تفسير القرآن
المطفّفين / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 22

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 22
 

سورة المطفّفين
مكية، وهي ست وثلاثون آية

في أجواء السورة

وهذه السورة، التي يمكن أن تكون مكية من خلال الطبيعة العامة للسياق الذي يتحدث عن الضوضاء التي كان يثيرها المشركون حول اليوم الآخر وحول المؤمنين، مما ينسجم مع الأجواء المكية، ولكن هناك رواية رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) قال: نزلت، يعني سورة المطفّفين، على نبي الله(ص) حين قدم المدينة، وهم يومئذٍ أسوأ الناس كيلاً، فأحسنوا الكيل..»[1].

لا نجد مانعاً من أن تعالج السور المدنية مثل هذه المواضيع، لا سيّما إذا كان الحديث عنها متصلاً بالحديث عن أمرٍ يتعلق بالحياة الاقتصادية للناس، كالتطفيف الذي توعّد الله العاملين به أن يدخلهم في جهنم. ثم يدور الحديث التفصيليّ بالمناسبة عن تفاصيل النتائج السلبية أو الإيجابية في اليوم الآخر، كما نلاحظه في هذه السورة التي أثارت الموضوع من الناحية العامة، ثم تعرضت في نهايتها للنتائج العكسية لسلوك المجرمين في الدنيا في سخريتهم بالمؤمنين، فإذا بالمؤمنين في الآخرة يسخرون من الكفار على ما أوقعوا به أنفسهم في الآخرة.

ـــــــــــــــ

الآيــات

{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ* كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ* كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفي عِلِّيِّينَ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (1ـ21).

* * *

معاني المفردات

{لِّلْمُطَفِّفِينَ}: التطفيف: نقص المكيال، والمطفّفون: الذين ينقصون المكيال والميزان.

{اكْتَالُوا}: الاكتيال: الأخذ بالكيل.

{يُخْسِرُونَ}: ينقصون.

{سِجِّينٍ}: شديد. وهو هنا اسم كتابهم.

{مَّرْقُومٌ}: مسطور بيِّن الكتابة.

{رَانَ}: غلب.

{عِلِّيِّينَ}: علوّ على علوٍّ مضاعف، أي مراتب عالية.

* * *

الوعيد لأهل التطفيف

{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} هذه هي صورة هؤلاء الذين يُخِلُّون بالخط المتوازن للتعامل الاقتصادي بين الناس، القائم على أساس العدل في المعاملة، الذي يؤكد للإنسان أن لك حقاً وللناس حقوقاً، فعليك أن تأخذ حقك منهم دون زيادة، وأن تعطيهم حقهم دون نقصان، ليتوازن الواقع في ذلك، فلا يطغى جانبٌ على جانبٍ، لئلا يؤدّي الانحراف عن هذا الخط إلى إثارة البغضاء بين الناس من خلال شعور المظلومين منهم بالحرمان من حقوقهم المشروعة، لا سيّما إذا كانوا لا يملكون القوّة الاقتصادية المسيطرة على الواقع، ما يجعل من معارضتهم مشكلةً كبيرةً قد توقع المستضعِفين في الخسارة الكبيرة من جانب آخر.

وهذا الخط الرافض للتطفيف هو جزءٌ من الخط الإسلامي العام، الذي يؤكد على المبدأ القائل: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، و«أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها»[2]، ليكون الإنسان المسلم في خَلُقه الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، إنسان العدالة الذي يفكر في الواقع من خلال المبدأ لا من خلال الذات، فيربّي ذاته على أساس التوازن في العلاقات والمعاملات بينه وبين الناس.

* * *

التطفيف في خطّ المسألة الاقتصادية

وإذا كانت هذه السورة مكية، فإنها تمثِّل الانفتاح الإسلامي على المسألة الاقتصادية في بعض مفرداتها، بشكل مبكِّر، كما تمثل التحدّي للواقع الاستكباري الذي كان يتمثّل في سلوك الطبقة المترفة من قريش، المسيطرة على التجارة العامة للمنطقة، حيث كانت تستغل هذه القوّة الاحتكارية في سبيل ظلم الناس حقوقهم بهذه الطريقة.

