تفسير القرآن
الإنسان / من الآية 23 إلى الآية 31

 من الآية 23 الى الآية 31
 

الآيــات

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً* فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* وَمِنَ اللّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً* إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً* إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}          (23ـ31).

* * *

معاني المفردات

{بُكْرَةً}: البكرة: أوّل النّهار.

{وَأَصِيلاً}: الأصيل: العشيّ.

{وَشَدَدْنَآ}: الشدّ خلاف الفكّ.

{أَسْرَهُمْ}: الأسر ـ في الأصل ـ : الشدّ والرّبط، ويطلق على ما يُشَدّ ويُربط به.

* * *

القرآن كتاب هداية والتزام

كان ذلك حديث الناس الذين انفعلوا بالرسالة والرسول إيجاباً وسلباً، وكيف كان مصيرهم في النتائج الحاسمة في موقفهم بين يدي الله، وهذا هو الفصل الأخير من السورة الذي يتوجه به إلى الرسول في موقفه إزاء هؤلاء الذين واجهوا بالشدّة والتحدي والتمرّد على الرسالة والرسول، لتكون نهاية المطاف مع المصير الذي ينتظر الناس يوم القيامة، ويبقى للإنسان أن يتذكر مصيره دائماً، ليخرج من غفلته.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً} لتنذر به الناس، ولتوجّههم إلى السير في الصراط المستقيم الذي ينتهي بهم إلى الله، فيسيروا وفق ما يشرّع لهم من النظام المتوازن الذي يجمع لهم الخير كله من خلال الحق كله. وفي ضوء ذلك، لا بد لك من أن تبلّغه للناس كافّة، ليعيشوا في رحاب فكره، ويتحركوا في خط هداه، ويغترفوا من ينابيع الخير فيه، ويثيروا حركية منهجه في قضايا الإيمان، ويؤكدوا التزامهم بآياته، وتطبيقهم لأحكامه، ليغيّروا الحياة على أساس عقائده ومفاهيمه وشرائعه... ولا بد لك من أن تتحمل الكثير من المعاناة في سبيل ذلك، لأنهم سوف يبادرون إلى توجيه مختلف الاتهامات التي يريدون من خلالها إحباط موقفك، وإسقاط حركتك، وربما عمدوا إلى إثارة مختلف ألوان الإِغراء التي يخاطبون بها مشاعرك وتطلعاتك، إذ يخيّل إليهم أنك سوف تخضع لذلك وللضغوط النفسية التي يضغطون بها على روحيتك وإحساسك كما يخضع الآخرون من الناس لأمثال ذلك، الأمر الذي يفرض عليك أن تستنفر كل طاقاتك، لتكون في مواقع القوّة التي تثبت أمام الهزاهز، ولا تنحني أمام العواصف، ولا تخضع للضغوط، ولا تسقط أمام التحديات، ولا تصرخ في مواقع الألم، ولا تجزع في أوضاع البلاء، وهذا ما يمثل معنى الصبر على الأذى وعلى الطاعة، وعلى المعصية، فإن الصبر هو أساس الإيمان كله.

* * *

فاصبر لحكم ربك

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} الذي كلّفك تبليغ الرسالة، فتعرضت بسبب ذلك لأنواع البلاء، {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} من الذين يريدون منك الرجوع عن أمر الرسالة، ويعملون على إغرائك بالمال والسلطان، أو يهدّدونك بالقتل أو التشريد... وهذا ما يريده الله منك بصفتك الرسالية التي تمتد إلى كل الذين يلتزمون الإسلام كدين دعوةٍ وانتماء، ليصبروا كما تصبر، وليتمردوا على القوى الظالمة والطاغية والكافرة والضالة والباغية، كما تمرّدت، لأن المسألة في تجربتك ليست مسألة شخص يواجه المشكلة الذاتية لتتجمد الآية في ذاتك فلا تتعداها إلى غيرك، بل المسألة تتعلق بتجربتك الرسالية التي تشمل كل رسالي في ساحة الصراع.

