تفسير القرآن
الانفطار / من الآية 6 إلى الآية 19

 من الآية 6 الى الآية 19
 

الآيــات

{يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ* كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ* وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (6ـ19).

* * *

معاني المفردات

{غَرَّكَ}: الغرور: ظهور أمر يتوهّم به جهلاً الأمان من المحذور.

{فَعَدَلَكَ}: فجعلك معتدلاً.

* * *

يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم

{يا أَيُّهَا الإِنسَانُ} الذي عاش في عمق الشعور بإنسانيته، في ما توحي به من معنى التكريم في الدور الوجودي في واقع الحياة، وفي ما أنعم الله عليه من لطفه وكرمه في تفاصيل حياته، {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} حتى اندفعت في التمرد عليه، وإنكار توحيده، وعصيان أوامره ونواهيه، وكفران نعمه، واستغرقت في ذلك غير عابىء بإنذاراته الكثيرة، فما الذي {غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الذي حرّك كل طاقاتك ومنحها الحيويّة والنموّ بكرمه، حتى قصّرت هذا التقصير، وابتعدت هذا البعد عنه؟! وكيف توهّمت أن الله لا يؤاخذك على ذلك كله فأَمِنْت عقابه، ولم تراع احتمال القدوم عليه والوقوف بين يديه؟ وكيف استهنت بوعيده وتهديده؟ وربما كان الاستفهام هنا توبيخيّاً ـ كما عن البعض ـ لا حقيقياً، كما لو كان المعنى هو توبيخ الإنسان على كفران نعمة الرب الكريم في ما لا يجوز فيه الكفران لموقع كرمه الواسع.

وروي أن النبي(ص) لما تلا هذه الآية قال: غرّه جهله[1]. وجاء في مجمع البيان أنه قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه، فقال: ما غرّك بربك الكريم، ماذا كنت تقول له؟ قال: أقول: غرّني ستورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني الله بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت: غرني بك برّك بي سالفاً وآنفاً، وعن بعضهم قال: غرّني حلمك، وعن أبي بكر الورّاق: غرّني كرم الكريم، وإنما قال سبحانه الكريم دون سائر أسمائه وصفاته، لأنه كأنه لقّنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم»[2].

والظاهر أنّ مثل هذه الأجوبة لا تتناسب مع مقابلتها بالكفران الذي ينطلق من حالة الغرور المبنية على الاستهانة والإهمال واللامبالاة، والجهل بمواقع وعيده وتهديده، ولكن لا مانع من أن تكون مثل هذه الكلمات لوناً من ألوان التحبب لله والاعتذار إليه، في ما يمكن فيه قبول العذر، كما في المعاصي العملية التي لا تقترب من الكفر، كما ورد في قول علي أمير المؤمنين(ع): «كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه»[3].

وكما جاء في دعاء علي بن الحسين زين العابدين(ع) الذي رواه أبو حمزة الثمالي: «إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحدٌ، ولا بأمرك مستخفٌ، ولا لعقوبتك متعرضٌ، ولا لوعيدك متهاونٌ، لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي، وأعانتني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليَّ»[4]، والله العالم.

* * *

الذي خلقك فسوّاك فعدلك

{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} فجعلك خلقاً سوّياً في تناسب أعضائك وتكامل أجهزتك، {فَعَدَلَكَ} في ما يمثله خلقك من توازن وظائف جسدك واعتدال قامتك، مما يمنحه جمال الشكل وروعة الصورة، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} فهو القادر على صوغك في أيّة صورةٍ مما يتنوع به الخلق، فاختار لك هذه الصورة الجميلة المستقيمة المعتدلة التي تجمع الإبداع كله في التكوين الجسديّ والعقليّ والروحيّ. وربما فُسّر ذلك ـ بما ذكره في الميزان ـ أي «في أيّ صورةٍ شاء أن يركّبك ـ ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ـ ركّبك من ذكرٍ وأنثى، وأبيض وأسود، وطويل وقصير، ووسيم ودميمٍ، وقويٍّ وضعيفٍ، إلى غير ذلك... وكذا الأعضاء المشتركة بين أفراد الإنسان المميزة لها من غيرها كاليدين والرجلين والعينين والرأس والبدن واستواء القامة ونحوها، فكل ذلك من عدل بعض الأجزاء ببعض في التركيب»[5].

* * *

عظمة الإبداع في الخلق

وقد لا يكفي في تفسير هذه الآيات هذه الكلمات التي تتحدث عن الموضوع بصورةٍ عامة، فقد نحتاج إلى الإطلالة على بعض التفاصيل عن بعض الأسرار التي أودعها الله في الأجهزة التي ركّبها في الإنسان مما يوحي بعظمة الإبداع في الخلق.