وربما كان هذا الاتجاه في المواجهة الحادّة للواقع الاقتصادي المنحرف، هو الذي زاد في الهجمة القرشية على النبي في أواخر إقامته بمكة في تفكيرهم بقتله أو حبسه أو إخراجه من مكة، لأنهم قد يصبرون على هجومه على الأصنام التي يعبدونها من خلال خطّه التوحيديّ، على أساس أنّ عقليتهم الدينية في إشراكهم بالله في العبادة قد تمثل حالةً تقليديةً يمكن أن يتساهلوا فيها في ما يواجهها من تحدّيات، ولكنم لا يصبرون على هجومه على أوضاعهم الاقتصادية في معاملاتهم التجارية، لأنّ ذلك ـ في تطلعاته الإصلاحيّة المستقبليّة المتطوّرة ـ قد ينسف الأساس العملي لمصالحهم المادية، وهذا ما لا يمكن لهم أن يقرّوه، لأن قوّتهم في المنطقة قائمةٌ على الاقتصاد الاحتكاريّ.

والتطفيف ـ من الوجهة الإسلامية القرآنية ـ ليس مجرّد عمل محرّمٍ يستوجب لفاعله العقاب، بل هو عملٌ إجراميٌّ يمثل نوعاً من السرقة وأكل المال بالباطل، مما يجعل نتائجه الوضعية تفرض رفض ملكيّة المطفِّف للزيادة التي أخذها لحسابه، لأن الإسلام لا يمنح أيّة شرعيةٍ لهذا السبب التعاملي للملكية، لأن ذلك منحصرٌ بالتجارة عن تراض. ولهذا لا تكون التوبة عن هذا الذّنب موجبةً لزوال المسؤولية، بل لا بد من إرجاع الزيادة إلى أصحابها بطريقةٍ أو بأخرى.

وقد أثار بعض المفسّرين الحديث حول عدم ذكر الاتزان ـ من الوزن ـ مع الاكتيال في الآية الثانية، مع أنه ذكر الوزن في الآية الثالثة، وتساءل عن سرّ ذلك، لأنه لو كانت القضية مجرد مثالٍ يطرح المسألة من خلال النموذج الذي يدل على الآخر، لكان ذلك مقتضياً لعدم ذكر الوزن في الآية الثالثة.

تحدث صاحب الميزان عن ذلك، في ما نقله عن البعض ـ قال: «قيل: لأنّ المطفّفين كانوا باعةً، وهم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب والبقول ونحوهما من الأمتعة ثم يكسبون بها، فيبيعونها يسيراً يسيراً تدريجاً، وكان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ ويُعطى بالكيل لا بالوزن، فذكر الاكتيال وحده في الآية مبنيّ على الغالب»[3].

وهكذا أكّدت السورة على الدعاء عليهم بالويل الذي يوحي بالهول الذي ينتظر هؤلاء مما لا يدركون كنهه، لأنهم يعيثون في الأرض فساداً ويبخسون الناس أشياءهم، في ما ألمحنا إليه من النتائج السيئة المنطلقة من العقلية الأنانية التي تدفع الإنسان إلى أن يفكر بنفسه، ولو على حساب غيره، فيراعي حقه ولا يراعي حق غيره، فيظلم الناس في الموقع الذي يرفض فيه أن يظلموه.

* * *

يوم القيامة لله تعالى

{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ألا يطوف في أذهانهم أن هناك يوماً يحاسبون فيه على هذه الجريمة الاقتصادية، لينالوا جزاءها بشكلٍ حاسم، لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم؟! فإذا كانوا غير متيقنين من ذلك، فإنهم يرجحونه على الأقل، الأمر الذي يوجب عليهم الاحتياط والحذر عقلاً، لأن من شأن العقل في هذه الحالة أن يدفع الإنسان إلى الاحتراس من الضرر المحتمل.

{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي يملك السيطرة المطلقة على القيامة كلها، كما يملكها على الدنيا كلها، فلا سيطرة لغيره ليخلّصهم من عذاب الله. وهو الحكم العدل الذي يعطي المظلوم حقه، مهما كان ضعيفاً، ومهما كان الظالم قوياً.

{كَلاَّ} إنه الرفض للتّطفيف، ولهذه الغفلة المطبقة على عقولهم، ولهذه الاستهانة بالموقف العظيم بين يدي الله، فهناك الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها عليهم.

