تفسير القرآن
المدثر / من الآية 11 إلى الآية 30

 من الآية 11 الى الآية 30
 

الآيــات

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا* وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآياتِنَا عَنِيداً* سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً* إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ* سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ* لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ* لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ* عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (11ـ30).

* * *

معاني المفردات

{مَّمْدُوداً}: أي: مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بمدد النماء.

{تَمْهِيداً}: التمهيد: التهيئة.

{سَأُرْهِقُهُ}: الإرهاق: الغشيان بالعنف.

{صَعُوداً}: الصعود: عقبة الجبل التي يشق مصعدها.

{عَبَسَ}: العبوس: تقطيب الوجه، قال في المجمع: وعبس يعبس عبوساً: إذا قبض وجهه، والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر، وضدها الطلاقة والبشاشة[1].

{وَبَسَرَ}: البسور: بدو التكرّه في الوجه.

{أَدْبَرَ}: الإدبار عن شيء: الإعراض عنه.

{وَاسْتَكْبَرَ}: الاستكبار: الامتناع كبراً وعتوّاً.

{سِحْرٌ يُؤْثَرُ}: أي: يُروى ويتعلَّم من السحرة.

{سَأُصْلِيهِ}: سأدخله.

{سَقَرَ}: من أسماء جهنم في القرآن، أو دركة من دركاتها.

{لَوَّاحَةٌ}: اللوّاحة من التلويح، بمعنى تغيير اللون إلى السواد، وقيل: إلى الحمرة.

{لِّلْبَشَرِ}: البَشَر جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور: «أخرج الحاكم وصحّحه، والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلّم) فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً.

قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكرٌ أو أنك كارهٌ له.

قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بشاعر الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: دعني حتى أفكر، فلما فكّر قال:هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}[2].

* * *

طريقة المشركين في إبعاد الناس عن النبي(ص)

هذه هي قصة هذه الآيات في سبب نزولها، كما رواها الرواة، فإذا صحت، فإنها تعطينا الفكرة عن الطريقة التي كان يحاول أبو جهل والمشركون معه أن يحاصروا النبي في دعوته، فلا يسمحون لأحدٍ أن يلين قلبه للقرآن، أو تنفتح روحه للنبي في عملية تأثرٍ ورقّةٍ، لأنهم يخشون أن يتحوّل هذا التعاطف إلى انفتاحٍ على الإِسلام من نافذة القلب والشعور، من خلال كلمات القرآن القريبة للعقل والوجدان. فلما رأوا الوليد بن المغيرة، وهو من شيوخ قريش، قد رقّ قلبه ولان لكلمات الإسلام، أرادوا أن يخوّفوه من غضب قومه عليه، بعد أن عرضوا عليه المال ـ وهو في غنًى عنه ـ وقد اتهموه بأن رقّته أمام القرآن لم تكن عن قناعةٍ، بل كانت عن طمع بالمال الذي يمكن أن يقدّمه إليه النبي(ص) الذي لم يعهد فيه أنه يملك المال الوفير الذي يؤلّف به قلوب الكافرين في تلك المرحلة، وهي مرحلة الدعوة الأولى التي كان النبي(ص) يعاني فيها قسوة الأحوال المادية... فما كان منه، بعد أن حاول الدفاع عن تهمة النبي بالشعر، إلا أن يطلق عليه كلمة السحر التي وجد لها مخرجاً، باعتبار أنها تشبه السحر في تفريق الأب عن ابنه، وتفريق الابن عن أبيه، مما أرضى أبا جهل وقومه، سيّما بعد أن عاد إلى مواقعه الكافرة.

* * *

استيحاء الآيات في حركة الإسلام المعاصرة

وهذا هو ما نلاحظه في الطريقة التي يحاول فيها أعداء الإسلام أن يثيروا الناس حول العاملين لله، المجاهدين في سبيله، حيث يُعمل على محاصرة كل كلمة خيرٍ يمكن أن تنطلق وتتحرك من أيّة جهةٍ إعلاميةٍ أو سياسية أو اجتماعية، مما يدخل في الإِشادة بالإسلام وبالدعاة إليه، ليحوّلوا هذا الجانب الإيجابيّ إلى جانبٍ سلبيٍّ، كما أننا نلاحظ أسلوب اختيار أجهزة المخابرات في الجانب الإعلامي الكلمات التي تعمل على تشويه صورة الإسلاميين الملتزمين، مما يمكن أن يثير الناس ضدّهم، وذلك عندما يثيرون المضمون السياسي أو الديني الذي يمثل الصورة السلبية المنفّرة للفكر والشعور.