فقد جاء في مجلة العلوم الإنجليزية، في ما نقله عبد الرزّاق نوفل، في كتابه «الله والعلم الحديث»: «إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة، وإنه من الصعب جداً ـ بل من المستحيل ـ أن تُبتكَر آلةٌ تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف. فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الموضع الملائم للقراءة. وهذه اليد هي التي تصحِّح وضعه تلقائياً، وحينما تقلِّب إحدى صفحاته تطبع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة. واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان، من ملعقة، إلى سكين، إلى آلة الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كل ما يريده الإنسان.. واليدان تشتملان على 27 عظمة و19 مجموعة من العضلات لكل منها»[6].

* * *

إبداع خلق الأذن

وجاء في كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان»:

«إن جزءاً من أذن الإنسان «الأذن الوسطى» هو سلسلةٌ من أربعة آلاف جنيّةٍ «قوس» دقيقة معقّدةٍ متدرّجةٍ بنظام بالغ، في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الجنيّات تشبه آلة موسيقيّةً، ويبدو أنها معدّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ ـ بشكل ماـ كل وقعٍ أو صوتٍ أو ضجّةٍ، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر، فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداةٍ موسيقيةٍ في الأركسترا ووحدتها المنسجمة»[7].

* * *

إبداع خلق البصر والذوق والجهاز العصبي

وجاء في كتاب «الله والعلم الحديث»: «مركز حاسّة الإبصار العين التي تحتوي على 130 مليوناً من مستقبلات الضوء وهي أطراف أعصاب الإبصار، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهاراً، والذي تعتبر حركته لا إرادية، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال. وحركة الجفن، علاوةً على هذه الوقاية، تمنع جفاف العين، أمّا السائل المحيط بالعين، والذي يعرف باسم الدموع فهو أقوى مطهّر»[8].

«وجهاز الذوق في الإنسان، ويرجع عمله إلى مجموعاتٍ من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي. ولتلك الحلمات أشكالٌ مختلفة، فمنها: الخيطيّة، والفطرية، والعدسية، ويغذي الحلمات فروعٌ من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي، وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية، فينتقل الأثر إلى المخ. وهذا الجهاز موجودٌ في أوّل الفم، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحسّ أنه ضارٌّ به، وبه يحسّ المرء المرارة والحلاوة، والبرودة والسخونة، والحامض والملح، واللاذع ونحوه. ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة، يتصل كل نتوءٍ بالمخ بأكثر من عصبٍ، فكم عدد الأعصاب؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردةً، وتتجمع بالإحساس عند المخ»[9].

و«يتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرةً تامّةً من شعيراتٍ دقيقةٍ تمر في كافة أنحاء الجسم، وتتصل بغيرها أكبر منها. وهذه تسمّى بالجهاز المركزي العصبي، فإذا ما تأثر جزءٌ من أجزاء الجسم، ولو كان ذلك لتغيّر بسيطٍ في درجة الحرارة بالجو المحيط، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم، وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف، وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب 100 متر في الثانية»[10].

* * *

إبداع عمليّة الهضم

«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معملٍ كيمياوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادٌ غفلٌ، فإننا ندرك توّاً أنه عمليّةٌ عجيبةٌ، إذ تهضم تقريباً كل شيء ما عدا المعدة نفسها! فأوّلاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمادّةٍ غفلٍ دون أيّ مراعاةٍ للمعمل نفسه، أو تفكيرٍ في كيفية معالجة كيمياء الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقليّ، وندفعها بأيّ قدرٍ من الماء. ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدةٍ، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيمياوية دون مراعاةٍ للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتيناتٍ جديدةٍ تصبح غذاءً لمختلف الخلايا. وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية، وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرةً في مقادير منتظمةٍ ومستعدةً لمواجهة كل ضرورةٍ. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى للقاء كل حالةٍ طارئةٍ، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله، بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله.

«إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في المعمل الكيماوي، بصرف النظر كليّةً تقريباً عما نتناوله، معتمدين على ما نحسبه عمليّةً ذاتيةً «أوتوماتيكيةً» لإبقائنا على الحياة. وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديدٍ، تقدَّم باستمرارٍ إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض، ويجب أن يكون التوريد إلى كل خليّةٍ فرديةٍ مستمراً، وألاّ يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظامٍ وأظافر ولحم وشعرٍ وعينين وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة.

فها هنا ـ إذاً ـ معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان! وها هنا َنظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم! ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام»[11].

