من الآية 38 الى الآية 56
الآيــات
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إلاّ أصْحَابَ اليَمِين* في جَنّاتٍ يتَساءلُون* عَنِ المُجْرِمين* مَا سَلَكَكُم فِي سَقَرْ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّين* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِين* وكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين* وكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدّين* حتّى أتَانا اليَقِين* فمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشّافِعِين* فمَا لَهُم عَنِ التّذْكِرَةِ مُعْرِضِين* كأنّهُم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة* فرَتْ مِن قَسْوَرة* بَلْ يُرِيدُ كُلّ امْرىءٍ مِنْهُم أن يُؤتَى صُحُفاً مُنَشّرة* كلاّ بلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَة* كَلاّ إنّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شآءَ ذَكَرَهُ* ومَا يذْكُرُونَ إلا أنْ يشآء الله هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ المغْفِرَة} (38ـ56).
* * *
معاني المفردات
{أَصْحَابَ الْيَمِينِ}: هم الذين يُؤتَوْن كتابهم بأيمانهم يوم الحساب.
{سَلَكَكُمْ}: أدخلكم.
{نَخُوضُ}: الخوض: الاشتغال بالباطل قولاً أو فعلاً والغور فيه.
{بِيَوْمِ الدِّينِ}: يوم الجزاء.
{حُمُرٌ}: جمع حمار، والمراد: الحمر الوحشية.
{مُّسْتَنفِرَةٌ}: الاستنفار بمعنى النفر.
{قَسْوَرَةٍ}: القسورة: الأسد والصائد، وقد فسر بكلٍّ من المعنيين.
{صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}: المراد هنا: الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.
{تَذْكِرَةٌ}: موعظة.
{فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}: اتّعظ به.
* * *
كل نفس بما كسبت رهينة
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} هذه هي المعادلة الإنسانية في حساب الله، فقد جعل الله الإنسان يساوي عمله، وجعل العمل عنواناً للمصير المحتوم في الدار الآخرة، ما يجعل الإنسان مرهوناً بعمله، محبوساً في دائرته، فإذا كان عمله خيراً وطاعةً، أطلقه الله لينطلق بكل حريته الروحية إلى جنات النعيم، وإذا كان عمله شرّاً ومعصية اشتد حبسه في دائرة الضيق والضنك، ليدخل إلى سجن جهنّم الذي لن يخرج منه أبداً.
ولكنّ هناك جماعةً من الناس قد أخلصت لله حتى عاشت الصفاء الروحي والاستقامة العملية في الآفاق الكبيرة المنفتحة على الله في رحاب رحمته ورضوانه، وهم أصحاب اليمين الذين يتميّزون عن الناس بعمق العقيدة وامتداد العمل وإخلاص الروح لله، وهؤلاء هم الذين أطلقهم الله من الارتهان، لأنهم عاشوا مع الحرية بعدما استطاعوا تحرير إرادتهم من الخضوع للشيطان، ولهذا كانوا في دائرة الاستثناء.
{إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} الذين أخذوا مواقعهم في الدرجات العليا في الحياة، وأعطاهم الله الموقع الذي يستطيعون من خلاله أن يوجهوا أسئلتهم للمجرمين الذين كانوا على علاقةٍ بهم في الدنيا لقرابةٍ أو صداقةٍ أو جوارٍ أو نحو ذلك... وها هم {فِي جَنَّاتٍ يَتساءَلُونَ*عنِ الْمُجْرِمِينَ} الذين كانت حياتهم تجسيداً للجريمة بعد ممارستهم للمحرّمات التي تمثل الدائرة التي أراد الله لهم أن يخرجوا منها، أو تركهم الواجبات التي أراد الله لهم أن يتحركوا في داخلها، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ما هو السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة، وألقاكم في وادي جهنم؟!
* * *
أسباب دخول الناس إلى النار
{قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} في ما تمثله الصلاة من الصلة بالله، والانفتاح عليه، والعروج الروحي الذي يصعد الإنسان من خلالها إليه، ما جعلنا بعيدين عن مواقع رحمته، وقريبين من مواضع غضبه وسخطه.
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} فقد كان البخل هو الخُلُق الذي نتّصف به في مواجهتنا لحالات الحرمان التي يعيشها الناس، فإذا رأينا مسكيناً يعاني من الجوع والعطش والعري رفضنا إعانته، وقلنا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ونحو ذلك مما يتعلق بالحالات الأخرى للحاجة، الأمر الذي جعل قلوبنا فارغةً من الرحمة، مملوءةً بالقسوة، مغلقة عن كل المشاعر الإنسانية الحميمة، وبعيدةً عن كل معاني المسؤولية.
