من الآية 17 الى الآية 32
الآيــات
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ* كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدَآئِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً* مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} (17ـ32).
* * *
معاني المفردات
{مَآ أَكْفَرَهُ}: ما أشدّ كفره.
{أَنشَرَهُ}: بعثه إلى الحياة من جديد.
{وَقَضْباً}: القضب: هو ما يؤكل رطباً غضاً من الخضرة التي تقطع مرة بعد أخرى.
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}: قيل: الفاكهة مطلق الثمار، والأبّ: الكلأ والمرعى.
* * *
الكفر المحض
وهذا حديثٌ عن الإنسان الذي يكفر بالله، فلا يتطلع إلى مواقع عظمته في خلقه، ولا إلى مواقع نعمه في حياته، ما يجعل من كفره بهذه الحقيقة الواضحة، كفراً بما لا يجوز الكفر به، لأن مجرد التفكير به يدفع إلى الإيمان به.
{قُتِلَ الإِنسَانُ} كلمة دعاءٍ عليه، وإيحاءٍ بتفظيع أمره وتقبيحه، باعتبار أنه فعلٌ يستحق عليه القتل، لخطورته في نتائجه الخطيرة، {مَآ أَكْفَرَهُ} أي ما أشدّ كفره وجحوده وتمرده على ربّه، فإنه يستوجب العجب، في إنكاره ما لا يجوز إنكاره من حقيقة الإيمان بربه، لأنه جمّد عقله عن الحركة في اتجاه اكتشاف الأسس التي يرتكز عليها الإيمان.
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} هل طرح هذا السؤال على نفسه؟ وهل فكّر في أصله؟
{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} ما قيمة هذه النطفة؟ وماذا تملك في ذاتها من العناصر الذاتية للنمو؟ إنها ـ ككل الأشياء ـ لا تملك القدرة، ولكن الله هو الذي يقدّر لها طبيعة النمو، وحركة التحول، وعناصر التنوّع، وسرّ الحياة، بالمستوى الذي يصل فيه هذا الموجود الحقير إلى أن يكون خلقاً سوياً يملك السمع والبصر والحس والعقل والإرادة.
* * *
ثم السبيل يسَّره
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي مهّد للإنسان سبل الحياة في ما سخّره له من ظواهرها المتصلة بوجوده، كما مهّد له سبل الهداية في ما فتحه له من طرق معرفة الخير والشّرّ، ليختار ما يريده منها، وفي ما أودعه، في ذاته، من عناصر الحركة، التي يتمكن بها من سلوك الطريق المستقيم، ومن الأخذ بأسباب الحياة.
وهناك توجيهٌ آخر لهذه الآية، ذكره صاحب تفسير الميزان قال: «ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره واستكباره، أن المراد بالسبيل ـ وقد أطلق ـ السبيل إلى طاعة الله وامتثال أوامره، وإن شئت فقل: السبيل إلى الخير والسعادة.
فتكون الآية في معنى دفع الدخل، فإنه إذا قيل: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق والتقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كل جهةٍ، كانت أفعال الإنسان لذاته وصفاته مقدّرة مكتوبة ومتعلّقة لمشيئة الربوبية التي لا تتخلف، فتكون أفعال الإنسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق، والإنسان مجبراً عليها فاقداً للاختيار، فلا صُنع للإنسان في كفره إذا كفر، ولا في فسقه إذا فسق، ولم يقض ما أمره الله به، وإنما ذلك بتقديره، تعالى، وإرادته، فلا ذمّ ولا لائمة على الإنسان، ولا دعوة دينية تتعلق به، لأن ذلك كله فرعٌ للاختيار ولا اختيار.
فدفع الشبهة بقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}، ومحصله أن الخلق والتقدير لا ينافيان كون الإنسان مختاراً في ما اَمر به من الإيمان والطاعة، له طريقٌ إلى السعادة التي خلق لها، فكلٌّ ميسّرٌ لما خلق له، وذلك أن التقدير واقعٌ على الأفعال الإنسانية من طريق اختياره، والإرادة الربوبية متعلقةٌ بأن يفعل الإنسان بإرادته واختياره كذا وكذا، فالفعل صادرٌ عن الإنسان باختياره، وهو بما أنه اختياريٌّ متعلّق للتقدير.
فالإنسان مختارٌ في فعله مسؤول عنه، وإن كان متعلقاً للقدر..»[1].
