المقدمة + من الآية 1 الى الآية 6
سورة الإنسان
مدنية وآياتها إحدى وثلاثون
هل السورة مكية أم مدنية؟
هل هذه السورة مكية أم مدنية؟ قيل: إنها مكية لورود بعض الروايات في ذلك، وقد رجّح هذا البعض ـ وهو سيّد قطب ـ في تفسيره «في ظلال القرآن» رأيه من خلال قوله:
"نحن نلمح في سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي... تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصّلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول (صلى الله عليه وسلّم) إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور، مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول (صلى الله عليه وسلّم) على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به، كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمّل، وفي سورة المدّثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة"[1].
وناقشه العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان، فعلّق على اختصاص السور المكية بصور النِّعم الحسية والعذاب الغليظ، بأن ذلك وارد في سورتي الحج والرحمن اللتين هما مدنيتان، فقد اشتملتا على الصور الحسية للنعيم وللعذاب بأكثر مما في هذه السورة.
وعلّق على مسألة أمر النبي بالصبر وعدم إطاعة الإثم والكفور وعدم المداهنة والثبات على الحق، بأن ذلك قد جاء في الفصل الثاني من السورة الذي يمكن أن يكون مكياً، لأن الروايات الكثيرة دلّت على أن الفصل الأول من السورة كان مدنياً، فلا منافاة. كما أنَّ الأمر بالصبر وعدم إطاعة الإثم والكفور ليس من اختصاص السور المكية، فهناك نماذج من ذلك في السور المدنية[2].
وقد وردت هناك روايات أخرى أكدت، بما لا يقبل الشك، بأن الآيات الواردة في الفصل الأول من السورة، نزلت في المدينة، كما نشير إلى ذلك في ما يأتي من حديث التفسير.
* * *
في أجواء السورة
وفي هذه السورة حديثٌ عن بداية الإنسان الذي لم يكن شيئاً مذكوراً، فقد مضى عليه مدةٌ طويلةٌ وهو في قلب العدم، ثم دخل في عمق الوجود بإرادة الله الذي أراد للنطفة أن تحمل سرّ الحياة التي تنمو لتدخل في الصورة التي تتميّز بالانفتاح على الكون بالسمع والبصر. وكان له عقله الذي يدرك حقيقة الأشياء، وإرادته التي تتميز بالانتماء إلى الخط المستقيم في شكر الله، أو الخط المنحرف في الكفر به، لأن الطريق مفتوحة على الخطين.
ثم تدخل في النتائج التي تنتظر الكافرين بالعذاب، كما تنتظر المؤمنين بالثواب، فتذكر التفاصيل الحسية للعذاب: من سلاسل لأقدامهم، وقيود لأعناقهم، ونار مستعرة، وللثواب: من الجنة والحرير وما تشتمل عليه من ألوان النعيم.
ثم تنطلق في إطلالةٍ سريعةٍ على إنزال القرآن على الرسول،ثم تأمره بالصبر لحكم الله، وتدعوه إلى الامتناع عن طاعة الإثم والكفور، وتطلب منه أن يذكر اسم الله بكرةً وأصيلاً، وبعد ذلك توحي إليه بالسجود لله والتسبيح له في الليل.
وأخيراً تفسِّر الآيات انحرافهم بمحبتهم للعاجلة، ونسيانهم للآجلة، وتؤكد أن الله قد خلقهم وهو قادر على أن يبدّلهم تبديلاً، وعلى الآخرين من هؤلاء أن يجعلوا ذلك الحديث تذكرةً تقودهم إلى الخروج من الغفلة ليتخذوا سبيلاً إلى ربهم، ولكنهم لا يشاءون ذلك إلا إذا شاء الله من خلال علمه وحكمته، لتكون النتيجة أن يُدخل من يشاء في رحمته ويعدّ للظالمين العذاب الأليم.
وهكذا تنطلق السورة لتربط النهاية بالبداية، مؤكدة حرية الإنسان الذاتية في اختياره الخطّ المنحرف أو المستقيم، وداعيةً الإنسان في النهاية إلى أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، وإلى أن يرفض كل السبل التي تؤدي به إلى غير الله.
* * *
اسم السورة
وقد أخذت السورة اسم الإنسان للتأكيد ـ في البداية ـ على مسألة الوجود الإنساني بعد العدم، ولأنها تتحرك في مسألة اختياره وحركته في خط هذا الاختيار ونتائجه السلبية أو الإيجابية، ما يجعل السورة تتمحور حول الإنسان في وجوده الباحث عن الله، وفي موقفه المتحرك بين خطَّي الانحراف والاستقامة. ونحن نستطيع أن نعتبر أن القرآن كله ينطلق في عنوانين كبيرين، هما الله والإنسان، ليعرف الإنسان مقام ربه وموقعه في علاقته به، وذلك من أجل أن يكون الدين عملية تصحيح وتأصيل لهذه العلاقة.
