تفسير القرآن
المطفّفين / من الآية 29 إلى الآية 36

 من الآية 29 الى الآية 36
 

الآيــات

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ* وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (29ـ36).

* * *

معاني المفردات

{يَتَغَامَزُونَ}: التغامز: إشارة بعضهم إلى بعض بالأعين استهزاءً وطلباً للعيب. يقال: غمز بجفنه: إذا أشار.

{فَكِهِينَ}: الفاكهون: اللاهون. والفكِه: المرِح البطر، والفكاهة: المزاح.

{ثُوِّبَ}: الثواب: أصله من الرجوع، وثاب عليه عقله: إذا رجع.

* * *

الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين

وهذه صورةٌ مثيرةٌ من صور السلوك الإجرامي الذي يتحرك فيه المجرمون في طريقة تعاملهم مع المؤمنين ونظرتهم إليهم في ما كانوا يحركونه من وسائل الاستهزاء والاحتقار، ليدفعوهم إلى السقوط والانسحاب من ساحة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، كجزءٍ من الحرب النفسية التي يشنّونها على الإسلام..

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} من الكفار الذين جسّدوا جريمة الكفر في عقولهم وانتماءاتهم، وعاشوا مسؤولية الدعوة إليه، والوقوف أمام كل دعوةٍ للإيمان بالله، فكانت الجريمة مزدوجةً من خلال ما عاشوه في أنفسهم، وما اعتدوا به على غيرهم في إقامة الحواجز بينهم وبين الإيمان، أو في منع المؤمنين من حرية الحركة في الانتماء والدعوة، والعمل على اضطهادهم بمختلف الوسائل التي يملكونها في ذلك الاتجاه، ومنها أنهم {كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} كأسلوبٍ من أساليب السخرية منهم والاستهزاء بهم، في ما كانوا يلتقون به من مفردات حياتهم، كمادّةٍ لإثارة الضحك منهم على أساس الأوضاع الاجتماعية التي كانت في مستوى القيمة الطبقية لديهم، فإذا شاهدوا فقر المؤمنين وبؤسهم، في ما يأكلون أو يلبسون أو يتقلبون به من قضايا المعيشة والحياة، اتخذوا من ذلك سبباً للقهقهات الساخرة اللاذعة، وإذا رأوا ما عليه المؤمنون من الضعف، لأنهم لا يملكون السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، أو القوّة الاجتماعية التي تمنعهم من العدوان عليهم، وإذا نظروا إلى الجدّية في مواقفهم، والترفّع عن مواجهة السفهاء بالسفه، اتخذوا من ذلك مادة للسخرية والفكاهة، سواء بالكلمات الضاحكة، أو بالتصرفات العابثة التي تنالهم بالأذى، أو بغير ذلك مما يضحكون منه، فيواجههم المؤمنون بالصبر الواعي الذي لا يسقط في ضغوط الحاضر، بل يتطلّع إلى انفتاحات المستقبل.

{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} فيغمز كل واحدٍ منهم لصاحبه بعينه ليشير إلى بعض أوضاع المؤمنين التي يستثيرون فيها السخرية، ليضغطوا على مشاعرهم ويدفعوهم إلى الارتباك والتعقيد والخجل.

{وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} وهكذا يرجعون إلى أهلهم بعد كل هذه الوضاعة النفسية، والحقارة الروحية، والسقوط الأخلاقي، وهم راضون عن ذلك كله، مرتاحون إلى مواقفهم، مبتهجون بما فعلوه، فرحون بالنتائج التي وصلوا إليها، وهم يتحدثون حديث تفكّه وأنس وحبورٍ، لا يشعرون بأيّ لونٍ من ألوان تأنيب الضمير.

{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ} لأنهم يرون في ذهنيتهم المنحرفة أن الكفر يمثل خط الهدى، وأن الإيمان يمثل خط الضلال، من دون وعيٍ فكريٍّ أو روحيٍّ للخط الأصيل للاستقامة، فيخيّل إليهم أنهم على حقٍّ، وأن المؤمنين على باطلٍ، وهذا هو العجب العجاب، أن يتحدث الفجار عن المؤمنين بأنهم على ضلال.

