تفسير القرآن
النبأ / من الآية 17 إلى الآية 40

 من الآية 17 الى الآية 40
 

الآيــات

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً* يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً* وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً* وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً* إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً* لِّلطَّاغِينَ مَآباً* لابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً* لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً* إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً* جَزَآءً وِفَاقاً* إِنَّهُمْ كانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً* وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا كِذَّاباً* وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً* فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً* إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً* وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً* لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً* جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً* رَّبِّ السَّمواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً* يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً* ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً* إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَني كُنتُ تُرَاباً} (17ـ40).

* * *

معاني المفردات

{مِيقَاتاً}: الميقات: الوقت المضروب للشيء، والوعد الذي جعل له وقت.

{مِرْصَاداً}: الرصد: الاستعداد للترقب. والمرصاد: موضع الترصّد.

{مَآباً}: مرجعاً.

{لابِثِينَ}: ماكثين.

{أَحْقَاباً}: دهراً طويلاً.

{حَمِيماً}: الحميم: الماء الحار الشديد الحرارة.

{وَغَسَّاقاً}: صديد أهل النار.

{مَفَازاً}: فوزاً ونجاةً.

{وَكَوَاعِبَ}: جمع كاعب، وهي الجارية التي نهد ثدياها.

{أَتْرَاباً}: أي المماثلات لبعضهن البعض في السِّنِّ والجمال.

{دِهَاقاً} الدهاق: الكأس الممتلئة التي لا مزيد فيها.

* * *

موعد التغيير الكبير

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} فهو اليوم الذي يتحوّل فيه الزمن إلى موعدٍ لتغيير الكون في صورة جديدةٍ، تتبدّل فيه معالمه، وتهتز فيها ثوابته، وتتجدد فيه المواقع النهائية للناس فيه. إنه يوم الحسم الذي يفصل الله فيه بين الناس، ليتميز المؤمنون عن الكافرين، والمطيعون عن الطاغين، ولذلك فلا بدّ من أن يتطلع الناس إليه، ويؤمنوا به على أساس الشعور بالمسؤولية في ما يستعدون في الدنيا من القيام بواجباتهم التي حدّدها الله لهم، في ما يأخذون به أو يدعونه على مستوى حياتهم الفردية والاجتماعية.

* * *

يوم الصيحة

{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} الصور هو البوق.. ولا نملك تصوّراً محدّداً له إذا كان المراد به معناه الحقيقي، ويحتمل أن يكون كنايةً عن صيحةٍ داويةٍ تنادي الناس مرّةً للخروج من الأجداث حيث تدب فيهم الحياة بقدرة الله، ومرةً ثانية ًللاجتماع في يوم الحشر بين يدي الله ليلاقوا الله سبحانه، حيث تجتمع البشرية كلها على صعيدٍ واحدٍ، لأوّل مرّةٍ، بجميع أجناسها وألوانها وبكل أجيالها المتعاقبة.

إنه المشهد الذي يدعو إلى الدهشة ويوحي بالإعجاب، ويلتقي بالقدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء، فهي تجمعهم في صعيدٍ واحدٍ، وتحاسبهم في يوم واحد..

* * *

عندما تُفْتَح السماء أبواباً

{وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} فقد فقدت ذلك التماسك الذي لا ترى على أساسه أيّة ثغرةٍ في بنيانها، فإذا بها تنشق وتنفرج، وتتحول تلك الانفراجات إلى أبواب تسمح بالدخول إليها. ولكن كيف؟ ولمن؟ إنها علامات استفهام لا تملك المعرفة البشرية جواباً لها، ولكنه المشهد الهائل الذي يهز الكيان بروعته وضخامته، ويثير الخوف بعظمته وإيحاءاته، لأنه يحمل المفاجأة التي لا عهد للإنسان بها، في الهيئة الجديدة للسماء.

* * *

ويوم تصبح الجبال سراباً

{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} فها هي الجبال الضخمة الصلبة الشامخة التي تنتصب بقوّةٍ ومهابة، لتكون أوتاداً للأرض تحفظ توازنها، وترسي قواعدها، تتحول، بقدرة الله، إلى أجزاء صغيرة متناثرة في الهواء، كمثل الهباء، حتى يخيّل إليك أن هذه الحقيقة الهائلة التي كانت تطل على الكون بوجودها الشامخ، تتحول إلى ما يشبه السراب، الذي قد يجعلك تحدّق بعينيك باللمعات المائية من بعيد، ولكنك عندما تقترب منها تجد نفسك تحدّق بالوهم. وهكذا تتحول الجبال عندما تتطاير ذراتها في الهواء إلى ما يشبه الوهم.

