المقدمة + من الآية 1 الى الآية 22
سـورة النـبأ
مكية وهي أربعون آية
في أجواء السّورة
وهذه من السّور المكيّة الّتي تعالج مسألة العقيدة باليوم الآخر، ذلك أنّ الجوّ المحيط بدعوة النّبي إلى الإيمان به آنذاك، كان حافلاً بالكثير من ألوان التّشكيك أو الرّفض بين النّاس. وقد جاءت هذه السورة لتتحدث عن طبيعة الإثارة، ووصولها إلى مستوى اشتداد الخلاف حولها، انطلاقاً من طبيعة الارتباط الذّهني لديهم في تصوّرهم للأشياء بالجانب الحسيّ، فلا يؤمنون إلا بما هو مألوف لديهم بطريق الحسّ. ولهذا تحرك الأسلوب القرآني في دائرة التوعية الفكرية، ليثير فيهم طبيعة الإمكانات المحتملة للمسألة كوسيلةٍ من وسائل حركة الفكر نحوها، للوصول ـ من خلال ذلك ـ إلى القناعة العقيديّة..
وهذا ما جعل السّورة تجول على مواقع قدرة الله في الكون والأرض والسماء، وما يتحقق فيها من ظواهر، كحركة الزوجية في وجود الإنسان، وحركة الليل والنهار ودورهما في حياته، في ما يلقيه عليه الليّل من سبات، ويتحرك فيه بالنهار من أمور المعاش، وبما تنطلق السّماء بالنّور الّذي ينير لهم ظلمات الأرض في ما يحتاجون فيه إلى الضوء، وما ينزل عليهم من المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها، فيمنح الوجود الإنساني غذاءه الطبيعي في ما ينبت من النبات بسببه.
ثمّ تنتقل السّورة إلى يوم الفصل الّذي جعله الله ميعاداً لخلقه، ليرجع إليه النّاس في وضعٍ كونيٍّ هائل، عندما ينفخ في الصّور، فيخرج النّاس من أجداثهم ليتّجهوا إلى موقف القيامة أفواجاً، وتفتح السّماء التي لا تجد فيها أيّة ثغرةٍ، وتسير الجبال الثابتة في صلابتها لتتحوّل إلى ما يشبه السّراب في ما يوحي به من تخييل الحقيقة بأنها وهمٌ وخيالٌ، وتنفتح جهنّم للطاغين الذين أحصى الله أعمالهم عليهم بكل دقةٍ، والجنة للمتقين الذين استحقوا ذلك بأعمالهم في طاعة الله في خط التقوى، عطاءً من الله الذي يملك الأمر كله، فلا يملك أحد أن يقول كلمةً، أو يتحرّك بحركةٍ، حتى الملائكة والرّوح الّذين يمثّلون النّماذج العالية في درجات القرب من الله.
إنّه النبأ العظيم الّذي ينظر المرء فيه إلى ما قدّمت يداه، لأنّ العمل هو أساس الجزاء هناك، حيث تتحرك أمنيات الكافر ليتمنّى أن يكون تراباً...
ــــــــــــــــــــــ
الآيــات
{عمّ يتسآءَلُونَ* عَنِ النّبَإ العَظيم* الّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفُون* كَلاّ سيَعْلَمُون* ثُمّ كلاّ سيَعْلَمُون* ألَم نجْعَل الأرْضَ مِهاداً* والجِبَالَ أوْتَاداً* وخَلَقْنَاكُم أزْواجاً* وجَعَلْنا نَوْمَكُم سُبَاتاً* وجَعَلْنَا اللّيل لِبَاساً* وجَعَلْنَا النّهارَ مَعَاشاً* وبَنَيْنَا فَوْقَكُم سبْعاً شِداداً* وجَعَلْنَا سِراجاً وهّاجاً* وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ مآءً ثَجّاجاً* لنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً ونَبَاتاً* وجَناتٍ ألْفَافاً} (1ـ16).
* * *
معاني المفردات
{النّبَإ}: الخبر.
{مِهاداً}: المهاد: الوطاء، ومهّد الشيء تمهيداً، أي: وطّأه توطيةً.
