تفسير القرآن
الإنشقاق / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 15

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 15
 

سورة الانشقاق
مكية ، وآياتها خمس وعشرون

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية، توحي في مقاطعها بالأجواء العامة التي تسبق يوم القيامة في استسلام السماء لله، وانشقاقها طواعيةً له، وفي استسلام الأرض لله، واتساعها وانفتاحها على ما فيها من أجداث وتخلّيها عنها انقياداً له تعالى.

ثم يأتي دور الإنسان الذي يراد له أن يستسلم لله في طاعته له وانقياده إليه، ليكون الكادح إليه، ليلاقي جزاء ذلك في يوم القيامة، الذي ينقسم فيه الناس إلى فريق الجنة وفريق النار.

وتنطلق السورة بعد ذلك لتتحدّث عن بعض المشاهد الكونية الحاضرة في أجواء التلويح بالقسم، وعن الأوضاع التي يمكن أن تحدث للناس في الذي يقدره الله من سننه الاجتماعية في حياتهم المتحركة المتغيرة، ويدعوهم في إيماءةٍ إيحائيّةٍ إلى الإيمان به من خلال التفكير العميق بذلك، وينكر على أولئك الذين لا يؤمنون ولا يخشعون سجوداً عند قراءة القرآن الذي يوحي للقلب الإنساني بعظمة الله الذي يطلَّع على كل ما في داخل قلوبهم، ثم يهددهم بالمصير الأسود الذي يلتقون فيه بالبشارة الساخرة، وبالعذاب الأليم. أمّا المؤمنون العاملون بالصالحات، فلهم أجر غير ممنون...

ــــــــــــــ

الآيــات

{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً* وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً* وَيَصْلَى سَعِيراً* إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً* إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ* بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} (1ـ15).

* * *

معاني المفردات

{انشَقَّتْ}: تصدّعت.

{وَأَذِنَتْ}: سمعت وأطاعت.

{وَحُقَّتْ}: أي وحق لها.

{كَادِحٌ}: ساعٍ بتعب وعناء.

{ثُبُوراً}: هلاكاً.

{يَحُورَ}: الحور، الرجوع.

* * *

في أجواء قيام الساعة

{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} أي انفتحت وتصدعت بحيث فقدت تماسكها القويّ، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} فليس انشقاقها وانشطارها بطريقةٍ قسريّةٍ خارجة عن إرادتها، بل هو الانصياع والاستسلام لأمر الله تعالى الذي له أن يفعل بها ما يشاء، ويحرّكها كما يريد، فلا مشيئة لها من دون مشيئته، ولا إرادة لها أمام إرادته. فاعترفت بأنها محقوقةٌ لربّها، وأنها في موقع الانقياد للحقّ الذي يملكه الله تعالى على كل خلقه. إنه التعبير الكنائي الحيّ المتحرك الذي يوحي بأن للسماء عقلاً وإرادةً ووعياً لمقام ربها ولموقعها منه، فتتصرّف من خلال ذلك، في ما يقع فيها من أحداث تسبق لحظة القيامة، كما تصرّفت من قبل، وبالخضوع لطاعة الله تعالى، وفق القوانين والسنن الطبيعية التي أودعها الله فيها وفي الأرض، كما أودعه في الظواهر الكونية الأخرى.

{وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ} أي اتّسعت وامتدت بطريقةٍ تختلف عن الطريقة التي كانت عليها. وربما كانت كنايةً عن فقدان التماسك بالاهتزاز الذي يجعلها تتحرّك وتتمدّد، وتنفتح أعماقها، فلا يبقى لها سطحٌ يخفي ما في هذه الأعماق.

{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} فقد احتفظت بكل هذه الخلائق التي لا تعدّ ولا تحصى في داخلها، وبقيت على ذلك، انقياداً لله في قوانينه العامة التي جعلتها تبقى في حالةٍ من التماسك والقوّة، إلى أن حان الوقت الذي أخذت تلفظ فيه كل ما في داخلها وتتخلى عنه، وذلك استجابةً لإرادة الله تعالى أيضاً ببعث الناس إليه في يوم القيامة ليخرجوا من الأجداث كأنهم جرادٌ منتشر، فامتثلت لأمره {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} وقالت له: يا ربِّ، ها أنا طوع إرادتك، فافعل ما تشاء، فلك الحق في ذلك كله، وليس لي من الحقّ في أيّ موقعٍ خارج إرادتك.