* * *

معجزة خلق الذاكرة والإدراك العقلي

وتبقى للإنسان بعد ذلك قيمة حركة الإدراك العقلي الذي يجمع كل هذه الصور والإيحاءات والمقروءات ويؤلف بينها، ويختزنها في أجهزته الصغيرةK ويستنتج منها أفكاراً جديدة، ومعلوماتٍ جديدةً. ويبقى للذاكرة دورها الكبير في إبقاء كل هذه المفردات لتكون الخزان الذي يمد الإنسان بما يريد في حركة العلم في خط الحياة الخاصة والعامة، الأمر الذي يبعث على الدهشة لو لم يكن شيئاً مألوفاً. إذ كيف يمكن لهذه المنطقة الصغيرة التي لا تمثل شيئاً في الحجم، أن تختزن مثل هذه المعلومات التي تنطلق من عمر الإنسان كله وتحتاج إلى ملايين الأمتار من الأشرطة لتسجّل عليها، وكيف تكون عملية الإثارة التي تفتح النافذة على ذلك كله عند الحاجة إليها، ولقد صدق القائل وهو يخاطب الإنسان ويوحي بعظمة خلقه:

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وهكذا يريد الله من الإنسان أن يكتشف ذلك كله، ويتذكره ويعيشه، فيتحسسّ وجوده المادي الممتزج بالروح، هذا الشيء الغامض الخفيّ الذي يتمثل في الآفاق الرائعة التي تنفتح على كل المعاني الروحية التي ترفع الإنسان إلى آفاق الله، فيؤدي ذلك إلى طاعة الله والاستمرار في السير في خط منهجه الذي أراد للناس أن يتخذوه منهجاً لكل أوضاعهم العامة والخاصة في الحياة، فلا ينحرفون عنه اغتراراً بما يفيض عليهم من نعمه ليتصوّروا أنهم بمنجاةٍ من عقابه، ليتجرأوا عليه في تكذيب رسله.

* * *

التكذيب بالدّين لا يلغي حقيقة الوحي

{كَلاَّ} إن الله يرفض هذا الاغترار بالله الذي يدفع الإنسان إلى الجرأة عليه {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} فتلك هي مشكلتكم التي تدفعكم إلى هذا الجوّ من اللامبالاة، بما يُلقى عليكم من وحي الله، وبما يبلغكم به رسول الله، وبما يقودكم إليه منطق العقل السليم. إنها مسألة الاستغراق في جزئيات الحياة الدنيا، والإخلاد إلى الأرض بكلِّ ما يعنيه ذلك من الالتزام بقيم المادة والابتعاد عن قيم الروح، واعتبار الدنيا نهاية المطاف، ما يبعث على إنكار الحساب والعقاب، فيكون ذلك أساساً لانفتاح القلب على أحلام اللذات والشهوات، ومواقع الاستكبار الذاتي الذي يبعد الإنسان عن وعي الحق، ويمنعه من دراسة النظام الذي تتحرك حياته في خطه، في ما يقتضيه ذلك من أدب المسؤولية، وروحيّة الموقف المتوازن.

إن مسألة التكذيب بالدين والتصديق به، تمثل الحدّ الفاصل بين الحياة التي تنفتح على الله في كل معاني الخير والطهر والسلام، وبين الحياة التي تستغرق في الذات، وتلتقي بالخط المهتز الذي لا يملك أيّة ضوابط للثبات، ما يجعل من قيم الحياة شيئاً خاضعاً لنزوات النفس ونداءات الغريزة، بحيث يكون الخير والشرّ خاضعين للمقياس الذاتي، لا للمقياس الموضوعي الذي يتمثل في رضوان الله وغضبه. ولكن هل يجعل ذلك لكم أساساً من الأمن؟ وهل يكون إنكاركم ليوم الدين موجباً لإلغاء المسألة من الأساس؟ إن ذلك لا ينطلق من قاعدة، لأن التكذيب بالحقيقة لا يلغي الحقيقة، فلا بد لكم من أن تخرجوا من هذا الجوّ المظلم الذي وضعتكم فيه شهواتكم الذاتية، لتعرفوا أن هناك يوماً للجزاء، وأن الدنيا هي الساحة التي تتحدد فيها مواقعكم هناك، وأنكم محاسبون على كل شيء تعملونه فيها، وأن الله يحفظ عليكم كل دقائق القول والعمل.

* * *

إنّ عليكم لحافظين

وهذا ما أراد الله تأكيده {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} يحفظون عليكم أعمالكم بكل دقةٍ، {كِرَاماً كَاتِبِينَ} من الملائكة الذين أكرمهم الله بكرامته فقرّبهم إليه، وأوكل إليهم كثيراً من المهمات المتعلقة بالكون والحياة والإنسان، وأبقاهم في دائرة غيبه ومواقع سرّه، وكان مما أوكله إليهم من ذلك كتابة أعمال الإنسان في كل حركة حياته، في سرّه وعلانيته، فلا يغيب عنهم شيءٌ من ذلك. وهذا ما ينبغي لكم أن تعيشوا وعيه، فهم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من خيرٍ أو شرٍ، أو طاعةٍ أو معصية. فعليكم أن تضعوا ذلك في حسابكم أثناء العمل، لتتحركوا فيه في أجواء الشعور بالمسؤولية، والانفتاح على اليوم الذي تبعثون فيه لتواجهوا نتائج المسؤولية التي يحددها الله بشكل حاسم.

