المقدمة + الآيات 1-10
سورة عبس
مكية، وهي اثنتان وأربعون آية
في أجواء السورة
وهذه من السور المكية التي تتنوّع أغراضها، ولكنها تلتقي حول قاعدة واحدة هي انفتاح القلب الإنساني على الله في سلوكه العملي من حيث تحريك القيم الروحية والمعاني الأخلاقية في حياته، ليكون ميزان التقييم لديه هو القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى. وفي هذا المجال، كان الحديث في بداية السورة، عن حادثةٍ، قد يكون النبي هو المخاطب بها لعلاقتها به، وقد يكون غيره، تتصدّى لمسألة الانفتاح على بعض المترفين من كفار قريش، والانغلاق عن بعض المستضعفين من مؤمني الإسلام. فكان التوجيه الإلهي يؤكد على سلبية هذا الأداء، بميزان القيمة الرسالية.
ثم كانت انتقلت السورة إلى إثارة مسألة خلق الإنسان والمراحل الرّئيسة التي يمر بها وصولاً إلى طور البعث والتنوّر، وكل ذلك، في مسعًى لجذب انتباه تفكير الإنسان، وتنشيط وعيه، ليدفعه إلى تصوّر تنوّع المواقع في تهيئة الله للإنسان طعامه، منذ بداية التفاعل بين الحبّة والماء والتربة، إلى نهاية النموّ في النتاج الشهيّ للثمر، وللصورة الحلوة للخضرة الممتدة في الأرض، والمرتفعة في الفضاء، المتنوّعة الفواكه والثمار، ليفكر الإنسان بالنعمة كيف تتحرك لتحفظ له وجوده، ولتبني له حيويّته.
وتختم السورة الحديث عن المسؤولية الفردية في مسألة المصير، فلن ينفعه أحدٌ في يوم القيامة الذي يواجه فيه مسؤوليته، بحيث يفر ـ هناك ـ من أقرب الناس إليه، لينطلق الناس في هذا الجو، بين وجوهٍ ضاحكةٍ مستبشرةٍ، وهي وجوه المؤمنين المتقين، ووجوهٍ عليها غبرة، وهي وجوه الكفرة الفجرة..
وفي ضوء ذلك، نلاحظ أن السورة تعمل على إبقاء الإنسان مشدوداً إلى الوعي الفكري ـ الروحي ـ الذي يتعمق في وعيه لذاته في عمله، ليكون عمله منسجماً مع التزامه وفي ما حوله، مما يتعلق بوجوده وحركة الوجود من حوله، في المفردات التي تحفظ له حياته، ليبقى مشدوداً إلى الله، في إحساسه بارتباطه به في كل شيء، فلا يغفل عنه في كل المواقع، ولا يفكر إلاّ به في خطه العملي. ثم يواجه الموقف في الخط المستقيم بالإشراف على الموقف في الآخرة، ليوازن النتائج على هذا الأساس، باعتبار ارتباط النتائج بالمقدمات.
ــــــــــــــــــــ
الآيــات
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءهُ الأعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ سْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (1ـ10).
* * *
معاني المفردات
{وَتَوَلَّى} أعرض بوجهه.
{تَصَدَّى}: تتصدى، أي تتعرض له وتقبل عليه.
* * *
مناسبة النزول
دخل المفسرون في جدلٍ حول الشخص الذي كان موضوع الحديث في هذه الآيات، هل هو النبي(ص)، أم هو شخصٌ غيره؟ لأن الصفات التي توحي بها الآيات لهذا الشخص لا تتناسب مع خُلق النبي، وربما لا تتناسب مع عصمته. وسنعالج هذه المسألة في نطاق الروايات الواردة، وفي خط المنهج الإسلامي في خط الدعوة الأخلاقي..
جاء في مجمع البيان «قيل: نزلت الآيات في عبدالله بن أم مكتوم، وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ، وذلك أنه أتى رسول الله(ص) وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأبيّاً وأمية ابني خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلِّمني ممّا علّمك الله، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغلٌ مقبلٌ على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(ص) لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين» [1].