* * *

لا سلطة للكفار

{وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} مَنِ الذي أعطى هؤلاء المجرمين صلاحية إصدار الأحكام على المؤمنين؟ وماذا يملكون من الحق الذي يبرّر لهم هذه النظرات؟ ومن هُم في التقييم الإنساني، ليجعلوا من أنفسهم قيّمين على الناس، وعلى المؤمنين بالذات؟

إن الله ـ وحده ـ هو الذي يملك السلطة كلها، وهو الذي يسلّط بعض عباده على بعضٍ، في ما يراه من صلاحهم في ذلك كله. فهل أرسلهم الله عليهم حافظين ليتصرفوا معهم بهذه الطريقة، وماذا يحسبون أنفسهم؟

إن الآية تسخر منهم لأنهم يتدخلون في ما ليس من شأنهم، ويتخذون لأنفسهم مركزاً لا يملكونه ولا يرتفعون إليه، فليعرفوا قدرهم، وليقفوا عند حدّهم، فما وكلناهم بهم، وما أرسلناهم عليهم حافظين.

* * *

مصير الكفار يثير السخرية

{فَالْيَوْمَ} يوم القيامة الذي يقف فيه كل إنسانٍ في موقعه الطبيعي، في ما يستحقه من ثوابٍ وعقاب، وهو يوم العدل الذي يأخذ فيه المظلوم حقه من ظالمه، {الَّذِينَ آمَنُواْ} وهم منفتحون على الله متقلبون في نعيمه، سعيدون برحمته ورضاه، شاربون للرحيق المختوم بالمسك الممتزج بالتسنيم {مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} لأنهم استغرقوا في العاجلة وتركوا الآجلة، فها هم محجوبون عن ربهم، محترقون بنار الجحيم، خاضعون لكل أساليب الإهانة والتأنيب، فأيّة سخريةٍ أكثر لذعاً من هذه السخرية التي قد لا يحتاج الناس إلى إثارتها لتثير الضحك، ولكن الواقع يشير إلى نفسه في عملية ضحكٍ على المصير.

{عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ} مَاذَا استفادوا من كلِّ ذلك التاريخ؟ وهل حصلوا على ثواب أفعالهم؟ وأي ثواب هو هذا الثواب؟ و{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فهل هناك إلا اللهب المتصاعد، والأجساد المحترقة التي تتصاعد منها رائحة الشواء؟ أيّة سخرية مريرةٍ يواجهونها في كلمة الثواب؟ وأيّ ثوابٍ؟

* * *

من إيحاءات السورة

وهكذا نرى هذا المشهد الذي تتحرك فيه السخرية في اتجاهين؛ في موقف الدنيا وفي موقف الآخرة، ففي الدنيا يقف المجرمون الذين يتحركون في خط الجريمة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ليواجهوا المؤمنين الذين يتحركون في خط الدعوة إلى الله من أجل أن يخلّصوا الناس من الإجرام بكل ألوانه، ليسخروا منهم، وليثيروا الضحكات المستهزئة على أوضاعهم وكلماتهم وطريقتهم في العمل والعبادة، فكل شيءٍ يصدر منهم يرون فيه مادّةً للغمز واللمز، حتى الأشياء التي لا توحي بأيّ شيءٍ من ذلك. إنّها العقلية المنحطّة، والمزاج السخيف، والعقدة الخبيثة... إنها العقلية التي تبتدع الكلمة الضاحكة من الكلمة الجادّة، والحركة الساخرة من الحركة الواعية الخاشعة في عبادة الله والمجاهدة في سبيله، والغمزة اللاذعة من الإشارة الواعية المليئة بالتهذيب.

