من الآية 26 الى الآية 40
الآيــات
{كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى* وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى* ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى* أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (26ـ40).
* * *
معاني المفردات
{التَّرَاقِيَ}: العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال. جمع ترقوة.
{رَاقٍ}: قال في الميزان: «اسم فاعل من الرقي، أي: قال من حضره من أهله وأصدقائه: من يرقيه ويشفيه؟ كلمة يأس، وقيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقي بروحه من الملائكة؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟»[1]
{الْمَسَاقُ}: الرجوع إلى الله تعالى.
{يَتَمَطَّى}: تمدد البدن من الكسل، وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره، والمراد بتمطيه في ذهابه: التبختر والاختيال، وهو استعارة.
{أَوْلَى لَكَ}: كلمة وعيد وتهديد.
{سُدًى}: السدى: المهمل.
{يُمْنَى}: إمناء المني: صبه في الرحم.
{عَلَقَةً}: قطعة من دم منعقدة.
* * *
إلى ربك المساق
وهذا هو المشهد الذي يقترب فيه الإنسان من موعد الموت الذي يلتقي فيه بموعد القيامة، وهو ما ينكره الكفار رغم إيمانهم بالنشأة الأولى التي هي الدليل على النشأة الأخرى بفعل القدرة الواحدة التي تتصل بالمسألة من ناحية المبدأ.
{كَلاَّ} كلمة رفضٍ لما يرفضونه من اليوم الآخر، {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال، جمع ترقوة، حيث تتصاعد الروح قبل أن تخرج من الجسد ليلفظها كما يلفظ الإنسان أنفاسه في أجواء المرض الخطير، وتتثاقل الأزمة لدى المريض حتى يتنادى الناس من حوله ليصرخوا بالطبيب الذي يُراد له أن يعالجه من هذا الداء الخطير الذي يقترب به من الموت، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} في كلمة يأس تصرخ بالراقي الذي يستعمل الرقية للشفاء من دون أمل بذلك، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} بفعل ما يشاهده المحتضر من الأحوال الصعبة المتتابعة في جسده حيث يواجه الموت عياناً، فيستعدّ عندها للوقوف على حافّة الآخرة، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} عندما يكفّ الجسد عن التماسك، وتنسلُّ الروح منه، فتذهب الحياة من كل عضوٍ من أعضائه، حتى تلتفّ إحدى ساقيه بالأخرى، فلا يستطيع أن يفصل أيّاً منهما عن الأخرى، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} حيث يسوقه ملك الموت إلى ربه ليواجه أعماله.
* * *
المستكبر وإعراضه عن الحق
{فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} فلم يكن منفتحاً على التصديق بكتاب الله ولا برسله، ولم يقف بين يدي ربّه ليصلّي في خشوع العبد لمولاه وعروجه الروحي إلى الله، بل أعرض عن ذلك، {وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} في إنكاره للتوحيد وللرسالة ولليوم الآخر، وإعراضه عن حركة الإيمان في خط المسؤولية، {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} والتمطي هو تمدّد البدن من الكسل، وهو كناية عن الاختيال والتبختر والاستكبار. وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جهل الذي كان يذهب إلى مجلس النبي(ص) ويستمع إلى القرآن، ثم يعود متبختراً في مشيته[2]. فإذا صحّت هذه الرواية، كان الحديث عنه من خلال ما يمثله من نموذج الإنسان المستكبر الذي يمنعه استكباره عن قبول الحق وعن الخضوع لالتزاماته الفكرية والعملية.
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} قيل: إن هذه الكلمة كلمة تهديد ووعيد. وفي بعض الروايات، إن رسول الله(ص) أخذ بيد أبي جهل، ثم قال له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} قال أبو جهل: بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني لأعز أهل هذا الوادي[3].
وقد يكون الكلام من الله ليكون التهديد صادراً منه، ليردّ على خيلائه وكبريائه بالوعيد الذي يحتقر شخصيته ليقال له: إنك الأجدر والأولى بالعذاب الذي يسحقك بالذل الذي لا ذل مثله، وقد يكون كلام النبي(ص) له ـ إذا صحت الرواية ـ نقلاً لكلام الله الذي أراد أن يوبّخه به.