* * *
الشيخ الطبرسي وروايات النزول
جاء في مجمع البيان: «قال المرتضى علم الهدى قدّس الله روحه: ليس في ظاهر الآية دلالةٌ على توجّهها إلى النبي(ص)، بل هو خبرٌ محضٌ لم يصرّح بالمخبر عنه، وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره، لأن العبوس ليس من صفات النبي(ص) مع الأعداء المباينين، فضلاً عن المؤمنين المسترشدين، ثم الوصف بأنّ يتصدّى للأغنياء ويتلّهى عن الفقراء، لا يشبه أخلاقه الكريمة، ويؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفه(ص) {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فالظاهر أن قوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى} المراد به غيره. وقد روي عن الصادق(ع) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي(ص)، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.
فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنباً أم لا؟ فالجواب أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنباً، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه(ص) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أوْلى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه. وقال الجبائيّ: في هذا دلالةٌ على أن الفعل يكون معصيةً فيما بعد، لمكان النهي، فأما في الماضي، فلا يدلّ على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه، والله سبحانه لم ينهه إلاَّ في هذا الوقت.
وقيل: إن في ما فعله الأعمى نوعاً من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلا أنه كان يجوز أن يتوهّم أنه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه الله سبحانه على ذلك، وروي عن الصادق(ع) أنه قال: كان رسول الله(ص) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال مرحباً مرحباً، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبداً، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكفُّ عن النبي(ص) ممّا يفعل به»[2].
ولعلّ هذا العرض الذي قدّمه الشيخ الطبرسي أكثر الحديث شمولاً للاعتراضات الدائرة حول نسبة القصة إلى النبي محمد(ص) في سلوكه مع الأعمى، ولذلك نقلناه بطوله.
* * *
مناقشة الروايات
ونحن نريد أوّلاً التعليق على الروايات التي لخّصها الشيخ الطبرسي الواردة في نسبة الموضوع إلى النبي(ص) في ما روي عن عائشة وابن عباس، لنلاحظ أنها تنقل عن تصورات النبي للانطباعات التي يمكن أن تحصل لدى هؤلاء الصناديد بأن أتباعه هم العميان والعبيد، وهذا مما لا يمكن أن يكون صحيحاً، لأن هذه المسألة ليست مسألةً خفيّةً لدى مجتمع الدعوة، فإن أتباع النبي(ص) كانوا يمثلون الطبقة المستضعفة من المجتمع إلا القليل ممن كانوا في طبقة الأغنياء أو الوجهاء، فكيف يمكن أن يخاف النبي من هذا الانطباع الذي يفرض نفسه من خلال الواقع؟!.
ثم إن النبي(ص) هو الأوعى والأعرف بالقيمة الروحية التي يمثلها الإسلام في تقييم الأشخاص على أساس التقوى التي تجمع الإيمان والعمل، فلا يجوز أن ينسب إليه احتقاره للمؤمنين في مسألة الانتماء إلى مجتمع الدعوة التابع له، وهل كان النبي(ص) يجتمع بالمؤمنين سرّاً، ليدفع عنه هذا الانطباع، حتى يكون مجيء الأعمى إلى مجلسه مفاجأةً له؟!
ونحن لا نريد تأكيد هذه الرواية أو رفضها، بل نريد إثارة المسألة حول إمكان نسبة القصة إلى النبي(ص) أو عدم إمكانها، لنتبنّى إمكان ذلك من دون منافاةٍ لخُلُقه العظيم، ولعصمته في عمله، وذلك في ضمن نقاط:
النقطة الأولى: إن دراستنا لعلاقة النبي(ص) بهذا الأعمى تدلّ على أن هناك صلةً وثيقةً بينهما، بحيث كان يدخل على النبي(ص) وهو جالسٌ بين زوجاته، وقد اشتهرت الرواية التي تتضمّن دخوله عليه وعنده عائشة وأم سلمة، فقال لهما: احتجبا فقالتا: إنه أعمى، فقال: أنتما تريانه.