* * *

تهديدٌ إلهيّ للمعتدي المتكبّر

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إنه التهديد الإلهي الذي يطبق على هذا الإنسان المعتد بقوّته، المنفتح في كبريائه، فيتحوّل إلى حشرةٍ صغيرةٍ لا تتماسك في شيءٍ. إن الله يذكّره بأنه قد خلقه وحده من دون أن يشاركه أحدٌ في ذلك، أو يكون المعنى أن يدعه مع هذا المخلوق الذي خلقه وحده لا مال له ولا بنين، معلناً: إنني الذي أتكفل بعذاب هذا الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً.

{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} أي مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بنمائه... {وَبَنِينَ شُهُوداً} لهم حضورهم البارز في حركة القوّة لديه، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي سهّلت له الحياة، وهيأت له كل شروطها في سعة المال والجاه وانطلاق الأمور العامة والخاصة.

* * *

جزاء المكابر المعاند لآيات القرآن

{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} في ماله وجاهه، لأنه لا يقنع بما أعطيته، بل يطلب المزيد، وهو في الوقت نفسه، سادِرٌ في غيّه، ممتدٌّ في كفره.

{كَلاَّ} كلمة ردعٍ عنيفة توحي بالرفض الشديد له، فلن يرحمه الله أو يفيض عليه من لطفه، وإنما يملي له ليزداد إثماً في دخوله التجربة الحيّة التي يتميز بها الشاكر من الكافر.

{إِنَّهُ كان لآياتِنَا عَنِيداً} فهو لا يواجهها بمنطق التفكير الباحث عن الحقيقة من خلال التأمّل والحوار مع الآخرين، بل يواجهها من موقع العناد المستكبر الناتج عن العقدة الذاتية المستعصية التي تصرّ على الاستغراق في الفكر الموروث من خلال علاقته بأنانيته الذاتية.

{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي سأثير في حياته الإِرهاق الذي يحرّك الآلام القاسية واللّهاث الشديد، كتعبير عن المشقة التي يعانيها الإنسان عند صعود الجبل، وقد يكون ذلك وارداً على سبيل الكناية عن العذاب الذي ينتظره في جهنم في عقبات النار الوعرة الصعبة الصعود.

{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} لقد كان يعيش في حيرة الإنسان الباحث عن ثغرةٍ في شخصية النبي محمد(ص)، لينفذ منها لتشويه صورته في نظر الآخرين، وعن ثغرة في آيات القرآن، في كلماته وأسلوبه ومعانيه، ليجد فيها بعض النقص الذي يستطيع من خلاله أن يبعد الفكرة التي توحي للناس بأنه وحي من الله، وهكذا فكّر... وعصر فكره، وأثار كل الاحتمالات، فلم يصل إلى نتيجة... وتنظر إليه يقطب وجهه تارةً، ويمسك رأسه بيديه أخرى، ويقلب عينيه في السماء ثالثةً، لعلّ فكرةً تأتي من هنا وهناك، فأدار القول في نفسه في عملية ترتيبٍ للأفكار الحائرة الباطلة في حركة المواجهة للحقّ، {فَقُتِلَ} إنه الدعاء عليه بالهلاك لإِساءته إلى معنى الفكر في عقل الإنسان الذي يريد أن يبني الخير في الحياة، ويفسح المجال لاكتشاف المزيد من مواقع الحق، {كَيْفَ قَدَّرَ} وأعطى خيال الشرّ في ذاته ليثير كلمة الباطل في المجتمع.