ولكن يظهر من سياق الآية أن المراد هو تذكير الإنسان بتطور وجوده، ومواقع نعمة الله عليه، لينتهي من خلال التفكير بذلك إلى الإيمان بالله، وليبتعد عن خط الكفر به، وليس المراد الحديث عن طبيعة مسؤوليته، في ما هو الجبر والاختيار، لأن الجوّ ليس جوّ البحث في تفاصيل طبيعة خلق الإنسان في تكوينه الداخلي والخارجي.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} عندما انتهت رحلة الحياة في الأجل المحدّد له في ذاته من حيث طبيعة إمكانات الحياة فيه، أو في دائرة الظروف المحيطة به، من خلال علاقته بالواقع الكوني، في ما خلقه الله من أسباب الحياة والموت. وهكذا أماته، وجعل السنّة أن يدفن في باطن الأرض تكريماً له لئلا تأكله السباع.
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} وبعثه إلى الحياة من جديد ليواجه نتائج أعماله في الدنيا، لأن الله لم يخلقه عبثاً، ولم يتركه سدًى، بل جعل لكل عملٍ جزاءً ثواباً أو عقاباً، فهل فكر الإنسان في ذلك؟ وهل وعى ضرورة الاستعداد ليوم الحشر؟ {كَلاَّ} فلم يفكر الإنسان تفكيراً دقيقاً في هذا الموضوع، ولو فكر به لرأى أن الاحتمال ـ وحده ـ يكفي لإثارة الاهتمام به، لأنه يتصل بمسألة المصير في مواجهة الموقف ـ غداً ـ بين يدي الله، ما قد يؤدي إلى الخسارة الخالدة، لو كان حقاً.
وهكذا امتد هذا الإنسان في غفلته، و{لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} الله به من مسؤوليات وما فرضه عليه من شكر النعمة، فعاش الحياة غافلاً عن ربه، مستغرقاً في دنياه، مقصراً في واجباته، مهملاً لدوره الذي أعده الله له في خلافته عنه.
وإذا كان هذا الإنسان لا يعي مسألة الوجود في بدايته وفي تقديره، وفي موته ونشوره، لأنه لا يستغرق عادةً في طبيعة كيانه، باعتبار أنه ليس منفصلاً عنه، ما يجعل التركيز فيه يستدعي المزيد من الإعداد والتفكير للوصول إلى ذلك، ولكن هناك مسألة تتكرر في حياته اليومية، في ما يتناوله من طعامه الذي قد يثير لديه الكثير من التفكير حوله، وربما يصنعه بيده في زراعته له.
* * *
فلينظر الإنسان إلى طعامه
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} كيف تكوَّن؟ وما هي العناصر المكوِّنة له؟ إن هذه الآيات تختصر له رحلة الطعام منذ البداية حتى النهاية.
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً} وذلك من خلال إنزال المطر الذي يعرفه كل الناس كحقيقةٍ وجودية متحركة في كل مكان، وأمام كل الناس، فكيف كان المطر؟ وما هي العوامل التي دفعت به إلى الأرض، وكيف اختلفت الفصول والمناطق في أمره، من حيث تكوّنه وهطوله؟
إن الناس لا يثيرون عادةً كل هذه الأسئلة، لأن الكثيرين منهم لا يهتمون بدراسة أسرار الظاهرة، بل يكتفون بالارتباط بها في مواقع الحسّ، والاستفادة منها في مجالات الحاجة. ولكن هناك بعضاً من الناس الذين يملكون الفضول العلمي، فيبحثون عن الأسرار في جهد دائب للوصول إليها، وقد جاء في بعض الأبحاث العلمية الحديثة بعضاً من الحديث عن ذلك. فقد قال «كريسي موريسون» في كتابه: «الإنسان لا يقوم وحده » الذي ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان: «العلم يدعو إلى الإيمان»:
إذا كان صحيحاً أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12,000 درجة، أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض، فعندئذ كانت كل العناصر حرّةً، ولذا لم يكن في الإمكان وجود تركيب كيميائيّ ذي شأن. ولما أخذت الكرة الأرضية أو الأجزاء المكوّنة لها في أن تبرد تدريجياً، حدثت تركيبات، وتكوّنت خليّة العالم كما نعرفه. وما كان للأوكسجين والهيدروجين أن يتّحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فهرنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معاً تلك العناصر، وكوّنت الماء الذي نعرّفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية، ولا بد أنه كان هائلاً في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء، وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازاتٍ في الهواء. وبعد أن تكوّن الماء في الجوّ الخارجي، سقط نحو الأرض، ولكنه لم يستطع الوصول إليها، إذ كانت درجة الحرارة على مقربةٍ من الأرض أعلى مما كانت على مسافةِ آلاف الأميال. وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء، فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد، كانت فوق الحسبان، وتمشّي الجيشان مع التفتت[2].