* * *
أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟
ثم تلتفت السورة إلى مثل هذا الإنسان في كل نماذجه، لتواجهه بالصدمة القويّة التي تهز وجدانه هزّاً عنيفاً، ليثوب إلى رشده، ويرجع إلى عقله، وليخرج من هذه الغفلة المطبقة على كل شعوره.
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} من دون عقيدةٍ شاملةٍ تخطط له منهج حياته، ومن دون شريعةٍ تحدد له طبيعة خطواته، ومن دون غايةٍ كبيرةٍ توجّه خط سيره، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تكون حكمة الله في الخلق، وكيف يمكن للحياة أن تُختزل بمجرد أناس يولدون ثم يموتون، ثم لا شيء في ذلك أو في ما وراء ذلك، من مسؤولية الحركة في الحياة، ومن نتائج المسؤولية بعدها... وهل يعني هذا إلا العبث الذي يعبر عن اللاّمعنى، ليكون الإنسان كمية مهملة، فلا هدف له في حياته، ولا خط له في حركته، ولا مسؤولية له في كل أوضاعه، وعندها، ما الفرق بينه وبين الحيوان؟ إنّ طبيعة الأجهزة التي أودعها الله في وجوده، لا سيما قوّة العقل والإدراك الذي يربط فيه بين الأشياء وصولاً للوقوف على القوانين والسنن الإلهية التي تنظمها وتوحد فيما بينها، ثم في اكتشاف الخط الواحد الذي يربط بين الناس في خطواتهم العملية في الحياة، لتكون كل خطوةٍ حركة في اتجاه الغاية الواحدة، وليكون لكل حركةٍ موقعٌ معيّنٌ في حركة الحياة الممتدة في العمر الطويل والقصير، وليكون ذلك كله نتيجةً عميقة ممتدة في نهاية المطاف، إن دراسة الإنسان لطريقة وجوده في نشأته الأولى الخاضعة للتخطيط الإِلهيّ الدقيق في حركة الوجود، يدلّ على أن الله لا يترك الإنسان مهملاً، لأن الإهمال يتنافى مع سرّ الحكمة في ذلك.
* * *
أليس الله بقادر على أن يحيي الموتى!؟
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى} أي يراق، فكيف تحركت هذه النطفة في رحلة الوجود والحياة، {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} في وضع خاص في الرحم تتعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء، فمن أين عاش السرَّ فيها، وكيف استوعبت كل خصوصياته، {فَخَلَقَ فَسَوَّى} من خلال رحلة النطفة المعقّدة بكل تفاصيل مسألة النمو الحيويّ التي رافقت عملية التحوّل إلى جنين كامل في كل أجهزته.
وهكذا تحوّلت الخليّة الواحدة إلى ذكر وأنثى، ويبقى التساؤل عن ماهيّة الخصوصية البارزة في النطفة التي انطلق منها هذا التنوّع، الذي جعل منها ذكراً في خصوصية الذكورة، أو أنثى في خصوصية الأنوثة. هل كان هناك تدخّلٌ من أحدٍ، أم أنه الله الذي أودع سرّ الأسرار في ذلك كله، كما أبدع عمق السرّ في نموّ الإنسان وحركيته في رحلته من الحياة إلى الموت؟ إنه الله الذي خلق الخلق كله ودبّره في بداية وجوده، وفي مقدمته الإنسان، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنثَى} حيث كان ذلك هو الأساس في استمرار قانون التوالد الذي امتدت من خلاله الحياة الإنسانية.
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْييَ الْمَوْتَى} إنه ليس سؤال الحاجة إلى المعرفة، ولكنه سؤال الحاجة إلى تقرير الحقيقة التي تفرض نفسها على العقل الذي يحاكم القضايا من موقع القاعدة الواحدة التي تخضع لها في طبيعة الوجود، وعلى الوجدان الذي يستوحي من طبيعة السرّ هناك طبيعة السرّ هنا، وعلى الشعور الذي يمتصّ الحقيقة في إحساسه، من خلال صفاء الفطرة الكامنة فيه، التي توحي بأن القادر على النشأة الأولى، هو القادر على النشأة الأخرى، فهي حقيقة الحقائق التي يخشع أمامها الإنسان بكل وجوده.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:123.
(2) انظر: مجمع البيان، ج:10، ص:606، والدر المنثور، ج:8، ص:363.
(3) انظر: مجمع البيان، ج:10، ص:606
تفسير القرآن