تفسير القرآن
المرسلات / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 15

 المقدمة +من الآية 1 الى الآية 15
 

سورة المرسلات
مكية، وهي خمسون آية

في أجواء السورة

وهذه سورةٌ مكية من سور العقيدة التي تتحرك في أجواء القيامة، وتطلّ على كل التاريخ الإنساني في الأرض، حيث تتابعت أمام الإنسان مشاهد القدرة الإلهية في كل ما أحاط به، ولوحات الإبداع في تكوينه منذ أن كان نطفةً إلى كل مسار التقدير الإلهي في حياته. مع ذلك، فإنّ الكثيرين من أفراده لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر، بل يلجأون إلى التكذيب. وتحتشد في هذه الأجواء كل الصور المرعبة المهولة للقيامة في تنوّع متحركٍ مع كل اللمسات التعبيرية الموحية بالهول، وكل الصدمات الشعورية التي تهزّ مكامن الإحساس لدى الإنسان بالخوف من ذلك الموقف الذي لا مجال فيه لأيّة كلمةٍ، ولأيّ عذرٍ، لأن الكلمات قد تساقطت أمام الحقيقة الإِلهية التي لم تُبق لأيّ إنسان حجّةً في لهوه وعبثه وانحرافه، ولأن الأعذار لا تثبت أمام الواقع الذي تمثَّل بالانحراف في كل تاريخه، ولأن عظمة الله في هيمنته على الموقف آنذاك، تخرس الجميع، أمام المشهد العظيم.

كما تحتشد هذه السورة في إيحاءاتها الخاطفة، وتأنيبها المتكرر للمكذبين، في كل ما كانوا يكيدون به في تاريخهم الكافر، وفي كلّ ما كانوا يمارسونه من الجريمة المتعددة الجوانب: في الكفر بالله، والتمرّد عليه، والبغي على الناس، وفي امتناعهم عن الانصياع الروحي، والانقياد العملي، لأنهم عاشوا الكبرياء أمام الله، أمّا المتّقون، فإن الموقف لديهم يختصر الكلمات، لأن وحدة التوجّه القلبي إلى الله في العقيدة والعبادة والعمل، يجعل هناك وحدةً في النعيم المنطلق من رحمة الله للمحسنين الذين أحسنوا الموقف فأحسن الله لهم العاقبة.

* * *

اسم السورة

وجاء اسم المرسلات، اقتطاعاً من الآية الأولى التي تحدّثت عن المرسلات، في إيحاء بالأجواء المتحركة في النظام الإِلهي الذي لا يتجمد في موقع واحدٍ، أو في زمنٍ واحد، ليكون إيذاناً بالحركة الواعية في أجواء الطاعة.

ـــــــــــــــ

الآيــات

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً* والنَّاشِرَتِ نَشْراً* فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً* إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ* فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} (1ـ15).

* *

معاني المفردات

{وَالْمُرْسَلاتِ}: الرياح المتتابعة.

{عُرْفاً}: الشَّعر النابت في عنق الفرس، ويشبّه به الأمور إذا تتابعت.

{عَصْفاً}: سريعة السير.

{والنَّاشِرَاتِ}: الرياح الناشرة للسحاب.

{فَالْفَارِقَاتِ}: الملائكة التي تنزل بآيات الله التي تفرق بين الحق والباطل.

{عُذْراً}: الإعذار: الإتيان بما يصير به معذوراً.

{طُمِسَتْ}: أي محو أثرها من النور وغيره. والطمس: إزالة الأثر بالمحو.

{فُرِجَتْ}: أي انشقت، والفرج والفرجة: الشق بين الشيئين.

{نُسِفَتْ}: أي قلعت وأزيلت.

{أُقِّتَتْ}: أي: عُيِّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها.

{أُجِّلَتْ}: الأجل: هو المدة المضروبة للشيء.

{لِيَوْمِ الْفَصْلِ}: يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء.

{وَيْلٌ}: الويل: هو الهلاك.

* * *

يوم القيامة حقيقة صارخة

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً* والنّاشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً *إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذه الكلمات المتتابعة في مواقع القسم توحي بمعانٍ غامضة في حركتها في الحسّ في الصورة التفصيلية للملامح المتجسدة في الواقع، فهناك أشياء تتحرك وتتقدم في تتابعٍ بارز، وأشياء تعصف بالأجواء فتثيرها، وأشياء تنشر، وأشياء تفرّق وتفصل، ومخلوقاتٍ تلقي الذكر الذي يدفع إلى الإعذار والإِنذار...

إن هناك جوّاً مثيراً في الكلمات التي وقعت موضعاً للقسم، ما يوحي بأهميتها في ذاتها، ولكن المفسرين اختلفوا في مواردها التي تنطبق عليها، فقيل: إن المراد بها الرياح المتتابعة في قوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} بتفسير العُرْف بالتتابع، فإن المراد به الشعر النابت على عنق الفرس، ويشبَّه به الأمور إذا تتابعت، فيقال: جاءوا كعرف الفرس.

