من الآية 33 الى الآية 42
الآيــات
{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (33-42).
* * *
معاني المفردات
{الصَّآخَّةُ}: الصيحة العظيمة التي تصمّ الآذان.
{مُّسْفِرَةٌ}: مشرقة.
{قَتَرَةٌ}: ظلمة الدّخان.
* * *
متاع الدنيا إلى زوال
ويبقى متاع الدنيا لكم ولأنعامكم. ولكن إلى متى؟ هل تخلدون له أو يخلد لكم؟ فستزولون بعد عمرٍ قصيرٍ أو طويل، وسيزول المتاع كله عنكم وعن غيركم، لأن الدنيا سوف تزول بأهلها ومتاعها، ولن يبقى منها للآخرة إلاَّ العمل، ويختلف المصير تبعاً لاختلاف العمل، وتأتي المفاجأة الصعبة.
{فَإِذَا جَآءتِ الصَّآخَّةُ} وهي الصيحة العظيمة التي تصمُّ الأسماع من شدّتها، وربما كانت كنايةً عن نفخة الصور التي تخرج الناس من الأجداث فتدب الحياة فيهم من جديد، لينطلقوا إلى لقاء الله في ساحة المحشر.
* * *
يوم يفر المرء من أخيه
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وأُمِّهِ وأبِيه* وصاحِبَتِهِ وبَنِيه} إنه الهول الشديد الذي يدفع الإنسان إلى التفكير بنفسه، بعيداً عن التفكير بغيره، فضلاً عن تحمّل مسؤوليته، فتتقطع بذلك العلاقات التي تشد الإنسان إلى أرحامه وإلى الأقربين منه، فلا دور للأخوّة هناك في اجتذاب عاطفة الأخ لأخيه، ولا مجال للأمومة والأبوّة لاجتذاب عاطفة الابن لأبويه، كما تذوب المشاعر الحنونة الحميمة في شعور الأب تجاه بنيه، أو إحساس الحب للزوج تجاه زوجته. إنه الفرار، فرار الإنسان من كلّ الذين قد يتعلّقون به، وقد يسألونه حاجةً، وقد يذكّرونه بعلاقتهم به، وقد يشغلونه بذلك عن بعض ما هو فيه، إنه مشغول بنفسه، بمصيره، بالنتائج المرتقبة أمامه، ولذلك، فإن كل تفكيره يتجه إلى ذلك، بعيداً عن كل هؤلاء.
إنها لا تمثل موت العاطفة، بل تمثل تغلّب الخوف المرعب الهائل على إحساسه بعلاقاته النسبية والعاطفية، مما يجمّد له ذلك الشعور الإنساني الحميم، تماماً كما هي الحال في الحياة الدنيا، عندما تضغط عليه التحديات الصعبة.
* * *
لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
{لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} لأن القضية قضية المصير الذي لا يملك أحد تبديله بأيّة وسيلةٍ من الوسائل التي كان يستعملها في الدنيا، عندما تزدحم المشاكل في ساحته، وتشتدُّ الضغوط عليه، فيلجأ إلى ماله أو إلى أهله أو ولده أو عشيرته، فإن الدنيا في خطها التاريخي العملي هي التي تحدد الصورة الأخيرة للمصير الإنساني يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذ لله، ما يجعل من كل إنسان إنساناً مشغولاً بما يقدم عليه في شأنه الجزائي، فهل يقدم على الجنة أو يقدم على النار؟! فليس لديه فراغ لغيره وليس عنده فضلة لسواه، إنه همّه الكبير الذي لا همّ أكبر منه، وهو شأنه العظيم الذي لم يطرأ في حياته شأنٌ مثله، فعلى الآخرين من أهله أن يتركوه ليفكر في همه، وأن يدعوه وشأنه، فلا يشغلوه بشيءٍ من أمرهم.
إنه الموقف العظيم الذي ترى فيه مستقبل الناس وماضيهم في وجوههم، لأن تاريخ الإنسان الأسود والأبيض يتحوّل إلى إشراقٍ وظلمةٍ في ملامح وجهه، كما أن مصيره المستقبلي ينطبع على وجهه في الصفاء الذي يموج في بسمات العيون والشفاه، أو في الغبرة المشبعة بالسواد في كل الملامح المتعبة.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مشرقةٌ بالنور الذي يتلألأ في لمعات عيونهم وفي إشراقة وجوههم، {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} فهي تضحك ضحكة السعادة حتى لتحسّ بضحكة العينين قبل ضحكة الشفتين، وهي تستبشر بما أعطاها الله من فضله، وأعدّه لها من ثوابه، وهذه هي وجوه المؤمنين المتقين.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} في ملامح الحزن والحسرة والهم الكبير التي تكدّر الوجه بما يشبه الغبار، {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } وهو السواد الذي يعلو الوجوه، فتحسّ بأن الليل يزدحم في كل ملامحها، وتلمح الذّلّ الذي يتمثل في الخشوع والانقباض، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} الذين عاشوا الكفر عقيدة والفجور عملاً. فهذا هو الجزاء العادل لهم، فهل يفكّر أمثالهم الآن قبل فوات الأوان؟
تفسير القرآن