* * *

واذكر اسم ربك واسجد له

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فذلك هو الذي يجعلك تعيش حضور الله في وعيك الفكري والروحي، لتتمثل وجوده في رقابته الإلهية عليك، في حضوره في ساحتك العملية في أيّ موقع تختاره في ساحة الصراع، وعند أيّ موقف ترفعه في مواقف التحدي، وذلك هو الذي يمنحك القوَّة عندما تندفع قوة الآخرين إليك لتسقط روحك، ولترهق أعصابك، ولتضعف قوتك، لأنك ـ من خلال ذكره ـ تستمد قوتك من قوته، فلا تهاب أيّة قوّةٍ أخرى، لأنه يملأ شعورك الداخلي وإحساسك وروحيتك بكل قوة.

إنّ تحصين ذاتك في مواجهة التحديات والشدائد يفرض عليك أن تذكره صباحاً عندما تشرق الشمس بقدرته فتضيء الحياة كلها من حولك بنوره، وأن تذكره عند الأصيل عندما يطبق الظلام على الكون بإرادته، فتنام الحياة في ظلال رحمته، ليكون ذكر الله هو الذي يخرجك من الغفلة لتصحو على نداء مسؤوليتك، وهو الذي يدفعك إلى اليقظة لتتحرك في التزامك من موقع وضوح الرؤية في عقلك ووجدانك. إنه ذكر القلب والعقل واللسان، والموقف العملي الذي يتوازن بين يديه.

{وَمِنَ اللّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} فإن السجود هو آية الخضوع، ورمز الإِعلان عن العبودية لله، بما يمثله من الذوبان الروحي في الله، حتى كأن السجود في تعفير الجبهة التي هي رمز العنفوان، بالتراب بين يدي الله، يمثل سجود القلب في نبضاته، واللسان في كلماته، والحياة في كل مظاهرها العملية: في خضوعها له وانفعالها بأوامره ونواهيه، {وَسَبِّحْهُ ليْلاً طَوِيلاً} في ابتهالات الداعي، وخشوع العابد، وهمسات المحبّ التي تعبِّر بكل أساليبها وكلماتها عن عظمته، بما يوحيه التسبيح من ذلك، ليمتد مع الليل الطويل الذي تشرق الروح في قلب ظلامه، عند هدوء الأصوات، وصفاء المشاعر. ولعل السرّ في السجود الذي يعبّر عن الصلاة في الليل، وفي التسبيح الذي يعبر عن الدعاء والمناجاة في أجواء السحر، هو أن الله يريد لعباده أن يكونوا مشدودين إليه دائماً، منفتحين عليه أبداً، ليبقى ارتباطهم به أساساً للبقاء في مواقع طاعته وعبادته.

* * *

الله يذكّر عباده بخلقهم من العدم

{إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} هؤلاء الذين يرفضون الإيمان بك والالتزام برسالتك، يستغرقون في الحبّ الدنيوي الذي يخلد إلى الأرض، وينفعل لكل شهوات الحياة الدنيا ولذاتها، فلا يفكرون في غيرها، ولا يلتفتون إلى ما هو أبعد منها على صعيد الغيب الذي تؤكده الرسالات، وينطلق منه الرسل... ولذلك فإنهم يبتعدون عن كل شيءٍ يربطهم بالله وباليوم الآخر، {وَيَذَرُونَ وَراءهُمْ} أي خلف ظهورهم {يَوْماً ثَقِيلاً} فلا يعملون له، ولا يستعدّون لمواقفه الصعبة، بل يتصرفون معه تصرّف اللامبالاة.

{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} وكانوا عدماً قبل ذلك، فكان وجودهم بإرادتنا.

{وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} أي قوّتهم، كنايةً عن كيانهم القويّ الشديد الذي يتماسك في كل مواقع الزلزال، {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} لأن الذي خلقهم قادرٌ أن يخلق مثلهم، أو الأقوى منهم، فلا يأخذهم الغرور، ولا تأخذهم العزة بالإثم، ليخيّل إليهم أن الله لا يستغني عنهم، وأن الحياة لا تملك أن تفارقهم، وأن الله لن يخلق مثلهم، فالخلق كلهم فقراء إلى الله بكل معاني الفقر، والله وحده هو الغني، بكل معاني الغنى في الوجود.

* * *

إن هذه تذكرة

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} في ما تعبر عنه هذه السورة من حقيقة الوجود الإنساني وحرية الاختيار في الإنسان، وآفاق الهداية في حياته، وحركة المسؤولية في التزاماته في دائرة السلب والإيجاب، ونتائج المواقف غداً بين يدي الله، ما يفتح قلب الإنسان على الله ليذكره دائماً، فلا يغفل عنه القلب واللسان والروح، ليتجه إليه في عمله، وليستمع إلى النداء الرسالي الصادر منه في دعوته إلى الناس أن يأخذوا بالطريق المستقيم، {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} فإن الطريق مفتوح للوصول إلى الله بكل رحابته، من دون موانع ولا حواجز، ولأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

* * *

وما تشاءون إلا أن يشاء الله

{وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} لأن الوجود كله في حركته خاضع لمشيئة الله الذي خلق الأسباب وربط بها المسببات في تخطيط النظام العام للكون وللإنسان والحياة، فلكل ظاهرةٍ قوانينها، ولكل موجودٍ دائرته التي يتحرك فيها من خلال الخصائص المودعة فيه، ولكل حركةٍ ظروفها المعيّنة، وللإنسان في مشيئته لأفعاله أسبابه الخاضعة للقانون العام الذي جعله الله لوجوده في علاقته بكل الأشياء من حوله وفي تأثره بها، وفي خضوع اختياره لها، في ما تحركه من عناصرها على الصعد الذهنية والنفسية، وغير ذلك مما يخضع لمشيئة الله. ولكن ذلك لا يلغي عملية الاختيار التي تجعل الأفعال صادرةً عنه بلا واسطة، لأن المسألة هي أن الله أراد للإنسان أن يشاء في ما أودعه فيه من حوافز المشيئة ودوافعها، في الوقت الذي تتعلق المشيئة فيه بالأشياء من موقع الإرادة الحرّة، وقد لا نحتاج إلى التأكيد بأن تأثّر المشيئة بالظروف المحيطة بالإنسان لا يمنع انطلاق الإرادة بحرية، لأن طبيعة الظروف لا تلغي الحرية كمبدأ.

وقد يكون الحديث عن تبعيّة المشيئة الإنسانية للمشيئة الإلهية للإيحاء الدائم بحاجة الإنسان لله وارتباطه به وانفعاله بإرادته، لئلا يتصور بأنه يملك الاستقلال المطلق من خلال شعوره بحرية الحركة في أفعاله من خلال حرية الإرادة.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} في ما يتضمنه العلم، وتوحي به الحكمة من إحاطة الله بكل شيء من حياة الإنسان، وتدبيره الدقيق من جهة ما يخططه له من شؤونه العامة والخاصة في حياته، ما يجعل الإنسان واثقاً بأنه يتصرف في وجوده من موقع الرعاية العليمة الحكيمة من الله.

{يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} ممن يجد فيه الاستحقاق لذلك في نفسيته وروحيته وعمله من هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في خط التقوى، وأخلصوا الدين لله، {وَالظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان، وظلموا غيرهم بالبغي والعدوان، {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} جزاءً لهم على كفرهم وبغيهم، بعد إقامة الحجة عليهم بكل البيّنات والبراهين التي قدّمها لهم من داخل عقولهم ومن خلال الوحي الإِلهي الذي بلغهم الرسل إيّاه.