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ} في وحول الأفكار والمواقف والكلمات غير المسؤولة، فلم تكن عندنا قاعدةٌ فكريةٌ ننطلق منها لنحدد مواقفنا على أساسها، ولم يكن لدينا منطلقٌ للانتماء لنتعرف من خلاله على مواقعنا. وعلى ضوء ذلك، كنَّا نحدّق بالناس أين يتحركون لنتحرك معهم، وكنا نلاحق الأوضاع كيف تتغير لنتغير معها، وكانت أحاديث الناس التي تدور حول شخص ما، أو جهةٍ معينة، هي الأحاديث التي ننفتح عليها، ونندمج فيها، ونتبنى كل أفكارها، لنردّدها مع الذين يرددونها، أو لنؤيدها مع الذين يؤيّدونها، فليست المشكلة عندنا انسجامها مع الحقيقة، بل المشكلة هي كيف ينظر الناس إليها، وكيف يلتزمونها في الوجدان العام، وهذا الذي جعلنا نخطىء من حيث لا يجوز لنا الخطأ، ونظلم من لا يستحق الظلم، ونحكم بالباطل من دون حجّة، ونتنكَّر للحق من دون أساس، لأننا كنّا لا نعيش فكرنا بفعل ما ينتهي إليه العقل من نتائج، ولا تتحرك مسؤوليتنا بفعل ما تحدده المسؤولية لنا من مواقع، بل كان الآخرون هم الذين يحدّدون لنا ذلك كله، ولهذا فقدنا رضوان الله علينا، لأن الله يرضى عن الذين يملكون الحجة من حيث يملكون حركة عقولهم، ويواجهون القضايا من موقع المسؤولية الواعي، بين يدي الله.
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء الذي يقف فيه الناس جميعاً للحساب، ليحاسبهم الله على ما عملوه من خيرٍ وشرٍّ، وكان لهذا التكذيب أثره في إبعادنا عن مراقبة أعمالنا وأقوالنا وعلاقاتنا في خط المسؤولية أمام الله، بل كانت كل اهتماماتنا في مصالحنا الدنيوية وأهوائنا الذاتية، لأننا كنا نعتبر الحياة التي نحياها نهاية المطاف، فلم يكن لدينا أيّ مبرر للتفكير بما هو خارج الحياة، مما يختزنه الغيب الذي لم يكن لنا سبيلٌ إلى الإحساس به، ولم تكن الرسالات التي جاء بها الرسل واردةً في حسابنا كمصدرٍ لمعرفة الحقيقة، لأن نوازعنا الذاتية، وتقاليدنا التاريخية، كانت ترفض ذلك، وهذا ما جعلنا نصل إلى الدار الآخرة من دون أيّة فرصةٍ للخلاص.
{حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ} وهو الموت الذي لا بد منه، حيث انفتحت أمامنا كل الآفاق الغيبية الجديدة التي لا عهد لنا بها، ووقفنا نحدّق بالمشاهد الخارقة للقيامة في مواقف الحساب بين يدي الله وفي نتائجه المتحركة بين الخير الذي يدفع بصاحبه إلى الجنة، وبين الشرّ الذي يدفع بصاحبه إلى النار... وهكذا كانت المفاجأة التي لم نحسب لها أيّ حساب، ولم يكن لنا مجال للرجوع، لأن الآخرة هي نهاية المطاف التي لا رجوع عنها.
* * *
الشفاعة لمن يرتضي الله
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} لأن الشفاعة تخضع للقواعد التي يضعها الله للناس الذين يرتضي شفاعتهم ليكرمهم بذلك في الآخرة من خلال حكمته، فلا تتحرك الشفاعة إلا في أجواء الإيمان بالله وبالرسل وبالآخرة، بما يستتبعه ذلك من قواعد لضبط القول والعمل على خط المسؤولية، فكيف ينتفع بها هؤلاء الذين لا يصلّون ولا يزكّون ولا يؤمنون بالآخرة، ويتحركون في المواقف من دون قاعدة.
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} ما هو السبب الذي يمنعهم من الإِقبال على الحقائق الفكرية، المتصلة بعقيدة التوحيد وباليوم الآخر، من خلال الآيات القرآنية التي بلّغها الرسول(ص)، لتفتح عقولهم على آفاق الحق، ليتذكروا وليفكروا، ليتعرفوا على عمق الفكر الذي يقودهم إلى سلامة المصير؟!
