تفسير القرآن
البروج / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 9

 المقدمة +من الآية 1 الى الآية 9
 

سورة البروج
مكية، وآياتها اثنتان وعشرون

في أجواء السورة

وهذه من السور المكية التي تبدأ بالقسم بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود الذي يحتوي في مضمونه العقيديّ يوم القيامة، وبالشاهد والمشهود في إشارةٍ، ربما، إلى الأنبياء الذين تحدّث عنهم القرآن كشهودٍ على أممهم، وأما المشهود، فقد يراد به العمل بوصفه متعلق الشهادة، أو الأمر الذي يشاهده الناس في ما يعاينونه منه، لتكون هذه الأمور الثلاثة إيحاءً بالجوّ الغيبـي الذي قد يعرف الإنسان بعض مفرداته، ولكنه لا يعرف طبيعته الخفية في ما يوحي به من عالمٍ غامضٍ لا يدركه إلا عندما يقترب إليه.

والموضوع المثير هو الحديث عن هؤلاء المؤمنين الذين عاشوا في مرحلةٍ زمنيةٍ متقدّمةٍ على الإسلام، وربما قيل: إنهم من النصارى المؤمنين بعيسى(ع) في دينه التوحيديّ، فقد واجهوا ضغطاً عظيماً من بعض سلطات زمانهم ليدفعوهم إلى الارتداد عن دينهم، فتمردوا على ذلك الضغط وأصروا على الالتزام بعقيدتهم، فشقّوا لهم في الأرض شقّاً، وهو المعبر عنه بالأخدود، وأضرموا فيه النار وألقوهم فيه، فماتوا حرقاً على مرأى من الناس الذين لم يحرّكوا ساكناً في هذا المجال، انسجاماً مع الطغاة في الحقد على المؤمنين أو خوفاً منهم.

وقد تحدّثت السورة عن هؤلاء لتطرح النموذج الأعلى المميّز للموقف الصعب الذي يقفه المؤمنون المخلصون في السموّ الروحي الذي يرفض فيه المؤمن كل الضغوط التي تضغط عليه للابتعاد عن عقيدته، حتى الموت حرقاً، في مقابل النموذج الأعلى للطغاة الذين يفرضون على المؤمنين مثل هذه التجربة القاسية الوحشية، وهم يلهون بآلامهم وصرخاتهم التي تنبعث من قلب الحريق اللاّهب.

ثم تثير الحديث عن هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين الذين آمنوا بالنبي(ص) في مكة، بواسطة الضغوط النفسية والجسدية والاقتصادية، ليبعدوهم عن خطّ الإيمان، فمنهم من استسلم للفتنة المتعددة الوجوه، فرجع عن إيمانه، ومنهم من استمر على خط الإيمان العقيدي والعملي فثبت حتى النهاية، فمنهم من استشهد، ومنهم من هاجر ، ومنهم من صبر على العذاب.. ويتوعّد الله أولئك بعذاب الحريق في الآخرة، أمّا المؤمنون الذين ثبتوا على الإيمان، فلهم الجنات التي تجري من تحتها الأنهار التي جعلها الله تعالى جائزة للفائزين، ممّن عملوا بطاعته ومرضاته، وهجروا عصيانه ومقامات غضبه.

ثم تلوّح بالبطش الإلهي الجديد الذي يوحي بقدرة الله الذي يبدىء ويعيد في تصرفه بالخلق وبالبعث، وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذا أراد شيئاً فعله، فإرادته تساوي فعله.

وتأتي الإشارة إلى الطغاة السابقين الذين فتنوا المؤمنين وآذوا الرسل، فأخذهم الله بعذابهم، وأحاط بهم من حيث لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم.

ويأتي الختام لتقرير طبيعة القرآن الذي يمثّل الحقيقة المحفوظة في اللوح المحفوظ، فهو المرجع في كل فكرٍ، وفي كل شريعةٍ، وفي كل مفهومٍ للكون وللحياة.

ــــــــــــــ

الآيــات

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(1ـ9).

* * *

معاني المفردات

{الْبُرُوجِ}: البرج: في معناه الغالب هو القصر البارز من خلال علوّه، ويسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً.

{الأخدُودِ}: الشق العظيم في الأرض.

{الْوَقُودِ}: ما تشتعل به النار من الحطب وغيره.

* * *

القسم بالسماء ذات البروج

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} هذا هو القسم الأول بالسماء ذات البروج. وربما كان هذا التعبير كناية عن مواضع الكواكب في السماء، وذلك ما يوحي به قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنّاهَا لِلنَّاظِرِينَ*وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر:16 ـ 17]، مما يراد فيه الإيحاء بأنها تشبه البروج المعدّة للدفاع.

وعلى ضوء ذلك، يظهر أن تفسيرها بالبروج الاثني عشر لا يرجع إلى دليل، بل الدليل القرآني على خلافه.

{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهو اليوم الذي وعد الله به عباده ليجمعهم عنده، وليحاسبهم على أعمالهم ليجزيهم عليها، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، وهو يوم الفصل، في ما اختلفوا فيه، وفي ما تنازعوا واقتتلوا فيه، من قضايا الدنيا التي خلّفوها وراء ظهورهم، فقد أمهل الله الناس في الدنيا، فلم يحاسبهم، ولم يعاقبهم على ما فعلوه، ليجتمعوا في هذا اليوم العظيم.

* * *

وشاهد ومشهود

{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وقد فسّر الشاهد بمن يشهد ويعاين أعمال الكفار في الدنيا، والمشهود ما يشهده الكل ويعاينونه، وبذلك تكون الشهادة بمعنى المعاينة، لا بمعنى أداء الشهادة، لأن ذلك لو كان المراد لكان حق التعبير «ومشهود عليه»، لأنها بهذا المعنى إنما تتعدّى بـ «على».