* * *

لكل أمر تقواه وفجوره

{إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} إنهم يمارسون الفجور، ولكنه ليس فجور الجنس، إنما فجور المعاملة، فلكل عملٍ في الحياة تقواه وفجوره، لأن التقوى تمثل الالتزام بحدود الله، كما أن الفجور يمثل تجاوز هذه الحدود، الأمر الذي يؤدي إلى الوقوع في الإثم أو المعصية. وهناك كتابهم الذي يحصي أعمالهم بكل دقة، ويقول القرآن عنه إنه سجِّين، ثم يطرح السؤال بالطريقة القرآنية المعهودة التي توحي بالتهويل، إمعاناً في الإثارة:

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} هذه الكلمة التي توحي بالسجن في الأسلوب الذي يوحي بالتهويل، {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} يجمع أعمال الفجّار كلها ويثبتها بحيث لا يفوته شيء منها.

وربما استوحى بعض المفسرّين من المقابلة بين علّيّين التي تمثّل الدرجة الرفيعة وبين سجين، أن هذه الكلمة تمثّل الدرجة السفلى، فيكون التعبير بهذه الكلمة عن الكتاب باعتبار مضمونه الذي يؤدي بالإنسان إلى أقصى درجةٍ من الانحطاط في ما هي قضية المصير في الآخرة، وهو أمر معقول، والله العالم.

وقد نحتاج إلى التأكيد على ملاحظةٍ تعبيريةٍ، وهي أن الآيات اعتبرت أنّ كِتَابَ الْفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ، ثم ذكرت أن سجِّين كتابٌ مَّرْقُومٌ، فكيف يكون الكتاب ظرفاً للكتاب؟ وأجاب صاحب الميزان بأنه «لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفاً للكتاب على هذا المعنى، لأن ذلك من ظرفية الكل للجزء، وهي مما لا ضير فيه، فيكون سجّين كتاباً جامعاً فيه ما قضي على الفجار وغيرهم من مستحقيّ العذاب»[4].

وإذا كنا قد احتملنا أن تكون كلمة سجّين تعبيراً عن الدرجة السفلى، فلا إشكال إلاّ من جهة اللفظ.

* * *

ويل يومئذ للمكذّبين

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الذين يستحقون هذا الدعاء الموحي بالكارثة المصيرية المعبرة عن هلاك {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} في ما يثيرونه في أقوالهم، وفي ما يجسّدونه في أفعالهم، فيشمل التكذيب القولي والتكذيب العملي المتمثل بالعمل، من دونٍ اعتبارٍ لليوم الآخر.

{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} من الذين يحملون في نفسهم نزعة العدوان، ويعيشون في حياتهم حركة الإثم والمعصية، ويعتبرون ذلك خطاً للحياة، على مستوى الفكر والسلوك، فيمنعهم ذلك من التركيز على مواجهة العقيدة بمنطق المسؤولية، في ما هو الفكر والحوار، فيدفعهم ذلك إلى التكذيب من دون حجّةٍ. وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوأى أَن كَذَّبُواْ بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم:10].

وهذا ما نستوحي منه قاعدةً جديدةً في مسألة الاستقامة والانحراف، وهي أنّ الانحراف العمليّ قد يؤدّي إلى الانحراف العقيدي، كما يقود الانحراف العقيديّ إلى الانحراف في العمل.

* * *

إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} في ما توحي به كلمة الأساطير من معنى الأباطيل، لأن الأسطورة تمثل القصة الخرافية التي لا تلتقي بالحقيقة الموضوعية في الواقع. ولكن كيف يمكن أن يثبتوا ذلك؟ فما هي ملامح الأسطورة، وما هي طبيعتها؟ وما هي ملامح الحقيقة، وما هي طبيعتها؟ هل تكفي الكلمة الطائرة الطائشة لتنفي فكرةً أو تثبت أخرى، أم لا بد من الحوار القائم على دراسة المضمون الفكري للكلمات المطروحة ومدى خضوعه للأدلة العلمية والعقلية التي يمكن أن تكون الميزان في التقييم بين ما هي الحقيقة وما هي الأسطورة؟ ولكن مشكلة هؤلاء، كما هي مشكلة أمثالهم، أنّهم يخطّطون لمحاربة الإسلام بالكلمات اللاذعة المثيرة التي تشوِّه الصورة، من دون أن يفسحوا المجال للردّ، أو للحوار، فيعقِّدون الموقف أمام الدعوة للفكر وللحوار، لأن المسألة تكمن في كونهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل على العكس من ذلك، يضعون الحواجز أمامها بوسائلهم الخاصة عن سابق عمدٍ وتصميم.