وقيل: إن المراد بها الملائكة التي يرسلها الله بالوحي وبغيره مما تتعلق به إرادته من شؤون النظام الكوني الموكولة إليهم، أمّا قوله: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} فقالوا: إن المراد بالعصف سرعة المسير واستعير من عصف الرياح أي سرعة هبوبها، إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه، وأن المراد بها الملائكة الذين يرسلهم الله فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة. وقيل: إن المراد بها الرياح العاصفة باعتبارها مظهراً من مظاهر قدرة الله في الكون، {والنَّاشِرَتِ نَشْراً} أي الملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليلقاه، والرياح التي ينشرها الله بين يدي رحمته، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} أي الملائكة التي تنزل بآيات الله التي تفرّق بين الحق والباطل، أو الرياح التي تفرّق الأمطار في أنحاء الأرض، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً} الظاهر أن المراد بالذكر: القرآن الذي يقيم الحجّة على الناس وينذرهم عذاب الله، في ما تلقي الملائكة آياته على النبي(ص)، وقيل: إن المراد به الرياح، وبالذكر المطر الذي يذكّر بالله ورحمته، فالمؤمن يشكر الله حين ينزل المطر ويعتذر عما سبق منه من التقصير، والكافر يزداد طغياناً، لأن المطر يزيد من ثرائه فيكون المطر أو الرياح نذيراً له بعذاب أليم.

وقد جاء في تفسير الطبري في المرسلات: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذكره ـ أقسم بالمرسلات عرفاً، وقد ترسل عرفاً الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدل على أن المعنيّ بذلك أحد الحزبين دون الآخر، وقد عمّ ـ جل ثناؤه ـ بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فمن كان صفته كذلك فداخلٌ في قسمه ذلك، مَلَكاً أو ريحاً أو رسولاً من بني آدم مرسلاً»[1]، وبنحو ذلك قال في الناشرات: «فالريح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض من دون بعض، وذلك على كل ما كان ناشراً»[2]، وبنحو ذلك قال في «الفارقات»[3]... وخلاصته الأخذ بإطلاق الكلمات لكل ما ينطبق عليها، وقد نجد أن بعض الكلمات، كالعاصفات، لا تنسجم مع إرادة معنى الملائكة منها، كما أن الملقيات ذكراً لا تنسجم مع الرياح والمطر بحسب الظاهر، ولعل الأفضل هو عدم الالتزام بوحدة المعنى في الجميع، في ما تنطبق عليه الكلمات، بل يمكن أن يختلف المراد من إحداها عن الأخرى، كما أنه ليس من الضروري التدقيق في ذلك، لأنّ مثل هذه الأمور مما لم يرد فيها نص موثوق به عن الرسول(ص) أو عن العترة الطاهرة من أهل بيته، ولم يرد إسناد هذه المعاني من الصحابة عن الرسول(ص)، فلنجمل ما أراد الله إجماله في ما يمكن أن يتّحد أو يتعدد.

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} فستواجهون ـ جميعاً ـ يوم القيامة، كحقيقةٍ صارخة لا يمكن الشك فيها، بل إنّ ثبوته في الوجود، كثبوت هذه الظواهر الكونية التي تقع موقعاً للقسم الذي يقسم به الله.

* * *

{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوؤها {وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} أي انفطرت كواكبها وتصدّعت وتشقّقت، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} فتحوّلت إلى هباء تذروه الرياح، {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} من التوقيت، وربما كان المراد بها الملائكة التي جعل الله لها وقتاً معيّناً لتقف في المحشر لتشهد على العباد، ثم تتحرك بعد ذلك لتمارس دورها في سَوْق المجرمين إلى النار وسَوْق المؤمنين إلى الجنة، وربما كان المراد بالرسل الأنبياء الذين جعلهم الله شهداء على أممهم، {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} وهو اليوم الحاسم الذي أمهل الله عباده ليبلغوه، ويواجهوا القرار الأخير من جهة مصيرهم المرتبط بطبيعة أعمالهم التي عملوها في الدنيا، {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} الذي يفصل الله به بين عباده، كما يفصل مصيرهم بالحق، ليوفيهم أجورهم من دون أن يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وما هي خطورته، وما هي النتائج التي ينتهي إليها الناس هنا.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} إنه التهديد الصارخ بالويل الذي يواجه المكذبين الذين كذّبوا بالله وبرسله وبكتبه، حيث يقفون بين يدي الله من دون حجّة على مواقفهم، بل لله الحجّة عليهم في ذلك كله.

ــــــــــــــــــ

(1) الطبري، ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1415هـ ـ 1995م، م:14، ج:29، ص:284 ـ 285.

(2) (م.ن)، م:14، ج:29، ص:278.

(3) (م.ن)، م:14، ج:29، ص:288.