ويتكرر الدعاء والاستنكار لتأكيد خطورة القضية {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}... ثم تتبدل ملامحه في صورةٍ كريهة، {ثُمَّ نَظَرَ} في موقفٍ استعراضيٍّ يوحي بالحيرة التي تطوف به في جولةٍ حول الخيال، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أي كلح وجهه ونظر بكراهةٍ شديدة، متهيئاً لأخذ وضعية متحفزة، {ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحقيقة التي كانت واضحةً في وحي الله، {وَاسْتَكْبَرَ} عن الإذعان له في ما يفرضه الوجدان من قناعةٍ مؤكدةٍ، لأن المشكلة في هؤلاء المستكبرين أنهم يعتبرون ذاتهم كل شيء في تقييم الحقيقة، فلا يتحركون أبعد من تلك الدائرة التي يحصر بها الكافرون ذواتهم.

* * *

اتهام النبي بالسحر

وماذا بعد كل هذه الحصيلة من الجهود الجسدية والذهنية التي بذلها في محاولة اكتشاف الكلمة التي يردّ بها على القرآن وعلى النبي، {فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يُروى عن السحرة، وقيل: هو من الإِيثار، أي سحر تؤثره النفس وتختاره لحلاوته، {إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} تماماً كما هو كلام السحرة وفعلهم، وليس من قول الله. ولكن كيف كان هذا الاستنتاج؟ وكيف هو معنى السحر فيه، وللسحر قواعده وأصوله وأشكاله؟؟! ما هي إلاّ الكلمة التي يطلقها صاحبها لتثير جوّاً من الشك والحَيْرة والإنكار من دون تركيزٍ على العمق في مضمون الحقيقة الصارخة، لأن المقصود هو إثارة الارتباك في الساحة، لا محاولة الوصول إلى النتائج الحاسمة من خلال الحوار. وهذا هو ما يفعله الكثيرون من الناس الذين يعملون في أجهزة المخابرات التي تثير الإشاعات والأقاويل بطريقة تستفزُّ بها مشاعر الناس وغرائزهم بعيداً عما تدركه عقولهم، وذلك من خلال الأجواء الانفعالية التي تصنعها من أجل الوصول إلى الأهداف السيّئة.

ولو كان الجوّ جوّ حوار، لأمكنهم أن يفهموا بأن كلام السحرة يمكن أن يتحداه السحرة الآخرون، لأنهم يعرفون أصول السحر من الناحية الفنية، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، فالقضية فوق مستوى البشر، لأنها من كلام الله.

* * *

ترهيب المكابرين بوصف جهنّم

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} التي هي اسمٌ من أسماء جهنم، أو منطقةٌ من مناطقها، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} وليس هذا التساؤل للاستفهام ولكنه للتهويل الذي يهزّ مواقع الخوف في الذات، ويحرّك مكامن الرعب في الجوّ المحيط به، {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} لأنها تجتاح كل شيء، فلا تبقي لحماً إلا أكلته، ولا يبقى وراءها شيء، ولا يفضل منها شيء، {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} أي لافحة للجلود حتى تدعها أشد سواداً من الليل، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} من الملائكة الذين يحرسون جهنم ويقومون بالمهمات الموكلة إليهم من قبل الله، فينفذونها بكل دقّةٍ وإخلاص، لأنهم من عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وهكذا ينتهي الحديث عن هذا الإنسان الحاقد الذي يبثّ كل حقده في وجه الرسالة والرسول... ولنا ملاحظة مفادها أن الصورة التي تنقلها الرواية عن الوليد تختلف عن الصورة التي تنقلها السورة في هذه الآيات، لأن صورته في الرواية هي صورة الإنسان الذي خشع قلبه ورقّ لآيات الله، ولم ينطلق في حديثه عن النبي إلا بطريقةٍ موضوعيةٍ تناقش كل ما أثاروه حوله من صفة الشعر والكذب والكهانة، ولم ينطق بتهمة السحر إلا بعد الضغط عليه من أبي جهل في كلماتٍ مثيرةٍ تهديديةٍ، تشير إلى ما يمكن أن يتعرض له من أعمالٍ ضاغطةٍ صعبةٍ يمارسها قومه، أمّا في السورة، فإن الصورة تمثل الإنسان العنيد الذي لا ينفتح قلبه لآيات الله، فيبادر من خلال حقده الذاتي، وعقدته الخاصة، ليثير الموقف ضد النبي(ص)، بكل الوسائل العدوانية التي تبعد الناس عن الانفتاح عليه كرسولٍ من قبل الله.

ــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:10، ص:583.

(2) الدر المنثور، ج:8، ص:330.