من الآية 15 الى الآية 29
الآيــات
{فلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ* وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ* فَأيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ* لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (15ـ29).
* * *
معاني المفردات
{بِالْخُنَّسِ}: الخنّس: الكواكب.
{الْكُنَّسِ}: كنس: استتر وأقام.َ
{عَسْعَسَ}: العسعسة: هي رقّة الظلام.
{تَنَفَّسَ}: هنا بمعنى أضاء.
{مَكِينٍ}: متمكّن.
{بِضَنِينٍ}: ببخيل.
* * *
كتاب الله ذكرٌ للعالمين
وهذا الحديث عن الوحي يتخلّله القسم الذي يطوف بالوعي في مشاهد كونيّة ذات ارتباط بالتجربة الحسية للإنسان، كما يتجه إلى الإشارة إلى الرسول الملائكي الذي يحمل الوحي من الله، وإلى الرسول البشري الذي يتلقّى الوحي منه ليبلغه للناس الذين يفتحون قلوبهم للذكر النازل من عند الله، ليتحركوا في خط الاستقامة في دائرة مشيئة الله.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أي لا أحتاج في إثبات حقيقة الوحي وصدقه إلى القسم بهذه الظواهر الكونية التي يتصل بعضها بالنجوم المعلقة في السماء، وبعضها بحركة الزمن في الحياة، والخنّس والجوار الكنّس هي الكواكب التي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي، فإن لها في حركتها على ما تشاهد استقامةً ورجعةً وإقامة، فهي تسير وتجري في حركةٍ متشابهةٍ زماناً وهي الاستقامة، وتنقبض وتتأخر وتخنس زماناً وهي الرجعة، وتقف عن الحركة استقامةً ورجعةً زماناً، كأنه الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة. وربما كان التعبير بها يطلّ على حياة الظباء وهي تجري وتختبىء في كناسها وترجع من ناحيةٍ أخرى.
{وَاللّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي إذا أقبل وأدبر في مبدأ الليل ومنتهاه، والعسعسة هي رقة الظلام، في ما يثيره في النفس من انسيابٍ رقيقٍ يخدّر المشاعر، ويوحي بالاستغراق في بحر الظلام العميق الممتد في الكون، في إحساس يلتقي فيه الخوف بالأمان.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي إذا أقبل في انفتاحه على الأفق، كما لو كان موجوداً حياً يتنفس، وفي أنفاسه النور والحياة والحركة، فكأنه كان محبوساً في دائرة الظلام، يعاني الاختناق، ثم تنفس، فبدأت أنفاسه تمنح الكون روحاً ونسيماً وحيوية وإشراقاً، تماماً كما هو النفس في تأثيره على الجسد. ويلاحظ أن في اختيار الألفاظ في هذه الفقرات لوناً من الإيحاء التعبيري الذي يوحي ببعض الأجواء والمشاعر والأحاسيس التي تتجاوز المعاني اللغوية للكلمات.
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي أن هذا القرآن لم ينطلق من تجربةٍ فكريةٍ ذاتيةٍ، بل هو قول رسول كريم أرسله الله إلى نبيِّه ليفتح به قلبه، ويعمّق به تجربته ليبلِّغه للناس، وهذا الرسول هو جبريل(ع) الذي حدثنا الله عنه في علاقته بتنزيل القرآن في آية أخرى، وذلك هو قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]. وقد وصفه الله بصفة «كريم» إشارةً إلى كونه ذا كرامةٍ عند ربه في قربه منه.
{ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فقد أعطاه الله القدرة على حمل الرسالة وتبليغها للنبيّ، كما أعطاه المكانة المميزة لديه، ومنحه الطاعة التي أراد للملائكة أن يقدموها إليه في ما يأمره به من المهمات الموكلة إليه، وأكد أمانته في حمل الرسالة وإبلاغها، فلا يزيد فيها حرفاً ولا ينقص منها شيئاً.