{أوتاداً}: الوتد: المسمار، إلا أنّه أغلظ منه.
{سُباتاً}: السّبات القطع، وهنا بمعنى قطع العمل.
{وهّاجاً}: مضيئاً.
{المُعْصِرات}: السحائب تعتصر بالمطر.
{ثجّاجاً}: الدّفّاع.
{ألْفَافاً}: الألفاف: الأخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض.
* * *
المساءلة عن النبأ العظيم
{عمّ يتساءَلُون} عن أيّ شيء يتساءلون؟ وما هي القضية التي تثير لديهم الريب في مفرداتها الموضوعية ليحرّكوها بهذه الطريقة؟ {عنِ النّبإ العظِيم} أي الحدث العظيم في طبيعته، الكبير في علاقته بالمسألة الوجودية التي تستثير السؤال حول القدرة الخارقة التي تكمن خلفه، {الذي هُم فيه مختلِفون} في طريقة مواجهته المتداولة بين وضعه في دائرة الاستحالة أو الاستبعاد أو الشّك؟ هل هناك جهلٌ به يريدون الخروج عنه، أو هو رفضٌ في صورة السؤال، لأنهم يريدون إثارة الضباب حوله، والإيحاء الخفيّ بأنه لا يمثل وضوح الحقيقة في ذاته، حتى إذا جاء الجواب بالإيجاب وقفوا أمامه موقف السخرية منه؟
{كَلاّ} فليس هو في معرض الإنكار أو التساؤل، {سيعلَمُونَ} إشراقة الحقيقة فيه من خلال وضوحه. {ثمّ كلاّ سيعْلَمُون} فنحن نرفض هذا الأسلوب الذي يثير الشكّ حول الحقائق من منطلق الاستبعاد، كما لو كانت القدرة الإلهية التي تتعلّق به أمراً يثير الشكّ ويقبل الرّيب.. إننا نرفض طريقتهم التضليلية بشدّة.
ويبقى الغموض في تفاصيل النّبأ العظيم، لكنّه ليس الغموض الذي يثير العجب في جعله مورداً للسؤال، لأنه معلومٌ لكلّ أحد، حتى أنه لا يحتاج أحدٌ إلى ذكره.
* * *
نعم الله في تسيير سنن الوجود
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً} في ما أودعناه فيها من سنن الوجود وقوانينه فيها، بما يجعلها صالحة للسكن، لما تتضمنه من كل لوازم الحياة الضرورية لنموّ الإنسان واستمراره كالغذاء والماء والكساء، وغيرها من حاجات الإنسان التي تتوقف عليها حياته، وينطلق فيها دوره المميز في خلافته في الأرض، وبناء الحياة العامة على الأسس الثابتة التي يريدها الله، في نظام حيٍّ متوازنٍ مترابط الخصائص، متناسق الأبعاد، بحيث لو اختلّ جزءٌ منه اختلت الحياة لديه في عمقها وحركتها وامتدادها. وهذا هو ما نستوحيه من اعتبار الأرض مهاداً، في ما يتمثّل فيها من التمهيد المادي في انبساطها، ومن التمهيد المعنوي في عناصره الروحية والأخلاقية المتصلة.. فإذا كانت الكلمة لا تفي بمدلولها اللغوي بذلك، فإنها تدل ـ بمدلولها الإيحائيّ ـ عليه.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً}، لأنها تثبّت الأرض في الميدان، تماماً كما تثبّت الأوتاد الخيمة وتحفظ توازنها، وتحول بالتالي، دون سقوطها متهالكة على الأرض. ولكن كيف يتم ذلك؟ فهل هو ـ كما يقال ـ أنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال؟ أو أنها تعادل بين التقلّصات الجوفية للأرض والتقلّصات السطحية؟ أو أنها تثقل الأرض في نقاط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية؟ أم لشيء آخر مما غاب عنا علمه؟ وقد يكون التعبير من جهة الصورة الظاهرة التي توحي بها صورة الجبال في ثقلها البارز الذي يحفظ التوازن في طبيعته الشكلية، كما يعبر عن الشمس بأنها سراج، وعن القمر بأنه نور.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} فقد خلق الله الإنسان متنوعاً في خصائصه، فقسّمه إلى ذكرٍ وأنثى، وجعل في ذلك سرّ امتداد هذا النوع وتكاثره من خلال القوانين المرتبطة باللذة الحسية، والحاجة الوجودية، والإبداع الإلهي في سرّ القدرة التي تتنوع فيها الخصائص في عمق وجود النطفة الواحدة في الشكل والعنصر، فتختلف في نتائجها الحية لتكون هذه النطفة ذكراً وتلك النطفة أنثى، ما يوحي بالإرادة الإلهية المطلقة، التي تمثل سرّ التنوع في الوجود كما تمثل سرّ الوحدة فيه.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} في ما توحي به كلمة السُّبات من معنى الراحة والدعة، فقد أراد الله للإنسان في جسده المتعب المكدود من خلال العمل الذي يبذل فيه جهداً كبيراً، أن يرتاح ويسترخي ويغرق في غيبوبةٍ محدودةٍ تفصله عن الجوّ الذي يحيط به، فلا يتأثر بآلامه ومشاكله، ولا تضغط عليه أوضاعه وتحدياته، وتمنحه السكون الذي يمتنع معه عن أيّة حركةٍ ترهق الأعصاب وتتعب الجسد، لتصفو روحه في هدوء الأحلام الغائمة الغارقة في ضباب السكون، وليرتاح جسده في لحظات التوقّف عن النشاط الحركي، في حالة الاستغراق في الاسترخاء ليعود الإنسان ـ بعد ذلك ـ إنساناً جديداً في نشاطه العملي، وحركته المنفتحة على حاجات الواقع، ليكون النوم حالة موت مع وقف التنفيذ، فاصلاً بين حياتين، حياةٍ أتعبها الجهد فاستسلمت للنوم لترتاح، وحياةٍ تتحفّز لجهد الإنسان في حركته الدائبة منفتحاً على السكون، وفي صراعه العنيف منفتحاً على الهدوء والسلام، كما يكون السكون شرطاً واقعياً لتوازن الحركة مع قضية الحياة، وليكون السلام الهادىء في غيبوبة الجسد عن حركة الصراع، لوناً من ألوان الإيحاء بصراعٍ جديدٍ يتنفس بالقوّة أو يحمل مشاعر سلام جديد.
{وَجَعَلْنَا اللّيْلَ لِبَاساً} ليلبس الكون لباس الظلام فيه، ليمنح الأشياء المتحركة فيه، الخائفة من بعض مواقع الضوء المسلّطة عليها، بعض الأمن في اللباس الكوني الذي يحجبها عن عيون الخطر الكامن في بعض مواقع الوجود، كما يمنح حركة الصراع، في ما بين الموجودات المتنوعة التي جعل بعضها غذاء لبعض، لوناً من ألوان الحيويّة التي تستفيدها في أجواء الخفاء التي يثيرها الظلام. وهو بعد ذلك يمنح اللباس الذي يعطي الأمن والراحة للعري الوجودي الذي يفضحه النور في النهار، كما يفسح المجال لألوانٍ من العري الباحث عن اللذة بعيداً عن الأعين، ليجد في الليل لباسه الطبيعي الذي لا يتنافى مع حقيقته ليخفيه عن الأعين من دون أن يسيء إليه.