..وإذا كان ذلك قد حدث في المدينة، بالإضافة إلى استخلافه عليها عند خروجه إلى الغزو، فإنه يدل على عمق الصلة منذ البداية، لا سيما إذا سلّمنا بالرواية التي تتضمن سؤاله الملحّ بأن يتلو عليه كتاب الله ويعلّمه ممّا علمه الله، ما يدلّ على الروحية الإيمانية التي تستوعب المعرفة الدينية للقرآن وللإسلام بالمستوى الذي ينتهز فيه الفرصة الدائمة لاكتساب العلم.
إن ذلك كله قد يوحي بوحدة الحال بينه وبين النبي(ص)، بحيث يغيب عن العلاقة أيّ طابعٍ رسميٍّ، ما يجعل إعراض النبي(ص)، اعتماداً على ما بينهما من الصلة التي تسمح له بتأخير الحديث معه إلى فرصةٍ أخرى، من دون أن يترك أيّ أثرٍ سلبيٍّ في نفسه، لا سيّما إذا كان ذلك لمصلحة الدين التي تجعل أي مسلمٍ في زمن الدعوة الأوّل، يفرح لنجاح النبي في استمالته لأي شخص من كفار قريش الوجهاء في مجتمعهم، إلى دائرة الإيمان أو الدين الجديد، باعتبار أن ذلك يخفف العذاب والحصار على المسلمين المستضعفين، ومنهم ابن أم مكتوم. وبذلك يكون إعراض النبي عنه كإعراضه عن أحد أفراد أصحابه، أو عائلته، اتّكالاً على ما بينهما من صلاتٍ عميقة ووحدة حال. كما أن العبوس لم يكن عبوس الاحتقار، بل قد يكون أقرب إلى عبوس المضايقة النفسية التي توجد تقلّصاً في الوجه عندما يقطع أحدٌ على الإنسان حديثه الذي يرقى إلى مستوى الأهمية لديه، فلا يكون، في ذلك، أيّ عمل غير أخلاقيٍّ، فلا يتنافى مع الآيات التي أكّدت خلقه العظيم وسعة صدره.
النقطة الثانية: إن مدلول الآيات يوحي بأن النبي(ص) كان يستهدف من حديثه مع هؤلاء الصناديد، تزكيتهم الفكرية والروحية والعملية، بعيداً عن مسألة الاهتمام بغناهم من ناحيةٍ ذاتيةٍ، في ما اعتاده الناس من الاهتمام بالغنيّ تعظيماً لغناه، ورغبةً في الحصول على ماله، في ما يمثله ذلك من قيمةٍ سلبيةٍ بالمستوى الأخلاقي، الذي يؤكد على تقييم الشخص لصفاته الفكرية والعملية الإيجابية، وذلك هو قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى*وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} للإيحاء له بأن عدم حصوله على التزكية، بعد إقامة الحجة عليه من قبلك مدّةً طويلة، لا يمثل مشكلةً بالنسبة إليك، لأنك لم تقصر في تقديم الفرص الفكرية بما قدمته من أساليب الإقناع، ما جعل من التجربة الجديدة تجربةً غير ذات موضوع، لأنه يرفض الهداية من خلال ما يظهر من سلوكه، الأمر الذي يجعل من الاستغراق في ذلك مضيعةً للوقت، وتفويتاً لفرصةٍ مهمّةٍ أخرى، وهي تنمية معرفة هذا المؤمن الداعية الذي يمكن أن يتحول إلى عنصر مؤثّر في الدعوة الإسلامية. فأين هي المشكلة الأخلاقية المنافية للعصمة في هذا كله؟
النقطة الثالثة: إن السورة قد تكون واردةً في مقام توجيه النبي(ص) إلى الاهتمام بالفئة المستضعفة التي تخشى الله وتؤمن به، لتعميق تجربتها الروحية، وتنمية معرفتها القرآنية الإسلامية، لأن ذلك ما يقوّي قاعدة المجتمع الإسلامي الصغير النامي الذي يملك أفراده الإيمان القويّ والالتزام الشديد، ويرفع من مستوى الدعوة في اهتمامات المؤمنين بالدعوة، ليتحوّلوا إلى دعاةٍ أكفاء، كما أن هذه الفئة هي الأكثر استعداداً لبذل الجهد وتحمّل المسؤوليات، وتقديم التضحيات، لأنهم الأقرب إلى روح الدعوة، ولأنهم لم يستغرقوا في خصوصيات الدنيا، ولم يأخذوا بامتيازاتها كما أخذ غيرهم، فهم لا يفقدون شيئاً من امتداد الإسلام كما يفقد الأغنياء والمستكبرون، بل يستفيدون من ذلك. ولعلّ هذا هو الذي نستوحيه من الظاهرة المعروفة، وهي أن أتباع الأنبياء والمصلحين هم الفئة المستضعفة المرذولة في المجتمع، لأن الدعوات الرسالية والإصلاحية تعالج مشاكلها، وتلتقي بتطلّعاتها، وتحترم إنسانيتها المسحوقة لدى الآخرين من المستكبرين.