إنه السؤال الذي يطرح نفسه على كل واقع الغفلة المطبقة على عقول الناس الذين يرفضون أيّة تذكرة تنقذهم منها. هل هي الألفة التي عاشوها في داخلهم لعقائدهم الضالّة، فلا يطيقون الابتعاد عنها، أو هي الامتيازات الذاتية أو الطبقية التي حصلوا عليها في مواقعهم الاجتماعية، فيخافون من زوالها إذا انفتحوا على الإيمان بالله، أو هي حالة التخلّف الفكري والانحطاط الروحي اللذين يمنعانهم من الدخول في حالة الوعي الجديدة، المنفتحة على المسؤولية الفكرية والروحية في مضمون الرسالة الجديدة، فلا يجدون أمامهم إلا النوافذ المغلقة؟؟!
إنها مشكلة الإنسان البعيد عن الحق في كل زمان ومكان.
* * *
فرار المشركين من الهدى
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} أرأيت الحمر الوحشية التي تعيش حالة الاستنفار والذعر التي تدفعها إلى الهرب، {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} وهو الأسد الذي يلاحقها ليفترسها. إن حالة المشركين شبيهة بحال هؤلاء في فرارهم من الرسول وهو يدعوهم إلى الهدى، إذ يخيل إليهم أنه يهجم عليهم ليفترس أفكارهم الضالّة، وتقاليدهم البالية، فيهربون من بين يديه، خوفاً من أن ينفذ إلى قناعاتهم فينزع عنها كل تلك الأغشية الجاهلية التي كانت تحجب نور الحقيقة عنهم.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أي أن المسألة قد لا تكون مسألة غفلة أو خوفٍ ونفرة، بل هي حالة الاستكبار الذي يعيشونه في شخصياتهم، فيُخيّل إليهم أن مستواهم ليس هو مستوى الناس الذين يرسل الله إليهم رسولاً لا يملك المستوى الذي يملكونه في الوسط الاجتماعي، بل لا بد من أن ينزل الله على كل واحدٍ منهم كتاباً سماوياً خاصاً به ليتناسب ذلك مع طموحاتهم الذاتية.
وقد لا تكون هذه الطروحات حقيقية في ما يفكرون به، بل قد تكون مسألة تحدٍّ للنبي(ص) في ما يدعوهم إليه، ليعطّلوا عليه حركة الدعوة في مجتمعاتهم، لأنهم يعرفون أنه لا يستجيب لهم في ذلك، لأنه طلب غير معقول وغير واقعي، لأن قضية الرسالة ليست عبثاً يخضع للتمنيات، ولكنها حاجةٌ واقعيةٌ تنبعث من إرادة الله المنطلقة من الحكمة الإلهية في إرسال رسله وإنزال رسالاته.
* * *
لا يخافون الآخرة
{كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرةَ} إنه الرفض لكل كلماتهم، لأن المسألة في طلبهم هذا، إذا كانت مسألة البرهان الذي يثبت حقيقة الرسالة، فإن الرسالة التي جاء بها الرسول تملك الكثير من البيّنات على ذلك، لكنهم ليسوا جادّين في طلبهم، بل المسألة أنهم لا يحسبون حساباً للآخرة وما فيها من أهوال وآلام وعقوبات وإلا لَدَفَعَهُم الخوف من الآخرة إلى مواجهة المسؤولية الرسالية من موقع الحوار الهادىء القائم على التفكير والتأمل الهادىء.
* * *
ما القرآن إلا تذكرة
{كَلاَّ} فلا قيمة لهم، ولن يستجيب الله لاقتراحاتهم، {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} فهذا القرآن أنزله الله ليكون تذكرةً تكشف الحقيقة، وترشد إلى المنهج السليم للوصول إليها عبر صنع الوجدان الفكري والروحي للإنسان {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}.
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} لأن للذكرى أسبابها الداخلية في عمق النفس الإنسانية، والخارجية في الظروف المحيطة بها، وذلك من خلال القوانين التي أودعها الله في الطبيعة الإنسانية وما يتصل بها من أوضاع وأحداث، وهي من الأمور الخاضعة لتقدير الله من جهة هذا الرابط بين فعل الإنسان وإرادة الله.
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} الذي ينبغي أن يُتَّقى في ما يراقب الإنسان فيه نفسه، {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} في ما يتعلق به الإنسان من مغفرته للذنوب التي جناها على نفسه، مما يوحي بالولاية الإلهية المهيمنة على الإنسان كله في خط الهداية وفي خط المغفرة.
تفسير القرآن