* * *
وما صاحبكم بمجنون
{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وهو رسول الله الذي يملك العقل الواعي المنفتح على الله، والمتحرك في إدارة شؤون الرسالة بكل تركيزٍ وبصيرةٍ. وليس الحديث عنه بهذه الصفة التي تسيء إلى شخصيته العقلية إلا نوعاً من الحملة العدوانية الموجّهة ضده من قِبَل المشركين الذين أعيتهم الحِيَل في إبعاد الناس عنه، فعمدوا إلى تشويه صورته واتهامه بالجنون، ما يدلُّ على سذاجتهم في تلفيق التهم، لأنّ النبيّ كان معروفاً لدى الناس الذين عاش معهم، قبل الرسالة وبعدها، برجاحة عقله وصدقه وأمانته واستقامته، بالمستوى الذي يجعل من هذه التهمة دليلاً على جهلهم، وسخافة عقولهم، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين المجنون والعاقل الذي يملك المستوى الكبير في قوّة العقل، وصفاء الإحساس، ووعي الروح، فليس هناك أي أساسٍ لوصفه بالجنون.
وقد لاحظنا أن هذه الكلمة لم تستطع أن تحرّك أي شخص للانفعال به في زمن الدعوة الأول، فقد كان الناس يقبلون عليه ليسمعوا منه، ولينتفعوا بالجلوس إليه.
* * *
ولقد رآه بالأفق المبين
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} أي في الجانب الظاهر منه، والضمير يرجع إلى جبريل، لتأكيد تجربة النبي الحسية في مسألة الوحي، فليس الأمر أمر سماعٍ قد يختلف الناس في تقدير طبيعته، بل هو أمر عيان لا يشكّ الرّائي في حقيقته.. {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي ببخيل، فالنبي لا يبخل بما أوحى به الله إليه، فلا يحتفظ به لنفسه ليكون شأناً ذاتياً، بل هو أمانة الله عنده، التي يشعر بها في موقع المسؤولية ليبلّغها للناس كاملةً غير منقوصة، فلا تغيير ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان.
* * *
وما هو بقول شيطان رجيم
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} فقد كانوا يقولون: إنه ممّن يأتيه شيطان في ما يلقى إليه، تماماً كما هو حال الكهان، الذين تأتيهم الشياطين من الجن بالغيب الذي يلقونه في وعيهم، أو على ألسنتهم، ولكنهم لا يملكون أيّ دليلٍ على ذلك، بل إن النبي يملك الحجّة الواضحة على أن القرآن حديث منزّل من الله، في ما تحدّى به الإنس والجنّ أن يأتوا بسورةٍ من مثله، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} في مذاهبكم التي تتخبّطون فيها من دون أساسٍ للهدى وللحق، فلا تركنون في حديثكم إلى فكر، ولا تنطلقون من قاعدةٍ وعي، بل تقفون موقف الذي يعيش داخل المأزق الذي وضعتكم فيه الرسالة، التي أحاطت بكم من بين أيديكم ومن خلفكم، وعن أيمانكم وشمائلكم، من خلال وضوح الحق الذي أطلقته في حياتكم، قاعدةً للعقيدة، وخطاً للشريعة، ومنهجاً للحياة. فهل تعرفون نهاية الطريق الذي تسيرون فيه؟ إنه الطريق الذي لن يفضي بكم إلاّ إلى الضياع.
* * *
إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} فلا تختصّ به جماعةٌ دون جماعةٍ، بل هو للعالمين كافة، ليكون ذكراً لهم، ينفذ إلى عقولهم، فيزيل عنها حجاب الغفلة، وإلى مشاعرهم، فيزيح عنها ظلمة الإحساس، وإلى حياتهم، فيحطم فيها الحواجز التي تحجزها عن رؤية الحق.
{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} على هدى الله، لأن مسألة الذكر لا تقوم بالكلمات، بل لا بد فيها من الإرادة الإنسانية في الاستقامة على خط الهدى، التي تدفعه إلى البحث والرغبة في الاستماع إلى كل الكلمات التي تعالج الحق وتدعو إليه، مما يثير فيه قلق المعرفة المتطلعة إلى كل جديد في هذا المجال، فمن لم يرد الاستقامة فكيف يمكن أن يكون القرآن ذكراً له؟
* * *
للَّه المشيئة كلها
{وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فقد تملكون ـ في كيانكم ـ حركة المشيئة الذاتية، في ما تملكون من عناصر الاختيار، ولكن مشيئتكم لا بد من أن تخضع للمشيئة الإلهية في تقدير النظام الكوني الذي تتحرك الأشياء في دائرته، فلا يملك العبد استقلالاً مطلقاً عن الله تعالى حتى في نطاق حريته المرتبطة بالمشيئة الإلهية بطريقةٍ أو بأخرى.
تفسير القرآن