أمّا الأغنياء، فإن هدايتهم قد تحقق بعض الربح وبعض النتائج الإيجابية على مستوى إزالة المشاكل التي كانوا يثيرونها أمام الدعوة، ولكنهم لا يستطيعون التخلص من رواسبهم بشكلٍ سريعٍ، ما قد يجعل الانصراف إليهم والانشغال بهم عن غيرهم، موجباً لبعض النتائج الصغيرة، على حساب النتائج الكبيرة.
وعلى ضوء ذلك، فقد تكون هذه الآيات واردةً للحديث عن المقارنة بين الاهتمام بتزكية المستضعفين من المؤمنين الذين هم القوّة الحركية للدعوة، وبين الاهتمام بتزكية هؤلاء الذين قد يحتاج الموضوع لديهم إلى جهدٍ كبيرٍ، لا يملك النبي(ص) الوقت الكثير له في اهتماماته العامة، في الوقت الذي لم تكن فرص هدايتهم كبيرة، كما أنهم لن يؤثِّروا تأثيراً كبيراً لمصلحة الدعوة، مع ملاحظةٍ مهمّة، وهي أن قوة الدعوة التي يحققها المستضعفون، في جهدهم وجهادهم، سوف تحقق الامتداد للإسلام، بحيث يدخل هؤلاء المستكبرون فيه بشكلٍ سريع، لأن هؤلاء لا يخضعون للمنطق ـ عادة ـ بل للقوة، وهذا ما لاحظناه في فتح مكة الذي أفسح المجال لدخول الناس في دين الله أفواجاً، لأن الإسلام قد بلغ الذروة في القوة آنذاك.
النقطة الرابعة: إن القسوة الملحوظة في الآيات في الحديث مع النبي(ص) تمثل ظاهرةً واضحةً في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة واستقامة خطها، سيما في قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] وقوله تعالى في الحديث عن المحاولات التي يبذلها المشركون للتأثير عليه من أجل الافتراء على الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً*وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}، [الإسراء:73ـ 75] وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] وغير ذلك من الآيات، لأن القضية ترقى إلى المستوى الكبير من الأهمية، بحيث لولاها لانحرفت مسيرة الرسالة بانحراف الرسول أو القائد، للإيحاء بأن هذه القضية لا تقبل التهاون حتى في الموارد المستبعدة منها، وذلك، من أجل أن يفهم الدعاة من بعد النبي(ص)، بأن عليهم أن يقفوا في خط الاستقامة، حتى بالمستوى الذي لا يمثل تصرفهم فيه عملاً غير أخلاقيٍّ، لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة، قد تجرّ إلى الانحراف بطريقةٍ لا شعوريّةٍ.