* * *

إثارة الكلمات الحاقدة لإخضاع المسلمين العاملين

وهذا ما ابتلي به الأنبياء في كل تاريخهم، وهذا ما يعيشه المسلمون في مواجهتهم للتحديات الكبيرة من خلال الحرب الإعلامية التي تشنها عليهم أجهزة الكفر والاستكبار في نطاق الحرب النفسية التي تعمل على إسقاط معنوياتهم وهزيمة مواقفهم، في ما تطلقه عليهم من الكلمات القاسية التي تعمل على الإيحاء للناس بانطباعات سيئة حولهم، كما في كلمات: «الرجعية، والخرافة، والتطرّف، والقوى الظلامية»، وما إلى ذلك من الكلمات الحاقدة، التي لا تستهدف إلاَّ الإثارة بعيداً عما هو الحقّ والباطل في ذلك. وقد يكون من الضروري أن لا يخضع العاملون في سبيل الله والمؤمنون بالإسلام على خط الالتزام، للانفعالات السلبية الحاصلة من ذلك، بل عليهم أن يعملوا على درس عمق الحقّ في خطهم، ليصدّقوا به من موقع القناعة، وليثقوا بأنفسهم من خلال القوّة الداخلية بعيداً عن كل ضعف مما يثيره أمثال هذا المكذب بيوم الدين الذي يقول عن الآيات إنها أساطير الأولين.

* * *

الصدأ يطفو على قلب العاصي المسيء

{كَلاَّ} فليست القضية هي ما يثيرونه من كلمات في ما توحيه هذه اللفظة من المعاني الرافضة للإيمان، باعتبار أنها تمثل خط الصواب {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} فإن العمل السيىء الذي يكسبه الإنسان بسوء اختياره، قد يترك تأثيراً سلبياً على قلبه وعقله، فيمنعه من وضوح الرؤية، كما هو الغشاء الذي يحدث للعين فيمنعها من الإبصار. وهذا ما توحيه كلمة الرَّينْ، وهو عبارة عن الصدأ الذي يعلو الشيء، فكأن المعصية تتحول إلى صدأ يطفو على القلب، فلا يستطيع معرفة الخير والشر، في ما تثيره من مفاهيم ضبابية تمنع العقل من الانفتاح على حقيقة الأمور، وقد ورد في أصول الكافي، قال: «قال رسول الله(ص) تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا، فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث»[5].

وقد جاء في الحديث المعروف عنه، «أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت»[6].

وقد جاء في أصول الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر 5 قال: «ما من عبدٍ إلاَّ وفي قلبه نكتةٌ بيضاء، فإذا أذنب ذنباً، خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}»[7].

وروى في الدر المنثور هذا المعنى عن عدةٍ من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبي(ص)[8].

وقد جاء عن أبي عبدالله(ع) قال كان أبي(ع) يقول: ما شيء أفسد للقلب من الخطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلب عليه، فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله[9]. وكما قال رسول الله(ص): إن العبد كلما أذنب حصل في قلبه نكتة سوداء، حتّى يسودّ قلبه، والرّين: الصّدأ»[10].

وفي ضوء ذلك، نفهم أن السلوك العملي السلبي يترك تأثيراته السلبية على منطقة الوعي الفكريّ والروحيّ، من خلال الضغط الشعوري الخفي الذي تثيره الخطايا، في خصائصها الخبيثة، في روح الإنسان، بحيث يتجه، في منطلقاته، إلى أفكارٍ ومشاعر تتناسب مع طبيعتها، بينما نجد السلوك العملي الإيجابيّ، يترك تأثيراته الإيجابية بالمستوى نفسه، ولكن في الاتجاه الآخر. ولعل هذا ما جعل التأكيد القرآنيّ على تلازم الإيمان والعمل الصالح كقاعدةٍ للفلاح، كما جعل العمل السيىء ملازماً للكفر والضلال.

* * *

العمل الطيب يقود الى الفكر الطيب

وربما كان في ذلك بعض الإيحاء بضرورة اعتبار التربية العملية في أجواء الأفعال الطيبة وسيلةً من وسائل الوصول إلى إيمان الشخص، باعتبار أنّ العمل الطيب يقود إلى الفكر الطيب الذي يلتقي بالإيمان، كما أنّ العمل الخبيث يقود إلى الفكر الخبيث الذي يلتقي بالكفر والضلال.