* * *

جهنم في موضع رصدٍ وترقّبٍ

إنه هول التغيير الكوني العظيم الذي ينطلق فيه الناس من قلب الموت إلى حركة الحياة، وتهتز السماء فتتشقق وتتحول إلى ثغراتٍ مفتوحةٍ للداخلين، وتتفتت الجبال، فتتحول إلى هباء تذروه الرياح. فماذا وراء ذلك؟ وما هو المستقبل الجديد للناس؟ وهنا تبدأ حركة الصورة الأخيرة: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } فهي تنتظر وتترقب وترصد لاستقبال القادمين إليها، لتكون دار الإقامة الأخير لهم بعد أن طوّفوا بالأرض وقطعوا المراحل الكثيرة من الزمن حتى وصلوا إليها في المرحلة التي توقفت في محطة الموت لتواصل مسيرتها في الحياة الجديدة.

{لِّلطَّاغِينَ مَآباً} فهي النهاية التي يلتقي بها مصير الطغاة، حيث يصلون إليها بعد الرحلة الطويلة، {لابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} أي أزمنة كثيرة ودهوراً طويلةً من غير تحديد.

{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} إنه اللهيب الذي يحرق داخلهم فتشتد الحرارة فلا يجدون ما يبردها، ويتعاظم الظمأ، فلا يحصلون على ما يرويهم، بل يجدون بدلاً من ذلك ما تشتد به الحرارة ويزيد الظمأ.

{إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فهذا هو البرد الذي يفاجأون به، {جَزَآءً وِفَاقاً} أي يوافق ما قدموه من أعمال في ما كانوا يكفرون ويعصون الله به.

{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} لأنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك فلم يجدوا ضرورة للتدقيق في حساباتهم لتتوافق مع حساباتها، فكانوا يخبطون في حياتهم خبط عشواء، فلا يميزون بين الحق والباطل، ولا يفصلون بين الخير والشر والحسن والقبيح.

{وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا كِذَّاباً} فأنكروا الحقائق العقيدية التي أنزلها الله عليهم في آياته التي بلّغها الرسل لهم، ولم ينفتحوا عليها ليفكروا وليناقشوا وليصلوا إلى النتائج الحاسمة من موقع المسؤولية في الفكر والانتماء وفي العبودية لله.

{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتاباً} فإذا كانوا لم يدققوا في حساباتهم، ولم يحصوا أعمالهم، ليدافعوا عنها في هذا اليوم، فهم الآن في غفلةٍ عنها ونسيان لها، فإن الله قد أحصى عليهم ذلك بكل دقّة، فلم يغادر كتاب الأعمال صغيرة ولا كبيرةً إلا أحصاها.. وكان الجزاء مطابقاً لهذه الأعمال وهو العذاب.

{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} فهذا هو الطعام الذي تتذوّقونه والشراب الذي تشربونه، فإذا طلبتم ما يشبع الجوع، وما يروي الظمأ، فلن تجدوا إلا ما يزيد من الجوع والعطش من هذا العذاب الأليم.

* * *

موقع المتقين يوم الحساب

وتلك هي صورة المصير النهائي للطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد في ما أفسدوه من حياتهم الخاصة بالكفر والعناد، ومن حياة غيرهم بالإضلال. أما الذين آمنوا بربهم وساروا في خط التقوى، وعملوا على أساس أنهم ملاقون لحسابهم، وأنهم سيقفون ـ غداً ـ بين يدي ربهم، فأخلصوا العمل، فسيلاقون جزاءً موافقاً لأعمالهم.

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي موقعاً يلتقون فيه بالخير الكبير من الله الذي يمثل الفوز، {حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً} مما كان يعرفه المخاطبون من الثمار، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} جزاءً لهم على ما أخلصوا في عبادتهم، {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي ممتلئة بالشراب.