* * *
النقطة الخامسة: إن القرآن الكريم قد عمل على تثبيت شخصية النبي(ص) وتأديبه بأدب الله، في ما يريد الله له أن يأخذ به من الكمال الروحي والأخلاقي والعملي، ممّا يلقي إليه الله علمه، مما قد يختلف عن الخط المألوف عند الناس. ولعلَّ هذه المسألة تدخل في هذه الدائرة، لأن المعروف هو الاهتمام بالأغنياء لقدرتهم على التأثير في المجتمع بطريقةٍ فاعلةٍ كبيرةٍ، بينما لا يملك المستضعفون الفقراء مثل ذلك، فتكون النظرة ـ على هذا الأساس ـ نظرةً رساليةً، لكنها قد تترك تأثيراً سلبياً على النظرة العامة لسلوك الرسول، لأنهم قد يفكرون بالجانب السلبي في القضية، وهو ملاحظة جانب الغنى في الاهتمام بالأغنياء من جهة النظرة الذاتية إلى قيمة الغنى في المجتمع، فتأتي الآيات لتثير الموضوع بهذه الطريقة لإبعاد السلوك عن الصورة السلبية من حيث الشكل، حتى لو لم تكن سلبية من حيث المضمون، مع ملاحظة مصلحة الدعوة في ذلك كله، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] فإن هذه الآية توحي بأن الله يريد إخراج النبي(ص) من الأجواء الضاغطة في العرف الاجتماعي، التي يمكن أن تترك تأثيرها الخفيّ على نفسه بطريقةٍ لا شعورية، فيلتفت إلى الأغنياء رغبةً في الامتيازات الحاصلة عندهم. وربّما كان ذلك على طريقة «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» ليكون الخطاب للأمة من خلال النبي(ص)، ليكون ذلك أكثر فاعليةً وتأثيراً إيحائياً في أنفسهم، لأن النبي(ص) إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف، فكيف إذا كان الخطاب يراد به غيره.
النقطة السادسة: إن الرواية المنسوبة إلى الإمام الصادق(ع) في أن الحديث عن رجلٍ من بني أمية، لا تتناسب مع أجواء الآيات، لأن الظاهر من مضمونها، أن صاحب القضية يملك دوراً رسالياً، ويتحمل مسؤولية تزكية الناس، ما يفرض توجيه الخطاب إليه للحديث معه عن الفئة التي يتحمل مسؤولية تزكيتها، باعتبارها القاعدة التي ترتكز عليها الدعوة وتقوى بها، في مقابل الفئة الأخرى التي لم تحصل على التزكية، ولا تستحق بذل الجهد الكثير.
* * *
الرسول بين المهم والأهم
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} أي واجه الموقف بالعبوس الذي يتمثل في تقلص عضلات الوجه وقسوة النظرة، والإعراض عن هذا السائل الملحاح، {أَن جَآءهُ الأعْمَى} الذي عاش مسؤولية الإيمان في مسؤولية المعرفة، كما عاش مسؤولية الدعوة في حاجتها إلى الوعي الرسالي بكل مفرداتها العقيدية والتشريعية، فأراد انتهاز فرصة وجود النبي(ص) مع المسلمين ليأخذ من علمه، ممّا أنزله الله عليه من كتاب، وما ألهمه من علم الشريعة والمنهج والحياة... ولكن النبيّ(ص) لم يستجب له، لأن هناك حالةً مهمّة يعالجها في دوره الرسالي المسؤول، في محاولة لتزكية هؤلاء الكفار من وجهاء المشركين، طمعاً في أن يسلموا ليتسع الإسلام في اتباع جماعتهم لهم، لأنهم يقفون كحاجزٍ بين الناس وبين الدعوة، ولذلك أجَّل النبي(ص) الحديث مع هذا الأعمى إلى وقتٍ آخر، إذا كانت الفرص الكثيرة تتسع للّقاء به أكثر من مرّة، فتكون له الحرية في إغناء معلوماته بما يحب في جوٍّ هادىءٍ ملائم، بينما لا تحصل فرصة اللقاء بهؤلاء دائماً، فكانت المسألة دائرةً ـ في وعيه الرسالي ـ بين المهمّ في دور هذا الأعمى، وبين الأهمّ في دور هؤلاء الصناديد.
* * *
الأولوية لمن يتزكى
ولكنّ الله يوجه المسألة إلى ما هو الأعمق في قضية الأهمية في مصلحة الرسالة، باعتبار أن هذا الأعمى قد يتحول إلى داعيةٍ إسلاميٍ كبيرٍ، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} في ما يمكن أن يستلهمه من آيات القرآن التي يسمعها، مما يُغْني له روحه، فتصفو أفكاره، وترقّ مشاعره، وتتسع آفاقه، وتتعمق معرفته بربه، فيؤدي ذلك إلى عمقٍ في الفكر، وسعةٍ في الأفق، وغنًى في الشخصية، وحيويةٍ في الحركة، مما يؤثّر تأثيراً إيجابياً على حركته في الدعوة، فيحصل من ذلك على خيرٍ كبير. {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}، في ما يمكن أن يعيشه من غفلةٍ عن بعض الحقائق، أو جهلٍ ببعض القضايا، فتأتي الكلمات القرآنية لتقشع عنه سحائب الغفلة، وتأتي الكلمات الرسولية لترفع عنه حجاب الجهل، فإذا حدث له ذلك، أمكن لهذا التطور في شخصيته، أن يحقق النفع للخط الإسلامي المستقيم على مستوى الالتزام والدعوة والحركة.