ولعلّ هذا هو السبب في أنَّ أجهزة الكفر والاستكبار تعمل على إفساد الأخلاق العامة للناس في مواقع المستضعفين والمسلمين، لتبعدهم بذلك عن الالتزام الفكريّ أو الروحيّ بالخط الإيمانيّ، ما يؤدي إلى الخلل الكبير في الشخصية، والانحلال العميق في عناصر التوازن فيها، مما تكون النتيجة فيه وصول مسألة الإيمان في داخلها إلى شيءٍ يوحي باللامبالاة وبالّلامعنى، ليذوب نهائياً، بفعل المؤثرات الشعورية المضادّة في أكثر من صعيد.

* * *

الذنوب تبعد الإنسان عن رحمة الله

{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وهذا رفض للواقع الفكري والروحي الذي يسيطر على عقولهم بما يشبه الحاجز عن الإيمان {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} لأن الذنوب العقيدية والعملية تبعد الإنسان عن الله بما تثيره من غضب الله عليه، فيطرده الله عن رحمته، ويمنعه، بذلك، عن الانفتاح عليه، حتى ليحسّ بأن هناك حاجزاً بينه وبين الله، يشبه الظلمة التي تمنع الرؤية، والكدر الذي يمنع الصفاء.

{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} في كل عذابها اللاهب وذلّها المرير وحزنها الكبير {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} في كلمةٍ حاسمةٍ تمثّل صدمة الحقيقة في ضغطها القاسي على وجودهم المستكبر الذي كان يتبجّح بإنكارها استهزاءً وخيلاءً، ها هي في مضمونها القاطع الذي تسري ناره في أجسادكم، ناراً أو لهباً، فهل تنكرونها الآن كما كنتم تنكرونها من قبل؟ وهل تملكون الجواب؟

* * *

عمل الأبرار في علّيّين

{كَلاَّ} ليست المسألة كما تتصوّرون في احتقار مستقبل الأبرار المؤمنين من خلال احتقارهم لموقعهم الاجتماعي، في نظرتكم الاستعلائية إليهم على أساس واقع الاستكبار الذي كنتم ترون فيه ذروة التحدي للآخرين.

{إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} لأن طبيعة البرّ في معناها المطلق تمثل الطاعة لله في فعل الخير كله، لتلتقي بما توحي به كلمة «علّيّين» في الحصول على درجة العلوّ والرفعة لديه. وإذا كان الكتاب يعبر عن مضمون العمل في تاريخ الناس الحركي في الدنيا، فإن «علّيّين» تمثل الدرجة الرفيعة التي يصعد إليها هؤلاء في الآخرة، وكأنّ الكلمة غريبة عن مسامعهم في ما يمكن أن يكونوا بعيدين عن استعمالها في عرفهم، فجاء السؤال للتهويل والتفخيم: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} هل تعرف معناه؟ فهو المعنى الذي لا يعيه الكثيرون من الناس لبعدهم عن آفاقه الروحية، لأنه يتصل بالمعنى الذي يلتقي بالله، فهو {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} يسجل كل أعمال الناس الخيّرة، ويضمّ كل درجاتهم الرفيعة.

{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} من الملائكة الذين يعيشون الطهر والخير والعلوّ والرفعة في درجات القرب من الله تعالى. ولهذا، فإنهم يرون هذا الكتاب، الذي يمثل العمل الرفيع والدرجة الكبيرة لهؤلاء العاملين الطائعين الذين ارتفعوا إلى مقام القرب من الله، وعاشوا مع المقرّبين إليه.

ــــــــــــــــــــ

(1) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:20، ص:261.

(2) نهج البلاغة، الكتاب:31، ص:397.

(3) تفسير الميزان، ج:20، ص:255 ـ 256.

(4) تفسير الميزان، ج:20، ص:257.

(5) الكافي، ج:1، ص:41، رواية:8.

(6) الطبرسي، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، ط:3، 1411هـ ـ 1991م، ج:2، ص:104، باب:17، رواية:1548.

(7) الكافي، ج:2، ص:273، رواية:20.

(8) انظر: الدر المنثور، ج:8، ص:445ـ446.

(9) المجلسي، محمد باقر، الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1412 هـ ـ 1992م، م:24، ج:67، ص:35 ـ 36، باب:44، رواية:22.

(10) (م.ن)، م:25، ج:70، ص:405، باب:137، رواية:17.