ولعل أجواء هذا اللباس الذي يلفّ الصورة بظلامه، هو اللباس الذي يزحف إلى العيون ليبث فيها الاسترخاء، فيما يدفعها إلى النوم بألوانه الهادئة التي تثير الخدر في الجسد، والغيبوبة في الروح.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} في ما يعطيه الضوء من فرصٍ واسعة للحركة والتنقل واللقاء والبحث عن موارد الرزق ومصادره، في نشاطٍ حيٍّ دائب، لتتكامل للإنسان حاجاته التي هي من شروطه المعاشية. وهكذا أراد الله للإنسان أن يتوازن في نظام حياته، بين حركةٍ تضمن استمرار الحياة، وبين سكونٍ يضمن للحركة قوّتها ونشاطها وحيويتها وامتدادها.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} من هذه السماوات التي تطلّ عليكم من الأعالي بكل ما توحي به من العظمة والروعة والدقة، وما تفتحه من موارد النعمة. ولكن ما هو المراد بالسماوات السبع؟ هل هي سبع مجموعات من المجرات، التي قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم، والتي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية، أو هي شيء آخر مما لم يلق الله إلينا علمه؟ فلنجمل ما أجمله الله، مما لا سبيل إلى معرفته، ولا فائدة لنا من البحث عنه. ولكن الفكرة هي أن هذه السماوات السبع مبنيّة على أساس الشدّة التي توحي بالتماسك والتوازن والاستقامة، بحيث لا مجال لأية حالة خللٍ فيها من جميع الجوانب.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} وهي الشمس التي تمنح الضوء والدفء والحرارة التي يتوقف عليها نموّ الحياة، كما تخضع لها حركتها في جميع الموجودات الحيّة والنامية والجامدة.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً} وهي السحب الممطرة التي ينزل منها الماء كما لو كنت تعتصره من شيءٍ ممتلىء به. والثّجّاج: الكثير الصّب من الماء المتعدد في مواقعه وفصوله وأوضاعه، بحيث يتكرر بطريقةٍ حكيمةٍ مدروسةٍ.
{لنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} متنوعاً في أشكاله وخصائصه مما يحتاجه الموجود الحي في غذائه الطبيعي.
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي ملتفةً أشجارها بعضها على بعض.
* * *
من وحي مدلول الآيات
علام يدل هذا كله؟ ألا يدل على أن الكون كله خاضعٌ للقوّة الإلهية المدبّرة التي خلقته وخطّطت له، ودبرته تدبيراً محكماً، بحيث لا مجال فيه لأيّ انحرافٍ وابتعادٍ عن خطه المرسوم له، كما يدلّ على شمولية القدرة وامتدادها بحيث لا يعجزها شيء؟ فإذا كانت تملك الخلق والتدبير في موقعٍ معينٍ مليءٍ بالصعوبة والتعقيد، فإنها تملك مثل ذلك في موقع آخر مماثلٍ أو أقلّ صعوبة.
إن المسألة ليست مسألة مفردات القدرة، بل هي مسألة طبيعتها ونوعيتها، ما يجعل من وعي الأساس وعياً لكل الأمور المنطلقة منه. فكيف يمكن لمن يؤمن بأن الله هو الخالق للحياة كلها، والمبدع لكل ما فيها من موجودات وأسرار، أن ينكر قدرة الله على إعادة الحياة، وهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين، لا ينكرون وجود الله؟
وهناك نقطة أخرى قد يستوحيها الإنسان من أسلوب هذه الآيات، ألا وهي مسألة استيحاء الحكمة في هذا التدبير الإلهي للوجود في طبيعته وحركته، في خلقه للإنسان وفي تسخيره الكون له. فهل يمكن لنا أن نفكر بالعبثية في أفعال هذا الخالق العظيم المدبّر الحكيم؟ ولماذا يعبث فيبتعد عن الحكمة في تدبيره؟ هل هما التعب والملل اللذان يغريان بالعبث للحصول على الاسترخاء للتخفّف من الجهد الثقيل الذي يطبق على الوجود، أم ماذا؟
تعالى الله عن كل ذلك علوّاً كبيراً، فهو الغني بذاته، والحكيم بذاته، وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ من أن تكون هناك حكمةٌ في النتائج العملية للمسؤولية لتفسر حركة الخلق في خط المسؤولية، ما يفرض أن يكون تفسير المعاد تفسيراً واقعياً للحكمة من خلق الإنسان، وربما كان الحديث عن تدبير الله وحكمته في تعداد الظواهر الكونية المتنوعة لوناً من الحديث عن واقعية المعاد وإمكانه في ما استقبل به الحديث عن «النبأ العظيم»، وفي ما يفصِّله من يوم الفصل.
تفسير القرآن