ويتابع صاحب هذا الرأي فيقول: «وعلى هذا يقبل {وَشَاهِدٍ} الانطباق على النبي(ص) لشهادته أعمال أمته ثم يشهد عليها يوم القيامة ويقبل {وَمَشْهُودٍ} الانطباق على تعذيب الكفار لهؤلاء المؤمنين وما فعلوا بهم من الفتنة، وإن شئت فقل: على جزائه، وإن شئت فقل: على ما يقع يوم القيامة من العقاب والثواب لهؤلاء الظالمين والمظلومين»[1].

ونلاحظ عليه، أنه لا مانع من إطلاق المشهود على محتوى الشهادة المؤدّاة بحذف ما يتعدى به من جهة الدلالة عليه في ما توحي به كلمة الشهادة التي تتضمن شاهداً ومشهوداً به ومشهوداً عليه، لا سيما إذا لاحظنا أن جوّ السورة يستهدف التأكيد على ما ينال هؤلاء الذين يفتنون المؤمنين عن دينهم في يوم القيامة على أساس قيام الحجة عليهم من خلال الشهود الذين يشهدون عليهم، كما ورد التأكيد على دور الشهداء الذي يوحي بالمشهود عليه من الأنبياء والأمم في يوم القيامة، وقد اختلف المفسرون في تأويل كلمة الشاهد والمشهود وتطبيقاتهما، ولكنها تنظر إلى اللفظين نظراً ذاتياً لا من خلال طبيعة جوّ الآية.

* * *

قتل أصحاب الأخدود

{قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ} هل هو حديثٌ عن حادثة القتل التي حدثت لأولئك المؤمنين ليكونوا المراد من أصحاب الأخدود، أو هو دعاء بالهلاك ليكون المراد منهم الطغاة الذين قاموا بالتعذيب والإحراق؟ والظاهر هو الوجه الثاني، لأنّ السياق مسوقٌ لإعلان الغضب على الفاعلين، كما أن الضمير في الآيات الأخرى يوحي بذلك. والأخدود، هو الشّقّ في الأرض الذي شقّوه بما يشبه الحفيرة وملأوه ناراً وألقوا فيه أولئك المؤمنين. ولما كانت النار هي العنصر البارز في هذه العملية الوحشية بحيث لا دور للأخدود إلا من حيث كونه ظرفاً للنار، فسره بها {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} فكأنه تحوّل إلى نار، أو كأنه لا ينظر إليه إلا من خلال النظرة إلى النار، فكأنه اندمج فيها بحيث ذاب وجوده في طبيعتها.

{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} في جلوسهم على أطرافها ليتلذّذوا بمنظر هؤلاء المؤمنين المعذّبين، وليجعلوا من ذلك ملهاةً لهم، في ما اعتاد الطغاة أن يلهوا به من تعذيب الأبرياء.

{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} يعاينون عذابهم واحتراقهم ويسمعون صرخاتهم، فلا يزيدهم ذلك إلا فرحاً وسروراً وطغياناً، في ما قد يوحون لأنفسهم بالنصر.

{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فلم يصدر منهم أيّ ذنب من الذنوب التي يرتكبها الخاطئون ليعاقبوا عليها، ولم يحدث منهم أيّ إخلالٍ بالنظام العام ليستحقوا النقمة التي تتنفس بهذا العذاب، بل كلّ ما هناك أنهم آمنوا بالله العزيز القادر، الحميد المستحق للحمد في كل حالٍ، ولعل ذكر هاتين الصفتين لله، سبحانه، يوحي بأنهما من بعض الأسس التي ارتكزوا عليها في إيمانهم به، كما يوحي، من طرفٍ خفيّ، بأن الله قادر على أن ينتقم لهؤلاء المظلومين، لأنه وحده الذي يملك الأمر كله، والحمد كله، فهو مالك السماوات والأرض الذي لا ملك لغيره ولا حمد لسواه، وهو الشاهد على كل شيء، فلا يغيب عنه ما يفعله هؤلاء.

* * *

لصراع الدائم بين الإيمان والكفر

وتلك هي جريمة الكثيرين من المؤمنين المتقين العاملين في سبيل الله، السائرين على خط هداه، عندما يخضعون للتعذيب والتشريد والقتل من قِبَل الحكام الجائرين والطغاة المستكبرين، فهم لا يطيقون أن يكون هناك للإسلام قاعدةٌ قويّةٌ في حياة الأمة، ولا يرتاحون لأيّة شعارات تنادي بالإيمان، ولا لأيّة حركةٍ تنطلق باسم الإسلام، لأن ذلك يشكل خطراً على امتيازاتهم الطاغية، وأوضاعهم الظالمة، فإن الأمّة إذا عرفت دينها عرفت حقوقها، ووعت طريقها وأهدافها الحقيقية الكبرى في ما هي قضية الإيمان المنفتح على الحرية والعدالة، ولذلك يلاحقون المؤمنين، ويضطهدونهم بأبشع ألوان الاضطهاد، ليجعلوا من ذلك وسيلة ضغطٍ عليهم فلا يزيدهم الضغط إلا صموداً، ولا تزيدهم الملاحقة إلا إصراراً على الثبات على المبدأ وقوّةً على متابعة السير.

وتلك هي قصة الصراع الدائم بين الإيمان والكفر، والحرّيّة والاستعباد، والعدل والظلم، لتتحرّك كل مواقعه في اتجاه إيجاد الفرص العملية للتجربة الإيمانية الناجحة، لتؤكد قوّتها على الثبات والاستمرار على الخط في الظروف الصعبة القاسية في أكثر من صعيد.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:279.