وقد لا نستطيع التأكد من هذه التصورات العلمية، كما لا نتمكن من إخضاع المضمون القرآني لها، ولكننا نجد، في هذه الظاهرة المحسوسة، في صبّ الماء من السماء، توجيهاً للفكر الإنساني، ليتأمله، وليتعمق في دراسته، وفي القوانين الإلهية الكونية التي تحكمه، ليزداد بذلك معرفة، فيزداد بالمعرفة إيماناً، لأن أيّ تفسيرٍ ينطلق من القانون الإلهي، لا بد من أن يثير الشعور بالعظمة في التدبير والتقدير.
* * *
شقّ الأرض
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً} عندما ينفذ الماء إليها ليفتح أعماقها، ويمتزج بتربتها، ويحوّل جوفها إلى خزّاناتٍ واسعةٍ تتفجر منها الينابيع، وتجري منها الأنهار، وتحوّل التراب إلى حياة تتفاعل مع البذور التي أبدع الله خلقها وأودعها في الأرض، لتنمو في أجزاء التربة وعناصرها الغذائية، ثم لتشق الأرض من جديدٍ، لتخرج إلى وجهها، وتتنفس هواءها، وقد يلاحظ الإنسان، كيف تشق النبتة النحيلة الأرض الصلبة القويّة، من دون أي عنصر للقوّة إلا تقدير الله، في ما جعله في طبيعة الأرض من قوانين التفتت والانفتاح على عملية نمو النبتة في أجزاء التربة.
* * *
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} من كل الحبوب التي تمثل غذاء الإنسان والحيوان، كالحنطة والشعير والعدس ونحوها {وَعِنَباً وَقَضْباً} والقضب هو ما يؤكل رطباً غضّاً من الخضرة التي تقطع مرةً بعد أخرى، {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} أي البساتين ذات الأشجار المسوّرة بحوائط تحميها، وكلمة {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} معناها الضخمة العظيمة الملتفة الأشجار.
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} قيل: الفاكهة: مطلق الثمار، والأبّ :الكلاء والمرعى.
وقد جاء في الدر المنثور: «أخرج أبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، عن إبراهيم التيمي، قال: سُئل أبو بكر الصدّيق (رضي الله عنه) عن قوله: {وَأَبّاً} فقال: أيّ سماء تظلني وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب، والحاكم، وصحّحه عن أنس، أنّ عمر قرأ على المنبر: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً*وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً ـ إلى قوله ـ وَأَبّاً} قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفع عصاً كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ؟ اتبعوا ما بُيِّنٍ لكم هداه من الكتاب، فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكِلوه إلى ربه»[3].
وقد نستوحي من هاتين الروايتين أن عظماء الصحابة كانوا لا يملكون المعرفة الشاملة للقرآن، وأنهم كانوا يتحرّجون من القول في القرآن بغير علم، فيقفون عند ما لا يعرفون ويتكلّمون بما يعرفون.
{مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} في ما أراده الله من تهيئة الظروف التي تتيح لكم الاستمرار في الحياة من خلال تهيئة كل حاجاتها الطبيعية.
وهكذا نلاحظ أن الله أراد من الإنسان أن لا يجلس إلى الطعام جلسةً مستغرفةً في الحاجة، وفي الرغبة في اللذة، ولكنه أراد له أن يجلس إليه جلسة تأمّل وتفكير، ليتعرف ـ من خلال ذلك ـ إلى مواقع العظمة، ومصادر النعمة، ليعرف ربّه، ولينطلق من خلال هذه المعرفة في خط طاعته وتقواه وشكره على نعمه.
ـــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:227.
(2) نقلاً عن: في ظلال القرآن، م:8، ج:30، ص:469ـ470.
(3) السيوطي، جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993 ـ 1414هـ، ج:8، ص:421ـ422.
تفسير القرآن