تفسير القرآن
المطفّفين / من الآية 23 إلى الآية 28

 من الآية 23 الى الآية 28
 

الآيــات

{إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (22ـ28).

* * *

معاني المفردات

{الأرَآئِكِ}: الأريكة، السرير.

{نَضْرَةَ}: النضرة، الحسن والرونق.

{رَّحِيقٍ}: الرحيق، الشراب الذي لا غش فيه.

{تَسْنِيمٍ}: عين ماء يجري من علوٍّ إلى أسفل.

* * *

ما ينتظر أهل التقوى من جوائز

{إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} في ما أعطاهم الله من فضله ومنحهم من كرامته، وأفاض عليهم من لطفه ورحمته، في مقابل الجحيم الذي ينتهي إليه مصير الفجار. {عَلَى الاَْرَآئِكِ} وهي أسرّة في الحجال ـ كما يقال ـ {يَنظُرُونَ} في راحةٍ واسترخاءٍ، فلا تطوف بهم، في آفاقهم، أفكار الذل، ليغضوا أبصارهم أمامها، ولا تشغلهم المتاعب عن الانفتاح على كل الأجواء الجميلة التي تحيط بهم.

وهكذا توحي هذه الجلسة الاسترخائية بعمق النعيم الذي يعيشونه في شعورهم بالأنس والبشر والانطلاق، بالرغم من المظاهر المادّيّة المحدودة للنعيم، فيبدو على وجوههم في الحيوية الدافقة التي توحي بالنضارة والسرور.

* * *

شراب أهل الجنة

{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} فلا تغيب عن كل الذين ينظرون إليها لوضوحها من خلال تدفّق الدم في وجوههم، وفيضان الحيوية في ملامحهم.

{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} وهو الشراب الخالص المصفَّى، الذي لا غشّ فيه ولا كدر، أما كلمة «مختوم»، فإنها توحي بالصيانة، فلا يمسها أحد، ليضع فيها أيّ شيءٍ يسيء إلى المذاق أو الصحّة، فهي مختومة مغلقة لا تفتح إلا عند الشراب {خِتَامُهُ مِسْكٌ} وإذا كان الختم من المسك، فإن إيحاءه يعني الرائحة الطيبة التي تضيف إلى مذاقه الطيب عطراً ينعش الروح. {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} في الحصول عليه من خلال الإيمان والعمل الصالح. وقد يوحي هذا التعبير، بأن طبيعة هذا النعيم لا ينطلق من الطبيعة المادية المتمثلة في ذاته، بل من الطبيعة الروحية التي تضفي على هذا الشراب لوناً من السعادة التي لا يعرفها الناس.

{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} في ما يمزج به الشراب من الماء كما يفعل الذين يمزجون الخمر بالماء ليخفّفوا من ثقل تأثيره. {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي من هذه العين التي يشرب بها عباد الله المقربون، في ما يوحي به ذلك من الطهر والنقاء الذي يتناسب مع أرواح هؤلاء المنفتحة على إشراقة النور الطاهر لدى الله.

وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

وهذا هو المصير المشرق الذي يدعو إليه الله عباده إذا أخذوا بأسباب البرّ التي تمثل مواقع رحمته، وآفاق رضاه، ليتنافسوا في الحصول عليه عندما يشتدّ التنافس في ساحة الصراع فيمن يتقدّم على الآخر، وفيمن يملك الموقع المميز، لأنه يمثل سرّ الخلاص النهائي ودرجة الفوز الكبير. أمَّا التنافس في الحصول على أسباب التقدم في الدنيا، في ما يحصل عليه الناس من شهواتٍ ولذّاتٍ وأطماعٍ ومواقع للجاه وللسيطرة، فلا تمثل الهدف الكبير الذي ينبغي لهم أن يستهدفوه، لأن ذلك، مهما كان كبيراً وخطيراً، فإنه يمثل المتاع الزائل الذي سيفارقه الإنسان في حياته أو عند مماته، فيكون الجهد فيه جهداً ضائعاً، إلا إذا ارتبط ذلك بالهدف الأسمى في الحصول على رضى الله في بناء الحياة على الصورة التي يحبها الله في ساحة المسؤولية العامة.

إن الإنسان المؤمن، يتطلع في كل أعماله وأقواله وعلاقاته إلى الحصول على رضى الله، وإذا كان يفكر بالنعيم، فإنه يفكر به باعتباره مظهراً لرضاه تعالى، أما الفجار، فإنهم يفكرون بالربح السريع الذي يتحرك في حجم اللحظة، بعيداً عن الامتداد في خط الخلود، ولذلك فإنهم يستغرقون في الأرض، ويخلدون إليها، ولا يتطلعون إلى ثواب الله ونعيمه، ولا يخافون من عقابه وجحيمه، ما يدفع بهم إلى غش الناس، وغمط حقوقهم، وإسقاط القيم الروحية من حساب السلوك والعلاقات العامة. وهذا هو الذي يؤثر تأثيراً سلبياً على طبيعة الخط العملي الذي ينتهجونه في حياتهم، ليتحوّل إلى جريمةٍ فكريةٍ في ما يمارسونه من الأخذ بأسباب الانحراف الفكري، أو إلى جريمةٍ عمليةٍ في ما يأخذون به من أسباب الضلال العملي. كما يؤثر على روحية التنافس لديهم، فليست القضية قضية التطلع إلى الآفاق العليا المتصلة بالله وبمواقع رضاه، بل القضية قضية الاختناق في سجن الذات وفي حاجاتها الحسية، وفي آفاقها الضيقة، بعيداً عن المصلحة النهائية في حياتهم عند الله..