المقدمة من الآية 1 الى الآية 14
سورة التكوير
مكية ، وهي تسع وعشرون آية
في أجواء السورة
هذه السورة من السور المكية التي تتحدث عن أجواء يوم القيامة وما يجري فيه من أحداث كونية تكون بمثابة علامات وآيات تدل عليه، كتكوّر الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتعطل العشار، وحَشْر الوحوش، وتسجّر البحار، وتزوج النفوس، عندها تسأل الموءودة: لماذا قُتلت؟ وتنشر الصحف، وتكشط السماء، وتسعّر الجحيم، وتقرّب الجنة.. وكل هذه الأجواء الهائلة المرعبة تشكل الممهّدات الكونية، أو الإطار الكوني لحدٍث مصيرٍّي آخر، هو مواجهة الإنسان نفسه لأعماله بخيرها وشرّها معاً.
ثم تتحدث عن القرآن الذي يشكّك فيه هؤلاء، ليؤكد أنه لَقول رسول كريم وليس قول مجنون، كما يحاول البعض أن يثير الضباب من حوله. وتتابع الحديث عن صفة الملك الذي جاء بالوحي، الذي يريد الله من الناس أن يعتبروه ذكراً يدفعهم إلى الاستقامة التي تتحرّك بها مشيئة الإنسان الخاضعة لمشيئة الله. أمّا كلمة «التكوير»، فقد أخذت من قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} في ما تمثله من الحدث العظيم الذي يتضمن برودة الشمس وانطفاء شعلتها، وجمود ألسنة اللهب المتصاعدة منها، ما قد يوحي بالهول الكبير الذي يعطي الصورة الواضحة من طبيعة التغيير، باعتبار أن فقدان الشمس لضوئها يترك تأثيره وإيحاءه على كل الظواهر الكونية الأخرى، ويجعلها شيئاً معقولاً في ميزان التصوّر.
ـــــــــــــــــ
الآيــات
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} (1-14).
* * *
معاني المفردات
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}: التكوير: التلفيف على جهة الاستدارة، ومنه تكوير العمامة، والظاهر أن التعبير وارد على سبيل الكناية، بمعنى: جُمِع ضوؤها ولفّت كما تلفّ العمامة، والمعنى أنّ الشمس تكوّر بأن يجمع نورها حتى تصير كالكرة الملقاة ويذهب ضوؤها.
{النُّجُومُ انكَدَرَتْ}: تساقطت وتناثرت.
{الْعِشَارُ}: النوق الحبالى في شهرها العاشر.
{سُجِّرَتْ}: ملئت.
{الْمَوْءُودَةُ}: المدفونة في التراب وهي حية.
{كُشِطَتْ}: الكشط: القلع عن شدّة التزاق.
{سُعِّرَتْ}: أوقدت وأضرمت.
{أُزْلِفَتْ}: قدِّمت وقرِّبت.
* * *
الإطار الكوني ليوم القيامة
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وهذا هو الحدث الكبير الذي تفقد فيه الشمس وهجها وإشراقها، وحرارتها، وامتداد نورها ولهيبها، فتعود مجرّد شيء مكوّر، كما هي الكرة الملقاة التي لا توحي إلا بالحاجة إلى التدحرج تحت الأقدام.
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} أي ذهب لمعانها، وانطفأ ضوؤها، أو انتثر نظامها الذي يربطها، في ما توحي به كلمة الانكدار في معناها الأصلي، وهو انقلاب الشيء حتى يصير أعلاه أسفله، وهو في حالة الماء يؤدي إلى تكدّره، أو بما قد ينصرف إليه اللفظ من الكدورة في اللون في مقابل الصفاء والإشراق.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} بقدرة الله ليكون ذلك موجباً لتفتت أجزائها، لأن طبيعة الحركة تفرض ذلك، فتكون كنايةً عنه، لتتحوّل بعد ذلك إلى هباء منبثّ تذروه الرياح في الهواء. وربما كان ذلك ـ كما يقول البعض ـ من خلال الزلزال الذي يصيب الأرض في ما تحدث الله عنه بقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1].
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} والعشار النوق الحبالى في شهرها العاشر، وهي من أنفس الأموال لدى العرب ومن أغلاها، لأنها مرجوّة اللبن والولد، بحيث لا يتصور في حق أحدٍ إهمالها وتعطيلها، لأن ذلك يوجب ضياع مالٍ عظيم ومنفعةٍ عظيمة، مما لا يقدم العاقل على ضياعه، ولكن الهول الذي يواجهه الإنسان في ذلك اليوم يجعله منشغلاً عن كل شيءٍ من شؤونه الكبيرة وأمواله النفيسة. وبذلك يكون التعبير وارداً على سبيل الكناية عن شدّة الهول وفظاعة الموقف.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي جمعت وانزوت واقترب بعضها من بعض، فلم يتعطّل لديها إمكان التحرك بحرية ووفق طريقتها الخاصة التي تطلب بها غذاءها عادة، أو لتحمي بها نفسها من بعضها البعض، في ما اعتادته من افتراس بعضها البعض، وإذا الموقف قد أنساها كل شيء، بحيث يمرّ الوحش القوي بالحيوان الضعيف، فينسى غريزة الافتراس في ذاته، ويمرّ الضعيف بالقوي فلا يخاف منه.
