، وبالإذلال للناس، بل لا بد لك من الشعور بأن ذلك كلّه يمثّل مسؤوليتك التي حمّلك الله إياها في ما أولاك من نعمه، باعتبار أن ذلك من حقّ الله عليك الذي لا بدّ لك من أن تقوم به طلباً لرضاه وشكراً لنعمه، وأنه من حق الناس عليك، أمرك الله بأدائه إلى كل من يحتاج الهداية والرعاية والعناية، وبذلك لا يبقى هناك معنًى للمنِّ، ما دام ذلك هبةً من الله، ولا معنى للاستكثار، لأن الله يريد للإنسان أن لا يُخرج نفسه من حدّ التقصير، فلا يبلغ درجةً إلاَّ ويحاول أن يرتفع إلى ما هو أعلى منها، ولا يقوم بعطاءٍ إلا ويجد من نفسه ضرورة التوفّر على عطاءٍ أكثر منه.

* * *

ولربِّك فاصبر

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} فسوف تلاقي الكثير من تكذيب المكذبين وتعنّت الكافرين، واستكبار المستكبرين، وسخرية الساخرين، واضطهاد الظالمين، وسوف تواجه الضغوط العنيفة التي يضغطها كل هؤلاء في وجهك، كما تلتقي بالحواجز التي ينصبها المضللون في طريقك، فلا بدّ لك أن تصبر لحساب ربك، لا لحساب ذاتك، لأنك لا تعمل لذاتك ولا تواجه الاضطهاد من خلالها، بل تعمل لله في الدعوة إلى دينه والجهاد في سبيله، وفي هذه الحالة فإنهم لا يكذّبونك، ولكنهم يكذّبون الله، ولا يسخرون منك بل يسخرون من وحي الله، لذا لا تضعف أمام نوازع الضعف التي يثيرونها في داخل ذاتك، بل حاول أن تضغط على أعصابك، وأن تثبّت مشاعرك، فتتحمل الحرمان والتشريد والألم القاسي والتهديد بالقتل ونحوه في عمق المضمون الروحي للصبر، طلباً لمرضاة الله، وذلك هو سرّ القوة التي يمنحها الله من خلال الصبر لرسله وللدعاة إلى دينه.

ــــــــــــــــــــ

(1) البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله(ص) وسننه وأيامه، دار إحياء التراث العربي. بيروت ـ لبنان، ج:3، ص:317، حديث:4933.

(2) (م.ن)، ج:1، حديث:4922.

(3) مجمع البيان، ج:10، ص:579 ـ 580.

(4) تفسير الكشاف، ج:4، ص:180.