وقد أطلق على السورة اسم الدهر، باعتبار ذكر كلمة الدهر في الآية الأولى، ولكن الظاهر أن الاسم الأوّل أقرب إلى جوّ السورة، لأن الدهر لم يأخذ أيّ بُعد فيها.
ــــــــــــــــ
الآيــات
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً* إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً* إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (1ـ6).
* * *
معاني المفردات
{نُّطْفَةٍ}: النطفة: الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.
{أَمْشَاجٍ}: جمع مشيج، أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر، بمعنى المختلط الممتزج.
{نَّبْتَلِيهِ}: الابتلاء: نقل الشيء من حال إلى حال، ومن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ.
{أَعْتَدْنَا}: الإعتاد: التهيئة.
{سَلاسِلَ}: السلاسل: جمع سلسلة، وهي القيد الذي يقاد به المجرم.
{وَأَغْلالاً}: الأغلال: جمع غُلّ بالضم، وقيل: هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق.
{وَسَعِيراً}: السعير: النار المشتعلة.
{الأبْرَارَ}: جمع البرّ وهو المُحسن.
{تَفْجِيراً}: تفجير العين: شق الأرض لإجرائها.
* * *
الإنسان بين غياهب العدم وقدر الوجود
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} إنه السؤال الذي يريد أن يقرّر الحقيقة الوجودية للإنسان من أجل أن يؤكدها في الذهن، لينفتح على آفاقها الرحبة التي تجعل الإنسان يفكر تفكيراً متوازناً، فلا يدّعي لنفسه الأزليّة التي قد يرقى بها إلى موقع الألوهية، كما حدث لبعض نماذجه في الخط المنحرف، بل يتواضع لله الذي خلقه، ليدرس كيف يتحرك في حياته من خلال ما جعله الله غايةً لوجوده، ليكون خليفة الله في الأرض، فيبني الحياة على أساس خط الله، ويعبد الله عبر الخضوع لإِرادته، وفي امتثال أوامره ونواهيه، ويؤكد معنى العبودية في شخصه. وهكذا يتصور ذلك الحين من الدهر الذي كانت الحياة فيه خاليةً من الإنسان، فهل كان هناك خلقٌ آخر غيره ممن كان يملك العقل والإرادة والحركة، كما يملكها الإنسان؟! وهذا ما استوحاه البعض من سؤال الملائكة لله عندما قالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، باعتبار أن الملائكة لا يطرحون مثل هذا السؤال إلاَّ من خلال التجربة السابقة التي عاشوها في الماضي، أو أن الأرض لم تكن تحتوي أيّ خلق آخر... وقد لا تكون الآية واردة لإِثارة التفكير حول تلك الفترة الخالية من الإنسان، بل ربما كانت لإِثارة التفكير حول هذه الفترة التي تحوّل فيها الإنسان إلى وجودٍ حيٍّ مذكورٍ متحرّكٍ في خط المسؤولية، مسلحٍ بالعلم والحركة الخيّرة والعمل المسؤول، ليجعل الكون أكثر غنًى بالتجربة الإنسانية، بدلاً من أن يكون متخبطاً في المشاكل إذا ابتعد عن الصراط المستقيم.
وقد فسَّر البعض كلمة «هل» بـ «قد» لأنها أحد معانيها، ولكننا نجد أن الأقرب إبقاء دلالة «هل» على الاستفهام التقريريّ، لأنها قد تكون أبلغ من الناحية التعبيرية.
* * *
تطور خلق الإنسان
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي أخلاط، بمعنى أنها مختلطةٌ ممتزجةٌ باعتبار امتزاج ماء الرجل ببويضة المرأة في عملية التلقيح، {نَّبْتَلِيهِ} أي ننقله من حال إلى حالٍ ومن طورٍ إلى طورٍ، حيث يجري التحوّل من النطفة إلى العلقة إلى المضغة التي تتحول إلى إنسان سويٍّ بعد ذلك، كما ذكره بعض المفسرين[3].
وقد فُسِّر الابتلاء، بالاختبار أو بالتكليف، بما يعنيه الإنسان في دخول التجربة الحيّة المتحركة التي قد يفشل في إيصالها إلى النتائج الإِيجابية، وقد ينجح في ذلك تبعاً لما يتحرك فيه من طاعةٍ ومعصيةٍ... وردّه صاحب الميزان بأنه «يدفعه تفريع قوله: {فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} على الابتلاء، ولو كان المراد به التكليف ،كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس»[4].
ونلاحظ على كلام صاحب الميزان أن كلمة «نبتليه» صفةٌ للإنسان، باعتبار أن ذلك هو العنوان لوجوده للغاية من خلقه، وإذا كان المعنى اللغوي لكلمة الابتلاء هو الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، فإن المعنى العرفي المتبادر إلى الذهن هو الامتحان والاختبار، أمَّا التفريع فقد كان على أصل خلق الإنسان الموصوف بهذه الصفة، في ما يريده الله منه في طبيعة وجوده، وعلى هذا الأساس، فإن المعنى الثاني أنسب بالآية، والله العالم.
{فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} باعتبار أن السمع والبصر هما الوسيلتان الحيويتان اللتان يمكن أن يحصل الإنسان من خلالهما على أكثر مصادر المعرفة، أو من جهة ما يسمعه من كلمات الحق في وحي الله وفي الأحاديث العامة للناس، أو من ناحية ما يبصره من آيات الله في الكون، ومن حركة المخلوقات الحيّة من حوله، ليستعمل المسموعات والمبصرات كموادّ خامٍّ للفكر الذي يمكن أن ينتجه بعقله ليكون ذلك حجّة له، في ما يلتزمه من فكر يتصل بالله أو حجّةً عليه في ما يلتزمه من فكرٍ يرتبط بالشيطان.
* * *
إنّا هديناه السبيل
{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} الذي يؤدي به إلى الله من خلال ما يدركه عقله وما يتحرك فيه سمعه وبصره، وما يوحي به الله إليه، أو يلهمه معرفته بفطرته الصافية... ومنحناه حرية الاختيار بين الخير أو الشرّ، سواء في الالتزام بطاعة الله كتعبيرٍ حيٍّ عن شكره له من ناحيةٍ عمليةٍ، أو الالتزام بمعصيته كتجسيدٍ حيٍّ للكفر بالنعمة، من ناحيةٍ واقعيةٍ.
{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} فهو بين هذين الخطين، وما ينفتح عليه من خيارات من دون أن يواجه أيّ ضغطٍ تكوينيٍّ في إبعاده عن عملية الاختيار.
وإذا أردنا أن نواجه مسألة الاختيار بين شكر النعمة باختيار الإيمان، وكفرها باختيار الكفر والعصيان، فإننا نلاحظ أن الناس بين مَنْ يستجيب لنداء فطرته التي تمثّل سرّ العمق في تكوينه، أو لإِرشاد عقله الذي يوازن بين الحسن والقبح في حقائق الأشياء، أو للاستماع إلى وحي الله وحديث الأنبياء اللذين يفتحان حياة الإنسان على معرفة الخير والشر، والصلاح والفساد، ليختار الصلاح بدلاً من الفساد، وليتبع الخير بدلاً من الشرّ، وبين من لا يستجيب لذلك كله من خلال العوامل الطارئة في حركة الغريزة لديه، أو في نوازع الذات في شخصه، أو في نقاط الضعف في حياته، أو في طبيعة الظروف الضاغطة المحيطة به.
وهكذا يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام مسألة الهداية، في عنصرها الإيجابي أو السلبي، ليواجه مصيره على أساس مسألة الاختيار لديه. فإن الله لم يضغط عليه ليحوّل إرادته إلى ما يحبه له بالضغط التكويني الذي يشلّ إرادته ويمنعها عن الحركة، ولكنه أثار أمامه النتائج الأخروية، في مسألة الثواب والعقاب، ليضغط عليه ضغطاً معنوياً في جانب الإحساس، ليكون اختياره خاضعاً للتفكير بالنتائج، كما هو خاضع للجانب الموضوعي الذي تتحرك فيه الأشياء.
* * *
حصيلة الكفر والإيمان
{إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} فهذه هي حصيلة الكفر في الآخرة، فالكافرون يعانون من القيود والأغلال في جهنم، لأنهم عاشوا في الدنيا سجناء مقيدين بأغلال شهواتهم وسلاسل أطماعهم، وهم يحترقون بالسعير في النار، لأنهم خضعوا للاحتراق بسعير شهواتهم المحرّمة في الدنيا.
{إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في عقولهم، والإخلاص في قلوبهم، والطهارة في مشاعرهم، والالتزام بأوامر الله ونواهيه في حياتهم العملية العامة والخاصة، وساروا في خطّ الله والدعوة إليه والجهاد في سبيله، والإنفاق على المحرومين ابتغاءً لوجهه، وجعلوا من حياتهم عنواناً للعبودية الخالصة المخلصة لله، هؤلاء الذين عاشوا البرّ فكراً وقولاً وعملاً، فعاشوا الظمأ لرحمة الله ولرضوانه، وبحثوا عن الريّ، حتى سقاهم الله من كؤوس النعيم شراباً يمتزج بالكافور الذي هو رمز العطر في رائحته الطيبة التي تملأ الروح والقلب والشعور إحساساً بالسعادة الغامرة التي تنساب في كل مكامن الإحساس، ولكن من أين هذا الشراب الطيب المعطر؟ {عَيْناً} أي من عين على طريقة نزع الخافض، {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الذين ارتضاهم الله لعبادته في عمق معنى العبودية الخالصة المنفتحة عليه {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} فهي خاضعة لإِرادتهم، فإذا شاءوا أن يفجروها فإنها تستجيب لهم، ليشربوا منها في كل حين.
ــــــــــــــــــــ
(1) في ظلال القرآن، م:8، ص:391.
(2) انظر: تفسير الميزان، ج:20، ص:148.
(3) تفسير الميزان، ج:20، ص:132.
(4) تفسير الميزان، ج:20، ص:133.
تفسير القرآن