ولكن، هل المراد من الحشر هو حشرها في ساحة القيامة؟ وهل للوحوش تكليفٌ في الدنيا حتى تحاسب على الانحراف عنه في الآخرة؟ أم أن للمسألة معنًى آخر؟.
ربما يقال بالمعنى الأول، إن الوحوش محشورة كالإنسان، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
«وأمّا تفصيل حالها بعد الحشر وما يؤول إليه أمرها فلم يرد في كلامه تعالى، ولا في ما يُعتمد عليه من الأخبار ما يكشف عن ذلك»، كما يقول صاحب الميزان[1].
ويقول صاحب مجمع البيان في تفسير الآية: «أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ويحشر الله، سبحانه، الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا، وينتصف لبعضها من بعض، فإذا وصل إليها ما استحقته من الأعواض، فمن قال إن العوض دائم، تبقى منعمةً إلى الأبد، ومن قال تستحق العوض منقطعاً، فقال بعضهم: يديمه الله لها تفضلاً لئلا يدخل على المعوّض غمٌّ بانقطاعه، وقال بعضهم: إذا فعل الله بها ما استحقته من الأعواض جعلها تراباً»[2].
وربما قيل: «إن حشر الوحوش من أشراط الساعة لا مما يقع يوم القيامة، والمراد به خروجها من غاباتها وأكنانها»[3]، وهذا هو المعنى الثاني الذي أثرناه في السؤال، وربما كان هو الأقرب، لأن الآية واردة في أشراط الساعة لا في وقائعها، في ما يوحي للإنسان بالرعب، بحيث تصل المسألة في أهواله، إلى مستوى حشر الوحوش في مكان واحدٍ بالرغم من خروج ذلك عن طبيعتها.. أمّا مسألة الآية في سورة الأنعام، فقد يكون المراد بالحشر إلى الله غير الحشر في ساحة الحرب، لأنه لم يثبت أن هناك تكليفاً للحيوانات، ولا معنى لتعويض الحيوانات عن آلامها، وإلا لكان قتلها أو ذبحها موجباً لذلك. ولم يثبت ذلك من عقل ولا من نقل.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} يحتمل أن يكون المراد ملأها بالمياه، وذلك من خلال وضع معين، أو من خلال فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها، أو من خلال الزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار، فيتدفق بعضها في بعض. ويحتمل أن يكون المراد التهابها وانفجارها ـ كما هو المعنى الآخر للتسجير بإضرام النار ـ وقد أوضح ذلك في كتاب «في ظلال القرآن»، فقال: «فتفجير عناصرها وانفصال الإيدروجين عن الأوكسيجين فيها، أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة، وهو أشد هولاً، أو على أيِّ نحو آخر، وحين يقع هذا، فإن نيراناً هائلة لا يتصوّر مداها تنطلق من البحار. فإن تفجير قدرٍ محدودٍ من الذرات في القنبلة الذّرية أو الإيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا، فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصوّر هذا الهول، وتصوّر جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة»[4].
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي قرن كل واحد منها إلى شكله، وضمَ إليها، والمراد بالنفوس الناس، حيث يعبر بالنفس عن الإنسان، فالمعنى قرن كل إنسان بشكله من أهل النار، أو شكله من أهل الجنة، أو قرن الغاوي بمن أغواه من إنسانٍ أو شيطانٍ، أو زُوِّج الصالحون بالحور العين، وقُرِن الكافرون بالشيطان.
* * *
وإذا الموءودة سُئلت
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}، كان الوأد، وهو دفن البنت وهي حيّة، يمثل أحد الأوضاع الوحشية في ممارسات الجاهليين العرب بحق الأنثى، انطلاقاً من التصوّر المتخلف المنحرف عن المرأة الذي نقله القرآن عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58ـ59]، وكانت لديهم عدة طرق في الوأد، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت، يتركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها انظري فيها، فيدفعها دفعاً، ويهيل التراب عليها، ومنهم من كان إذا جاء المخاض زوجته، جلست فوق حفرة محفورة، فإذا كان الولد بنتاً رمت بها فيها وردمتها، وإن كان ابناً قامت به معها، وغيرها من الأساليب.
