تفسير القرآن
القيامة / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 15

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 15
 

سورة القيامة
مكية، وهي أربعون آية

في أجواء السورة

وهذه السورة من السور المكية التي كانت تعالج مسألة الإيمان في المجتمع الجاهلي الذي استغرق في الجانب المادي حتى حوّل المادة إلى إله، وعدّد نماذجها ليعدّد الآلهة من خلال ذلك، وأغلق كل نوافذ النفس عن مشارق النور، فلم يسمح لعلامات الاستفهام أن تتحرك لمواجهة الحقيقة، ولم يوح للفكر بأيّة فرصة لنقد الواقع الذاتي والموضوعي، فلا انفتح على أفكار القيامة في اليوم الآخر، ولا على النفس الإنسانية في نوازعها وهواجسها. إن هذه السورة التي نبّهت الإنسان إلى يوم القيامة، طافت به في آفاق وجوده منذ أن كان نطفةً حتى تحوّل إلى إنسان ينقسم في نوعيته إلى الذكر والأنثى، ليؤكد له جدّية خلقه، فلا يمكن لله أن يتركه سدى، بل حمَّله المسؤولية من خلال الكتاب الذي أنزله على رسله، ومنه القرآن الذي أشارت السورة إلى أن الله يتكفل بجمعه وقرآنه، ويسهّل على الناس معرفته وبيانه، إذ ليس هناك مشكلةٌ من هذه الجهة. ثم تثير السورة مسألة قدرة الله على إحياء الموتى من خلال قدرته على تنمية الحياة، فالنطفة تتطور إلى علقةٍ فإلى خلقٍ سويٍّ، وقدرته على تسوية أصابعه التي هي النموذج البارز في دقة القدرة في خطوطها المتشابكة الدقيقة التي تتقدم في طبيعتها الإبداعية وصعوبتها الوجودية على ما يستبعده الكافرون من جمع العظام... وهكذا كان يوم القيامة يمثِّل حقيقةً كونيةً إيمانيةً سوف يواجهها الإنسان عند تغير المشاهد الكونية التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب، ما تجعله يشعر بالحاجة إلى الفرار، ولكن إلى أين؟ ليس هناك إلاَّ الله الذي يقف الإنسان أمامه غداً ليعرّفه ما قدّمه وأخّره.

ويأتي دور النفس اللوّامة في حركة الإنسان في الحياة لتقوم معه بعمليةٍ نقديّةٍ لكل أعماله وأقواله وأوضاعه وعلاقاته، ليتوازن في دنياه، وليعرف نفسه، وليكون على بصيرةٍ من أمره، فهو الذي يعرف نقاط ضعفه أكثر مما يعرفها الآخرون، بعيداً عن الأعذار التي يحاول أن يغطّي بها ذلك.

وهكذا قامت هذه السورة بجولةٍ متحركةٍ في أكثر من موقعٍ، لكنها تمحورت حول الحديث عن يوم القيامة، باعتبار أن هذا اليوم يمثل العنوان الكبير لكل مفردات الحياة الإنسانية التي يريد الله لها أن تكون متحركةً في خط السلامة في الآخرة.

ــــــــــــــــــــ

الآيــات

{لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ* بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ* فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ* كَلاَّ لاَ وَزَرَ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ* يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ* بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (1ـ15).

* * *

معاني المفردات

{بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}: نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية.

{أَيَحْسَبُ}: الحسبان: الظن.

{بَنَانَهُ}: البنان: الأصابع. وتسوية البنان: تصويرها على ما هي عليه من الصور.

{لِيَفْجُرَ}: قال الراغب: الفجر شق الشيء شقاً واسعاً. قال: والفجور شق ستر الديانة، يقال: فجر فجوراً فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة[1].

{بَرِقَ الْبَصَرُ}: بريق البصر: تحيّره في إبصاره ودهشته.

{وَخَسَفَ الْقَمَرُ}: خسوف القمر: زوال نوره.

{أَيْنَ الْمَفَرُّ}: أين موضع الفرار.

{وَزَرَ}: الوزر: الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما.

{بَصِيرَةٌ}: رؤية القلب والإدراك الباطني، والمراد بالبصيرة: الحجة.

{مَعَاذِيرَهُ}: المعاذير: جمع معذرة، وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب.