فهذه هي النماذج التي يعيش فيها المتّقون النعم الحسيّة التي يتلذّذون فيها بالفاكهة الشهية، والمظهر الجميل، والنساء الناهدات الشابات، والشراب المنعش. وإذا كانت الآيات قد حدّدت هذه الأمور، فإنها لم تقصد التحديد، بل قدّمت النموذج للذة الحسية التي يعيش الناس في الدنيا أحلامها واهتماماتها. لكن الجنة تحمل للمتقين كل شيء مما يشتهونه، ومما لا حصر له من اللذات الحسية أو الروحية التي لم تخطر على قلب البشر.

{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً} فهناك الحياة النقية الخالصة من العبث الكلامي الذي لا يعبّر عن أي معنًى نافع للحياة، وهناك الصدق الخالص من الكذب الذي يبتعد عن الحقيقة، لأنه لا حاجة لما كان الناس في الدنيا يخوضون فيه من اللغو والكذب في مواقع الجدل الذي يقود إلى ذلك.

{جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} فهي تمثل الجزاء على العمل، في ما يستحقه الإنسان من خلال وعد الله له، كما تمثل العطاء المحسوب بدقة من خلال التفضل الإلهي عليه، لأن الإنسان مملوكٌ لله بنفسه وبعمله، فلا يستحق على الله شيئاً إلا من خلال ما يتفضل عليه به.

{رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الذي يملك الكون كله، والأمر كله، فيعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، {الرَّحْمَنِ} الذي يطل على خلقه من موقع رحمته التي قد تتمثل بالعقاب للطغاة، وقد تتمثل بالثواب للمتقين. ومهما كانت الرحمة في إيحاءاتها التي تفتح قلوب الناس ومشاعرهم على الله، حتى ليحسوا بالاقتراب منه، فإن ذلك لا يستوجب زوال الهيبة من نفوسهم، فهم يقفون بين يديه في موقع الحساب، ولكن {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} في ما يفعل أو يقول، ولا يستطيعون الشفاعة لديه، لأن الأمر له، فلا يملك أحد معه كلاماً في أيّ شأن من الشؤون في مواقع القدرة والجلال.

* * *

اليوم الحقّ

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} وهو المخلوق الغيبـي الذي تحدث الله عنه في أكثر من آية، كما لو كان وجوداً متميزاً عن الملائكة في طبيعته أو في دوره، في ما كان الله يكلّفه به من المهمّات في الوحي وفي غيره مع الملائكة أو بدونهم.

{وَالْمَلائِكَةُ صَفاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} في خشوع الإحساس بالعبودية لله والإخلاص له، في الأجواء التي توحي بالرهبة والجلال، فلا تنطلق منهم أيّة كلمةٍ في أيّ شيء، لأن الكلمة لله وحده، ولأن القرارـ في كلّ شيء ـ له وحده أيضاً، {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} في الكلمات المتعلقة بالشفاعة أو غيرها مما يتصل ببعض شؤون الناس في القيامة، أو شؤون الشخص ذاته، {وَقَالَ صَوَاباً} فهناك لا مجال إلا للحق الصرف المنزّه عن كلّ باطل، وللصواب الصرف الذي لا مجال فيه لأيّ خطأ، ولا يمكن لله أن يأذن لمن يقول الخطأ، أن يتكلم في ذلك اليوم.

{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الذي لا مجال للريب فيه، كما لا مجال للباطل أن يتحرك فيه، إذا اعتبرنا المسألة على سبيل المبالغة، بأن يراد به اليوم الذي يمثل التجسيد للحق في المضمون الذي يحتويه في الحساب ونحوه، ما يجعل الذين عملوا له في الدنيا هم أصحاب هذا اليوم، {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} ليحصل على النتائج الإيجابية من خلال سعيه في الدنيا ليرجع إلى الله في رحمته ورضوانه.

{إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} لأنه آت لا محالة، فمهما ابتعدت خطوات الزمن، فسوف تصل إليه عاجلاً أو آجلاً.. إنه الإنذار الأخير الذي يضع المسألة في نصابها الصحيح.

{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من خير أو شرٍّ في ما كان يأخذ به من قضايا العقيدة والعمل، ويتطلّع إلى النتائج من خلال ذلك، فيرتاح المتقون لأعمالهم، ويؤكدون الثقة بمستقبلهم، ويطمئنون لثواب الله. أما الكافر، فإنه ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويعيش التمنيات اليائسة، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} لا مجال فيه للحس ولا للوعي ولا للحركة، بل هو الموت الجامد الذي لا ينتهي إلى حياة، لئلا يواجه المسؤولية بهذا المستوى الكبير في مثل هذا اليوم العظيم.