* * *

بين طاعة الأرض والسماء وطاعة الإنسان

وهكذا يوحي استسلام الأرض والسماء لربهما من موقع حقّه في التصرّف بخلقه كما يريد، باستسلام الخلق الحيّ العاقل، المتمثل بالإنسان، إليه، لينقاد له من خلال الإرادة الواعية المطيعة، فيخاطبه بذلك، للفرق بينه وبين السماء والأرض، بأن هذين المخلوقين العظيمين مطيعان له على أساس طبيعة التكوين الذاتي فيهما، في ما خلقه فيهما من سِرّ الطواعية له في طبيعتهما، فلا يملكان غير ذلك في حركتهما في نطاق القوانين الطبيعية أو في خارج ذلك، مما يريد الله فعله فيهما. ولذلك، كانت كلمة الإذن لربهما بالنسبة إليهما على نحو الكناية لا الحقيقة.

أمّا الإنسان، فهو المخلوق الذي ألهمه الله فجوره وتقواه وهداه السبيل ليشكر أو يكفر، فجعل في ذاته الإرادة المتحركة التي تملك القبول بأوامره ونواهيه، كما تملك الرفض لها والتمرد عليها، فهو الذي يعيش الاستسلام لله في وجوده التكويني في السنن الطبيعية التي تحكم حركة حياته في تأثره بالواقع الكونيّ من حوله، ولكنه قد لا يستسلم في أفعاله التي يملك حرية الاختيار فيها. ولذلك، حمّله الله بها مسؤولية عمله، لأن مصيره يساوي عمله.

* * *

الإنسان ملاقٍ جهده يوم القيامة

{يا أيّهَا الإِنسَانُ} الذي خلق الله في كيانه خصائص إنسانيته من عقلٍ وإرادة وحرية حركة، بالمستوى الذي يكون فيه إنساناً مسؤولاً، من خلال ما يستتبعه ذلك من الحصول على المعرفة بالله في ما تقتضيه من الخضوع له في الشعور العميق بعبوديته له، وفي الانفتاح على الموقف النهائي في الوقوف بين يديه، ومن خلال امتزاج القوّة الإرادية بالقوّة الحركية، الذي يمكّنه من تربية نفسه، وتطوير فكره، وتوعية روحه، وتطهير شعوره على أساس المحبة لله، والخضوع له، وتأكيد المسؤولية في طاعته في حركة حياته.

{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} فليست الحياة فرصةً للاسترخاء والنوم والراحة اللاّهية المطلقة، وليست مجالاً للعبث واللّعب واللّهو، بل هي فرصتك للكدح الذي يمثل الجهد العمليّ الذي يترك تأثيره عليك في كيانك الجسدي والروحي والشعوري، لأن هناك دوراً كبيراً لا بد من أن تقوم به في خلافتك عن الله في إدارة شؤون الحياة في الأرض على خط رسالاته، فلا بد لك من أن تكدح في فكرك لتنتج الفكر الذي يخطط للحركة ويدفع نحو التطوّر، ولا بد، لك من أن تكدح في نشاطك الجهادي لتملأ الحياة بالدعوة باسمه تعالى والجهاد والحركة الدائبة في سبيله في مختلف المواقع، بما يجعل الحياة كلّها حياة الرسالة وللرسالة.

إن الحياة هي المعمل الكبير الذي أراد الله له أن ينتج الخير في حركة الحقّ في ساحة الصراع، وجعل الإنسان كادحاً حيّاً أساسياً في تحريك أجهزته، وفي توجيه إنتاجه، فلا مجال للتفكير بالراحة، بل هو الجهد الدائب الذي إذا التقى بالنوم، فلكي يمنحه النوم حيويّة جديدةً، وإذا عاش مع بعض لحظات الراحة والاسترخاء واللهو، فمن أجل أن يخفف عنه ثقل التعب، وضغط الضعف واختناق الروح، ما يجعل لهذه الأمور معنى يتصل بشروط الكدح، لا معنى يتخفف الإنسان به منه. وهكذا يخاطب الله الإنسان من موقع إنسانيته، ليكدح إلى ربه كدحاً، ليقول له إنه مهما أعطى من جهدٍ، فإنه سوف يلتقي به في يوم القيامة، لتكون طبيعة النتائج منسجمةً مع طبيعة الكدح.

* * *

يسر الحساب من صلاح العمل

{فَأَمَّا مَنْ أُوتيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهو الذي يجعل كدحه في طاعة الله في خط الإيمان والعمل الصالح، {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}، لأنه لا يحمل في كتابه أيَّةَ انحرافاتٍ كبيرةٍ تبعده عن الله، فقد عاش حياته كلها مؤمناً بالله، عاملاً بطاعته بمقدار جهده، فإذا كانت له بعض المعاصي، فإنها لا تمثل شيئاً كبيراً يستوجب غضب الله عليه، ما يجعل المغفرة أمراً طبيعياً له، من خلال ما يرحم الله به عباده الصالحين من التكفير عن سيّئاتهم، ومن إدخالهم في مواقع رحمته. وبذلك، كان هذا الإنسان هو الراضي المرضي الذي يعيش سعادة القدوم على الله تعالى، فلا يتوقف إلا لكي ينظر في كتابه ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ.

{وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} وليس أهله إلا الذين ارتضاهم الله أهلاً له في مجتمع الجنة، الذي يضمّ الحور العين، والولدان المخلدين، والملائكة المقربين، والصالحين من أزواج المؤمنين وأولادهم وآبائهم... ليتلقّاهم بوجهٍ طافحٍ بالسرور، وقلبٍ مملوءٍ بالشعور بالسعادة، بما غفر الله له من ذنبه، وبما خفَّف عنه من حسابه، وما أولاه من فضله في نعيم جنته.

* * *

صعوبة الحساب من سوء العمل

{وَأَمَّا مَنْ أُوتيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} وهو الإنسان الكافر المعاند لله في عمله، المحارب للرسول(ص) وللرسالة. ولعل التعبير بإيتائه كتابه وراء ظهره، واردٌ على سبيل الكناية التعبيرية عن أن مضمون هذا الكتاب لا يمثل العمل الذي يقدِّمه الإنسان بين يديه، كما يفعل الواثقون بالنتائج الحسنة لأعمالهم فرحاً بها، بل يمثل العمل الذي يطرحه الإنسان وراء ظهره ليخفيه عن الناس، جزعاً منه، أو العمل الذي يبقى في الدنيا لأنه لا نصيب له في الآخرة، فكأنه تركه وراء ظهره، في ما يعبر به ذلك عن الدنيا التي استدبرها ليستقبل الآخرة، فلا ينافي ذلك ما ورد من إيتاء الكافرين كتبهم بشمالهم. وربما فسّر بعضهم عدم المنافاة، بأنهم يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لردّ وجوههم على أدبارهم كما قال الله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} [النساء: 47].

وذكر بعضهم، أنه ليس يمتنع أن يكون الذي يُعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره. وعلى أيّ حالٍ، فإن هذا الإنسان الذي يؤتى كتابه بهذه الطريقة، يراد به الإنسان الذي قضى كل عمره في الجهد والتعب والمشقة في معصية الله والتّمردّ على رسله، فهو الذي يشعر بالتعاسة والبؤس والشقاء، لأن ما حصل عليه من اللذة في الدنيا، قد تحوّل إلى الألم الكبير في الآخرة، وأنّ ما كان يخيّل إليه من أوضاع السعادة، قد تحوّل إلى أوضاع الشقاء، ولذلك، فإنّ موقفه، هنا، عندما يُدفَع إليه كتابه بهذا الشكل الذي يوحي إليه بالنتائج السيّئة في قضية مصيره، يتمثل بهذا الواقع {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} وينادي بالويل والهلاك، ويتمنى استمرار الموت، حتى لا يواجه هذا الموقف الصعب، {وَيَصْلَى سَعِيراً} فيدخل ناراً تلتهب وتتأجج بما لا يمكن أن يوصف به عذابها.

* * *

نسيان الآخرة يؤدي إلى الهلاك

{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} عندما كان يعيش في الدنيا، وينال من متاعها، ويكرع من لذاتها وشهواتها، وينسى ربه في حسابه وعقابه. ولكن ما قيمة كل هذا السرور الذي تبخّر بالموت واستنفد كل مشاعره فلم يبق منه شيء؟ وما قيمة التاريخ الذي يحتوي الذكريات الحلوة، إذا كان الحاضر يتحدّاه بالواقع القاسي المرّ؟ {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي لن يرجع إلى ربه للحساب، ولذلك، فإنه لم يجد هناك أي موجبٍ للتوقف عن الامتداد في الغيّ والاستغراق في العصيان، لأن الحياة ـ لديه ـ هي نهاية المطاف، فلماذا يحرم نفسه عن لذائذ الحياة وشهواتها؟ وهكذا سار على حساب ظنّه الذي انطلق من تمنياته أن لا يكون هناك آخرة، لا من قناعته الفكرية، كما يحدث للبعض من الناس الذين يحوّلون تمنياتهم إلى قناعاتٍ، ولا يعملون على أن يتوقفوا للتفكير وللحوار مع الذين يحملون القناعات الأخرى المضادة.

* * *

الله بصير بأعمال عباده

{بَلَى} فقد كان مخطئاً في ظنّه، فليس الأمر كما زعم، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}، فهو يعلم منه ما لا يعلم هو من نفسه، ويعلم سرَّه وعلانيته، كما أنه يطّلع على خلفيات مواقفه التي تخفي الأسس الفكرية التي يمكن أن تقوده إلى الإيمان، ولكنه يتخذ موقف المعاند الذي يأبى أن يقتنع عناداً واستكباراً، وينسى أن ذلك لا ينفعه بشيءٍ، لأن الله سوف يواجهه ـ غداً ـ بأعماله عندما يقف ـ بين يديه ـ للحساب، ليجزيه على ما قام به من أعمال الكفر والشرِّ التي أحصاها الله بكل مفرداتها الصغيرة والكبيرة.