* * *

لا أقسم بيوم القيامة.. ولا بالنفس اللوّامة

{لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قيل: إن «لا» ردٌّ على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين، فكأنه قال: لا، كما تظنون، ثم ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون، ليكون فرقاً بين اليمين التي تكون جحداً وبين اليمين المستأنفة، وقيل: إنها زائدة، وقيل: معناه لا أقسم بيوم القيامة لظهورها بالدلائل العقلية والسمعية، وقيل: معناه لا أقسم بيوم القيامة فإنكم لا تقرّون بها، ولعل أقرب الوجوه هو الوجه الثالث الذي يجعل من الكلمة إيحاءً بالقسم على أساس أنه في مستوى القسم به، ولكن لا ضرورة لذلك، لأن الوضوح يوحي بأن الحقيقة لا تحتاج إلى تأكيدٍ بالقسم، فهي تفرض نفسها على الوجدان بشكلٍ مباشرٍ.

{وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي لا أحتاج إلى القسم بها، مع أنها في مستوى القسم من خلال قيمتها في ميزان حركة الوجود الإنسانية في ارتفاعه إلى الأعلى، باعتبار أنها تعمل على تخفيف الأثقال الروحية والأخلاقية التي تشدّ الإنسان إلى الأسفل، لينطلق من موقع إنسانيته في حالات الصفاء الروحي الذي ينفتح به على الله، وبذلك كانت تمثل قمّة النموذج الإنساني في أصالة التجربة الحيّة الواعية في حركة الحياة في داخله.

* * *

ما هو مفهوم النفس اللوّامة؟

ولكن ما هو مفهوم النفس اللوّامة؟

قيل المراد به النفس الإنسانية التي تعمّ النفس المؤمنة الصالحة والكافرة الفاجرة، فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة، أمّا الكافرة فعلى كفره وجحوده، وأمّا المؤمنة فعلى قلة الطاعة وعدم الاستكثار من الخير.

وقيل: هي النفس المؤمنة التي تلوم نفسها في الدنيا وتحاسبها فتقول: ماذا فعلت؟ ولِمَ قصّرت؟ فتكون مفكرةً في العواقب أبداً، والفاجرة لا تفكر في أمر الآخرة ولا تفكر في العواقب.

ولعلّ هذا هو الوجه الأقرب، لأن مسألة اللوم في يوم القيامة، لا تمثل أيّ تأثير على مستوى حركية الإنسان في الارتفاع بموقفه إلى الأعلى، فلا تُكَوّن قيمةً في المعنى الإنساني الكبير، لأنها لا تمارس إلاّ حالةً طبيعيةً ناشئةً من الاصطدام بالواقع على أساس الخسارة، أو على مستوى الربح القليل الذي كان من الممكن أن يكون كثيراً، كما كان من الممكن أن لا تكون هناك خسارة. أمّا اللوم الذي يتابع كل أفكار الإنسان وكل أقواله وأفعاله وعلاقاته ليواجه الموقف بالتعديل والتغيير، وليخفّف عن الإنسان كل أثقال السلبيات الأخلاقية، وليدفعه إلى التوازن في الدنيا الذي يؤدي به إلى التوازن في المصير في الآخرة... أمّا هذا اللوم، فإنه يمثل القيمة التي تكون في مستوى القسم، ولعلّ الحديث عن النفس اللوّامة في أجواء الحديث عن يوم القيامة، يوحي بأن النفس اللوّامة هي التي تتعاطى مع مسألة يوم القيامة بالجدّية اللازمة التي تدفع بالاحتمال الفكري ـ في ما يثار من قضايا الغيب ـ إلى الملاحقة الفكرية بالتأمّل والتدبّر والحوار، لتصل من خلال ذلك كله إلى القناعات الواعية الثابتة القائمة على الدليل والبرهان، لأن عمق اللوم على الغفلة وعلى التقصير، لا يترك النفس سادرةً في هواها وفي غفلتها، ولا يقف بها في أجواء اللاَّمبالاة تجاه ما يثار حولها من قضايا، لا سيّما إذا كانت القضية تتصل بالمصير الأبديِّ، ما يجعلها في مستوى الأهمية الكبرى في مواقع الفكر والإيمان.

إنها الحقيقة التي لا مجال فيها لأيّ ريب أو استبعاد مما يمكن أن يثيره الناس في العقول على أساس ما درجوا عليه من خضوع الإيمان للحسّ المألوف لديهم، ليقيسوا الأشياء غير المرئيّة على الأشياء المرئيّة، فيكون عالم الغيب خاضعاً لعالم الحسّ، وهذا ما تعالجه الآيات التالية.