أما في الآخرة فتتبدّل الصورة،، فإذا بهؤلاء المؤمنين يصبحون في الموقع الكبير، في ما يرفع الله به عباده المؤمنين إلى الدرجات العالية، ويصبح أولئك المجرمون في الدرجات السفلى. وينطلق المجرمون إلى النار في ذلتهم وانكسارهم ليثيروا سخرية المؤمنين بهم وضحكهم عليهم، في ما يمثل عمق المعنى في السخرية، لأنهم تركوا هذا النعيم الكبير المتمثل في الجنة، ليستبدلوا به الجحيم اللاهب المتمثل في النار من دون أساس، فأيّة سخريةٍ أكثر لذعاً من هذا الواقع الذي يجسد للإنسان نظرته الساخرة إلى نفسه وإلى حركته قبل أن ينظر الآخرون إليه بهذه النظرة..

وتختلف نظرة المؤمنين إلى الكافرين في الآخرة عن نظرة الكافرين إليهم في الدنيا، فقد ينطلق المؤمنون من موقع النظرة العميقة إلى الواقع الذي يبعث على السخرية بعقول هؤلاء الذين فضّلوا الحياة الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، من دون أن يرتكزوا في ذلك على حجّةٍ، فهي السخرية المنطلقة من دراسة الواقع من خلال محاكمته بدقّةٍ وعمقٍ، لا من موقع العقدة الذاتية الخبيثة المستحكمة في مواقع الحقد، كما هو حال المجرمين الذين كانت نظرتهم استعلائية، على أساس احتقار المؤمنين من دون أن يكون هناك أساس في الواقع لمثل هذا التصرف، بل كان هناك أساس للوضع العكسي، وهو الاحترام والإكبار.

* * *

حديث القرآن هو حديث الواقع

وإذا كان القرآن يحدثنا عن هؤلاء المجرمين في تعاملهم مع المؤمنين، فإن ذلك ليس حديث التاريخ الذي يستمع إليه الإنسان من بعيد، بل هو حديث الواقع المتحرك الذي يفرض نفسه على ساحة الصراع في كل زمانٍ ومكانٍ، ما يجعل القضية قضية استيحاء الصورة التاريخية للصورة المعاصرة، لدراسة سلوك الكافرين والمستكبرين الذين يستخدمون أساليب السخرية والاستهزاء بالإيمان والمؤمنين في الخطوط الكلية والجزئية، وفي كل مفردات الحياة العامة والخاصة، كجزءٍ من الحرب النفسية التي يُراد منها إسقاط الروح المعنوية للمسلمين في مواجهتهم للتحدّيات المفروضة عليهم، لينهزموا نفسياً قبل الدخول في المعركة الفكريّة أو السياسيّة أو العسكريّة، لأنّ السخرية قد تؤذي المشاعر أكثر مما تؤذيها الآلام الجسدية الناشئة من الجراح من ضربات العدو، ما يجعل تأثيرها في عمق الروح أكثر من تأثير تلك الآلام في نطاق الموقف.

ولكن المؤمنين الواعين الذين لا يستغرقون في الجزئيات في خلفيات الموقف وتطلعاته، بل يرتبطون بالروح الكلي المنطلق من الإيمان بالله الكلّي القدرة، والواسع الرحمة، يتطلعون إلى آفاق قدرته ليسخروا من قدرة الآخرين، ويأملون بالوصول إلى مواقع رحمته، ليحتقروا اضطهاد الناس لهم، ويفكرون بالآلام من خلال الفرح الروحيّ الذي يعيشونه عندما يفكرون أنها بعين الله الذي يراهم وهم يتألمون في سبيل الدعوة إليه والجهاد من أجل إعلاء كلمته، فترتفع معنوياتهم بذلك، ويشعرون بالثقة، وتتصلّب مواقفهم في الأرض الثابتة فلا تهتز، وتتحرك مسيرتهم في الطريق المستقيم فلا تنحرف ولا تسقط، لأنهم يفكرون بالله، ولا يفكرون بالناس، ويتطلعون إلى الدنيا من خلال الآخرة، ولا يستغرقون فيها من مواقع الإخلاد إلى الأرض، بل من مواقع الارتفاع إلى السماء.