* * *
ليس للدعاة الانفتاح على الأغنياء لغناهم
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} فلم تكن لديه أيّة ميزةٍ إلاّ غناه، وكان يعتبر أن الغنى يمثِّل عمق القيمة التي تمنحه موقعاً اجتماعياً متقدّماً، وتغريه ـ دائماً ـ بأن يضع كل فكره وعمله وعلاقاته بالناس في خدمة هذا الغنى، حتى أن انتماءه إلى أيّ دينٍ أو مذهبٍ يتحرك في جهة الدين الذي يخدم مصلحته المادية، والمذهب الذي يدعم ثروته.
{فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} لتحاول بجهدك الرسالي أن تمنحه زكاة الروح وطهارة الفكر، في ما تحسبه من النتائج الكبيرة لذلك على مستوى امتداد الإسلام في قريش.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} فلن تتحمل أيّة مسؤوليةٍ من خلال ابتعاده عن الخط المستقيم، وتمرّده على تطلعات الروح إلى آفاق الطهارة وسماوات الصفاء، لأنك لم تقصر في الإبلاغ، ولم تدّخر أيّ جهدٍ في ما حرّكته من الوسائل التي تملكها، وفي ما استخدمته من الأساليب التي تحرّكها في اتجاه التزكية للناس جميعاً. وقد سمعوا ذلك كله، وأصرّوا على الاستكبار والتمرّد، لا من موقع شبهةٍ، ولكن من موقع القرار الذي أصدروه مع جماعتهم في عدم الاستجابة إليك. ولم يكن قدومهم إليك من أجل الهداية، بل كان ذلك ـ ربّما ـ من أجل الضغط عليك بطريقتهم الخاصة، لتترك الرسالة، أو لتدخل معهم في حسابات التسويات، لتقدم التنازلات ضد مصلحة الرسالة. وهذا ما يريد الله أن يعرّفك إيّاه من خلال ما يعلمه من خفايا هذا الإنسان وجماعته، وما قد تعرفه من خلال تجربتك الحسية في المستقبل.
{وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسْعَى} للحصول على المعرفة {وَهُوَ يَخْشَى} الله في نفسه، وفي مسؤوليته في الدعوة، وفي المهمَّات الأخرى الموكولة إليه، مما قد يتوقف على سعة المعرفة، {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} لأنك تحسب أن إيمان هؤلاء الصناديد قد ينفع الإسلام أكثر من نموّ إيمان هذا الأعمى الذي يمكن أن يؤجّل السؤال إلى وقت آخر. ولكن المسألة ليست كذلك، لأن هذا الأعمى وأمثاله، قد يمثلون مسؤوليتك المباشرة كرسولٍ يعمل على تنمية خط الدعوة بتنمية الدعاة من حوله، من أجل أن يوفروا عليك بعض الجهد، أو يوسّعوا ساحة الدعوة في مواقع جديدة. وهذا ما يريد الله أن يفتح قلبك عليه، في ما يريد لك من تكامل الوعي، وسعة الأفق، وعمق النظرة للأمور. ولا مانع من أن يربّي الله رسوله تدريجياً، ويثبت قلبه بطريقةٍ متحركةٍ في حركة الدعوة، تبعاً لحاجتها إلى ذلك، تماماً كما كان إنزال القرآن تدريجياً من أجل الوصول إلى هذه النتائج.
ــــــــــــــــ
(1) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان، دار البيان، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1406هـ ـ 1986م، ج:10، ص:663ـ664.
(2) مجمع البيان، ج:10، ص:664.
تفسير القرآن