* * *

أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟

{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} عندما تتناثر وتتفرّق وتتحول إلى قطعٍ صغيرةٍ، أو ذرّات دقيقةٍ ضائعةٍ في التراب؟ وهذا ما يدعوه إلى الإنكار الارتجاليّ السريع، لصعوبة تصور جمع كل هذه القطع والأجزاء لتتحول إلى هيكل عظميّ متماسك، ثم لتكتسي باللحم، ثم لتدب فيها الحياة بعد أن تأخذ صورتها الإنسانية الطبيعية، ولكن لماذا يجد الإنسان صعوبةً في هذا التصوّر؟ ولماذا يسارع إلى الإنكار؟ فما عليه إلا أن يدقق في روعة الإِبداع في خلق أعضاء جسده، ليعرف أن الله القادر على أن يُبدع ما هو أكثر خطورة، وأشدُّ صعوبةً، بحسب طبيعته، قادرٌ على خلق غيره، لأنه الأسهل والأقل خطورة... {بَلَى} إن الله الخالق يؤكد القدرة على جمع عظامه لقدرته على ما هو أكبر من ذلك... {قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}.

* * *

لماذا التركيز على البنان كمظهر للقدرة؟

وقد ذكر بعض المفسرين أن مسألة الحديث عن تسوية البنان، كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدقِّ ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ولا تختل عن مكانها، بل تسوّى تسويةً لا ينقص معها عضو، ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودقّ[2].

ولكننا نلاحظ على هذا التفسير بأن استبعاد هذا الإنسان جمع العظام سوف يستتبعه استبعاد جمع الأشياء الدقيقة في نطاق إعادة التكوين الإنساني، فتكون الآية الثانية مجرد تأكيد للموضوع الذي ينفيه الإنسان الكافر بالآخرة من دون إضافة أيّ دليل، لتبقى المسألة في دائرة الإِيحاء بالفكرة لا في دائرة الاستدلال عليها.

وهناك تفسير آخر وهو: «والمعنى: بلى نجمعها، والحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورتها التي كانت عليها بحسب خلقنا الأول.

وتخصيص البنان بالذكر ـ لعله ـ للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد، إذ تترتب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط، والأخذ والردّ، وسائر الحركات اللطيفة والأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان، مضافاً إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرٌّ بعد سرّ»[3].

ولعلّ هذا أقرب إلى طبيعة الجوّ الاستدلالي في الآية، وقد يضاف إلى أسرار الإبداع في خلق البنان، أنها تمثل في خطوطها الدقيقة دليل الشخصية، لأن الناس يختلفون في بصمات أصابعهم، بحيث لا يتفق واحد في ذلك مع الآخر، مهما اقتربت علاقاتهم النسبية، ما يجعل من معرفة طبيعة البصمة سبيلاً لمعرفة صاحبها لاكتشاف مسؤوليته عن الجريمة ونحوها من القضايا المتصلة بمسؤولية الناس في قضاياهم العامة والخاصة.

* * *

مشكلة الكافر أنه لا ينظر إلى الأمور نظرةً بعيدة

ولكن مشكلة الإنسان الكافر، أنه لا يركز عقله، ولا يحرّكه في الاتجاه الصحيح الذي يكشف من خلاله الحقائق، {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ليحوّل امتداد عمره في ما يستقبله منه إلى حركة في الانحراف العقيدي الذي يمثل حالةً من الفجور الفكري يمتد إلى الفجور العملي، لأن الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة يشعر بالحرية المطلقة تجاه كل المعاصي التي يقوم بها، لأنها لا تحمل أيّة مسؤولية جزائية في مفهومه، فلا تعود للقضايا الكبيرة معانيها في القيم الأخلاقية العملية في الحياة.

{يَسْألُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} ليؤكد فجوره الفكري المتمثل بالتشكيك بالآخرة بطريقة إثارة علامات الاستفهام حوله، على سبيل إشاعة أجواء الشك بين الناس، أو على سبيل السخرية والاستهزاء، ولكن هل يستمر هذا الإنسان في هذا الجو المتمرّد المعاند، العابث بالحقائق، وهل يبقى له هذا الاسترخاء اللاهي العبثيّ؟

إن المفاجأة المرعبة المروّعة سوف تصدم كل كيانه، وكل لهوه وعبثه.