وهكذا كان هذا الظلم الوحشي الجاهلي موضع الرفض الشديد من قِبَل الإسلام في ما أنزله الله على رسوله من آيات، وواجهه مواجهةً عنيفةً، حتى قضى عليه، حيث اعتبر الفعل جريمةً وحشيةً ككل الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص، من دون فرقٍ بين أن يكون الفاعل أباً أو غيره، لأن الأبوّة لا تبرّر للأب أن يمارس أيّ عمل تعسفيٍّ مع أولاده. وقد أكد الفكرة من خلال القاعدة التي تساوي بين الرجل والمرأة في المعنى الإنساني، وفي المسؤولية الشرعية، فلا فرق بين انحراف الرجل وانحراف المرأة في عقاب الزاني والزانية، كما أن مسألة الشرف والعار تتصل بكل منهما في نطاقه الشخصي، فلا ينعكس على أيِّ إنسانٍ آخر، فلكل إنسانٍ شرفه وعاره، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15]، وانطلق التشريع ليؤكد ذلك في كل قضايا الحياة المتصلة بالرجل والمرأة، ولم يفرق بينهما في مستوى القيمة، فجعل الكرامة لعنصر التقوى الذي قد يجعل المرأة أفضل من بعض الرجال، أما وجود بعض الفوارق في بعض التشريعات، فإنها متصلة بالهيكل التنظيمي للعلاقات الزوجية، ولبعض الأوضاع العامة في نطاق المسؤولية، من باب توزيع الأدوار من خلال الطبيعة المتنوّعة في تكوين الرجل والمرأة، لا من خلال الانتقاص من طبيعتها، ممّا تحدّثنا عنه كثيراً في هذا التفسير.
وهكذا تقف الموءودة في يوم القيامة مع الذي وأدها في الدنيا، ليُطرح السؤال عليها: هل هناك ذنب جنته لتدفن حيّة، وهي في السّنّ التي لا تحمل فيها أية مسؤوليةٍ؟ وإذا كانت في مثل هذه السّنّ، فإن أنوثتها لا تصلح لأن تكون ذنباً، ولم تفعل أي شيءٍ آخر. ولم يكن هذا السؤال للاستفهام، بل لتسجيل الموقف العادل في المسألة، لأن المسألة لا تملك احتمالاً آخر، فإن العدالة هي التي تقتص من الفاعل انطلاقاً من شعار يوم القيامة {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]، لا سيما إذا كان المظلوم ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً.
* * *
نشر الصحف وكشط السماء
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} وهي صحف الأعمال التي تنشر للحساب، فلا خفاء هناك، ولا غموض، لأن المسألة، في ذلك الموقف، هي مسألة الحقيقة التي يخشع الجميع أمامها بين يدي الله، ليقفوا عراةً أمام كل التاريخ، ليواجهوا عري الواقع الذي كانوا يخفونه خلف الأقنعة المتنوعة التي قد تصوّر الباطل بصورة الحق، فإذا به مكشوفٌ بكل تفاصيله.
{وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ} وربما المراد بالكشط هنا، إزالة هذا الغطاء الذي يخيل للناس، في رؤيتهم الساذجة، أنه يخفي الحقيقة الخفية في السماء، فينكشف كل شيءٍ في داخلها.
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} وتوقّدت والتهبت وازدادت حرارةً ولهيباً لتنتظر الوقود الذي يزيد في اشتعالها من الناس والحجارة.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي قرّبت وأدنيت من القادمين إليها من المؤمنين المتقين الذين جعل الله الجنة جزاء إيمانهم وتقواهم، ليسهّل لهم دخولها، فلا يبذلون أيّ جهدٍ في ذلك.
وهكذا تتمثل صورة التغيير الكوني الهائل الذي تتبدّل فيه الصور والأوضاع والمقاييس، لتدخل عالماً جديداً يختلف عن عالم الدنيا اختلافاً كثيراً. ويقف الإنسان أمام ذلك كله، ليفكر في نفسه، وفي دوره، وفي موقعه من كل هذا الواقع الجديد، فيخرج من واقع الغفلة إلى عالم اليقظة والوعي العميق، ليصل إلى النتيجة الحاسمة، وهي أن قيمة الإنسان في هذا اليوم تساوي عمله، فلا بد من أن يتعرف إلى حجم عمله ليعرف حجم مصيره.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} أي علمت كل نفس، آنذاك، ما لها وما عليها من إيجابيات الماضي العملي وسلبياته، لأنها تواجه النتائج في مستوى الأعمال، وبذلك تقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصارخة التي تحدّد له موقعه في الجنة أو في النار، من خلال موقعه في خط الله أو في خط الشيطان.
ــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:236.
(2) مجمع البيان، ج:10، ص:673ـ674.
(3) تفسير الميزان، ج:20، ص:236.
(4) في ظلال القرآن، م:8، ج:30، ص:478.
تفسير القرآن