* * *

الأبرار في رحاب جنة الله

{إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} لأنهم عاشوا البر في الحياة، التزاماً بالمنهج الإيماني الذي يدفع الإنسان إلى عمل الخير كله ورفض الشر كله، حتى يتحول ذلك بوعي الإيمان وممارسته إلى ما يشبه العادة اللازمة التي قد تكون صفةً من صفات الذات. فالبر العملي في حياة الناس يتحول إلى عنوانٍ من عناوين شخصياتهم، فهم الأبرار الذين إذا رأيتهم رأيت البرّ ماثلاً في وجوههم وكلماتهم وخطواتهم العملية في الحياة، ومواقفهم في مواقعهم الخيّرة. وهؤلاء هم الذين يظلّهم الله بظل رحمته يوم لا ظل إلا ظله، وهم الذين يجعلهم في مواقع نعمته في رحاب جنته التي وعد الله بها عباده الأبرار المتقين.

* * *

الفجّار المستكبرون جزاؤهم الجحيم

{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} لأنهم التزموا خط الفجور الذي يبغضه الله، سواء في ذلك الفجور في العقيدة المتمثل في الإنكار من غير فكرٍ ولا حجة، القائم على الاستكبار الذاتي الذي يمنع الإنسان من مواجهة القضايا المطروحة لديه بمسؤوليةٍ، أو الفجور في العمل، المتمثل في التمرد على أوامر الله ونواهيه. وهذا هو الجزاء الذي يتناسب مع هذا العمل الذي يلتقي مع سخط الله على أصحابه، ما يجعلهم بعيدين عن مواقع رحمته، وقريبين إلى مواقع غضبه في ساحة الجحيم، {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} فيحترقون بنارها، ويتقلّبون في عذابها {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} فهم حاضرون لديها دائماً، فلا يخرجون منها في أيّ حال.

* * *

لا تغفلوا عن يوم الدين

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في طبيعته وهوله وشدّته ودقة الموقف ووضوح الأمور فيه، وانكشاف السرائر في ساحته، وتناثر المقامات فيه، وتصاغر كل عظمة لأيّ عظيم في الدنيا لديه، إلا الذي كانت عظمته مستمدةً من الله.

{ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} فهل تتصور النتائج الكبيرة الحاسمة المتصلة بمصيرك؟ وهل تعرف كيف يضغط عليك تاريخك ليحدّد لك مواقعك هناك؟ ربما كنت في غفلةٍ مطبقةٍ على عقلك، في ما تعيشه من جوّ الاستهانة به، فقد تفكر أن وضعك في الآخرة هو وضعك في الدنيا، وأن مراكز القوة في يوم الدين هي مراكز القوّة في الحياة الدنيا، ولكنك تعيش في وهم كبيرٍ وغفلةٍ عظيمة، فإن هذا اليوم هو يوم الله، بكل ما لهذه الكلمة من معنىً عميق وواقعي، في سيطرته على الأمر كله.

{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} فليس هناك قوّةٌ لأيّ شخصٍ، وليست هناك رابطةٌ ذاتيةٌ تربط بين الأشياء في مسائل النفع الذي ينتظره الناس من بعضهم البعض، في ما يملكونه من أسبابٍ وأوضاعٍ يستطيعون تقديمها إليهم، فالأمر كله لله، فمن كان يريد الحصول على أيّ شيء هناك، فليوثّق علاقته بالله، فإنه المهيمن على كل شيء هنا وهناك، فلا شيء لغيره، أيّاً كانت قيمته أو درجته أو مقامه.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:10، ص:682.

(2) (م.ن)، ج:10، ص:682.

(3) ابن أبي طالب، الإمام علي(ع)، نهج البلاغة، ضبط نصه الدكتور صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان، ط:2، 1982م، قصار الحكم:116، ص:489.

(4) القمي، عباس، مفاتيح الجنان، دار المجتبى، بيروت ـ لبنان، 1995م ـ 1415هـ، دعاء أبي حمزة الثمالي، ص:227.

(5) تفسير الميزان، ج:20، ص:249.

(6) نوفل، عبد الرزّاق، الله والعلم الحديث، مؤسسة دار الشعب ـ القاهرة، ص:52.

(7) نقلاً عن: في ظلال القرآن، م:8، د:30، ص:491.

(8) الله والعلم الحديث، ص:44.

(9) (م.س)، ص:52.

(10) (م.س)، ص:47.

(11) العلم يدعو إلى الإيمان، نقلاً عن: في ظلال القرآن، م:8، ج:30، ص:492 ـ 493.