{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} وتحيّر وتقلّب وخُطف، كما هو البرق في تقلّبه وخطفه، فلم يستقر على شيء، {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} وذهب نوره، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} في فضاءٍ واحدٍ، بعد أن كانا منفصلين، واختلّ نظامهما المعهود، وانتهى النظام الكوني في توازن الزمن على خط الليل والنهار، عند ذلك يحيط الذعر بهذا الإنسان من كل جانب، فهو يواجه الان وضعاً صعباً من أكثر الأوضاع خطورةً، لأنه لا يفهم شيئاً مما يراه أو يحيط به، ولذا كان السؤال الصعب الذي يلحّ على وجدانه، في عملية هروب من هذا الواقع، في ما يشبه الصراخ المذعور، {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} لأن الآفاق مغلقةٌ أمامه، فعوامل التغيير قد شملت الكون كله، وليس هناك أفقٌ مفتوح يمكن أن ينفذ إليه ليجد فيه سلامته، {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} أي ليس هناك ملجأ. والوزر ما يتحصن به من جبل أو حصن أو كهفٍ أو غيرها، لأن الله الذي يملك الكون كله هو المحيط به من جميع الجهات، فكيف يمكن أن يحصل هذا الإنسان على فرصة الفرار من الله لينجو من عقابه، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} فهناك نهاية المطاف الذي يقف فيه الإنسان ليواجه مصيره المحتوم الأخير، فلن يتحرك من مكانه إلى مكانٍ آخر، لأن الرحلة إلى الله هي رحلة النهاية الأبديّة، فلا موت بعدها ليغيب الإنسان في ظلماته، ولا أفق آخر ليبتعد الإنسان عن واقعه إليه، بل هو الاستقرار الذي يمنع الحركة والتحوّل، لأن الله هو ـ وحده ـ الذي تقف الحركة عنده، وتتحول الأشياء إليه، {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} من أعماله الحسنة والسيّئة من أوّل عمره إلى آخره لتكون النتيجة أن يواجه مصيره لينتهي إلى الجنة أو النار تبعاً لعمله.

* * *

بل الإنسان على نفسه بصيرة

{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} بما تمثله كلمة البصيرة من وضوح الرؤية للأشياء، بحيث لا يغيب منها شيءٌ، لأن إشراق الحقيقة ينفذ إلى كل زاوية من زوايا حياته، فيعرف عمق نواياه، وطبيعة أعماله، ولعل إطلاق كلمة البصيرة على الإنسان من باب المبالغة، بحيث يخيّل إلينا أنه تحوّل إلى أن يكون تجسيداً للبصيرة في رؤية القلب، وإدراك الداخل، كقولهم: زيد عدل. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فحاول أن يقدّم أعذاره التي تخفي طبيعة السوء في عمله، وحركة الجريمة في حياته، لأنه يعرف نفسه بنور بصيرته كيف كان عمله، وكيف كانت حركته، ولهذا فلا يقبل منه أيّ عذر، لأنه لا يمثل الحقيقة الصارخة في واقعه العملي.

وقد جاء في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله «جعفر الصادق»(ع)، إذ تلا هذه الآية {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ثم قال: يا أبا حفص، ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله(ص) كان يقول: من أسرَّ سريرةً ألبسه الله رداءها إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌّ»[4].

وجاء في مجمع البيان نقلاً عن تفسير العياشي، «بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله «جعفر الصادق»(ع) قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويُسِرّ سيّئاً، أليس إذا رجع إلى نفسه، فيعلم أن ذلك ليس كذلك، والله ـ سبحانه ـ يقول: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية»[5].

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في مجال التربية الإنسانية الإسلامية، وذلك من أجل بناء شخصية الإنسان على أساس أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه، لتتّحد عنده عناصر الشخصية الداخلية والخارجية، ويكون إيمانه بنفسه منطلقاً من وضوح الرؤية لديه في دوافعه وخفاياه ومواقع حركته في أجواء الآخرين، وعليه أن يصارح نفسه بسلبياته، كما يصارحها بإيجابياته، وأن تكون له شجاعة الاعتراف بالخطأ أمام الناس، فلا يعمل على أن يعطيها صورة الصواب ليدفعه ذلك إلى تغييره عندما يرى تأثيره على حياته وعلى نظرة الناس إليه، بينما يكون الإِصرار عليه ومحاولة الدفاع عنه موجباً للاستغراق فيه والثبات عليه، ما يجعله مشوّه الشخصية يعيش الازدواجية بين ما يعيشه في الداخل، وبين ما يتحرك فيه في الخارج.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:387.

(2) قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط:5، 1386هـ ـ 1967م، م:8، ص:380.

(3) تفسير الميزان، ج:20، ص:114.

(4) الكافي، ج:2، ص:296، رواية:15.

(5) مجمع البيان، ج:10، ص:599.