من الآية 10 الى الآية 22
الآيــات
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ* إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ* هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (10ـ22).
* * *
معاني المفردات
{فَتَنُواْ}: الفتنة: المحنة والتعذيب.
{بَطْشَ}: البطش: تناول الشيء بصولة.
{الْمَجِيدُ}: صفة من المجد، وهو العظمة المعنوية.
* * *
جزاء الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وذلك بالأساليب المتعدّدة التي تتحرك في دائرتي الترغيب والترهيب، بالضغط على ظروفهم، أو على نفسياتهم، أو على علاقاتهم، أو على أوضاعهم العاطفية والشعورية، بالمستوى الذي تعرّض الموقف للاهتزاز عندما يشتد الضغط ليجعل الإنسان بين خيارين، خيار البقاء على خط الإيمان في مقابل أن يبقى معذّباً قلقاً تحت تأثير الضغوط القاسية الصعبة التي تعرض مصالحه وحياته للخطر، وخيار الانحراف عن خط الإسلام في مقابل أن يحصل على امتيازات المال والجاه والطمع والشهوات وأن يرتاح لأمنه واستقراره الذاتي بعيداً عن كل الضغوط المادية والمعنوية. وقد يسقط البعض في الامتحان، فينحرفون، وقد ينجح البعض فيه، فيستمرون.
إنها الجريمة الكبرى، لأنها تمثل حرباً على الله ورسوله في إبعاد الناس عن الدين الحق، وحرباً على الإنسان في جميع مواقعه في حاضره ومستقبله، لأنها تبعده عمّا هو قاعدة الأمان في قضية مصيره، وقاعدة الصلاح في قضية حياته. وإذا كانت القضية في هذا المستوى الخطير من النتائج السلبية على الرسالة والإنسان، فمن الطبيعي أن يكون القائمون على هذه الجريمة في المستوى الكبير من درجات الإجرام. وقد اعتبر الله الفتنة عن الدين أشد من القتل وأكبر منه، كما في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:191]. وقد أفسح الله لهؤلاء المجرمين المجال الواسع للتوبة، بالعودة إليه، والانفتاح على الإيمان عقيدةً وعملاً، كما أفسح لكل العصاة أن يرجعوا إليه، فإن تابوا، فإنه التواب الرحيم.
أمّا الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}، فذلك هو جزاؤهم العادل، بعد إقامة الحجة عليهم من الله ورسله.
ولعل التأكيد على عذاب الحريق بعد عذاب جهنم من أجل التنصيص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود، أو من جهة التأكيد على الحريق كمظهر شديد للعذاب بالإضافة إلى ما في جهنم من عذاب.
* * *
الفوز الكبير للمؤمنين
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} لأنهم استحقوا ذلك بعملهم وتقواهم من خلال وعد الله لهم بذلك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي النجاح والنجاة من عذاب الآخرة، وأيّ نجاح أعظم من النجاح في الحصول على الجنة، وأيّ نجاة أفضل من النجاة من النار. وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن يضعوه في حساباتهم الروحية، في ما يوحون به لأنفسهم من إيحاءات الأحلام، فلا يستغرقون في التأكيد على فوز الدنيا في ما يتسابق الناس إليه من الفرص المتاحة لهم في هذا الاتجاه، بل يعملون على اعتبار الفوز في الآخرة من خلال فرص العمل الذي يؤدي إلى ذلك فوزاً كبيراً، لأن مسألة العمل في جدّيته، وفي مواقع الرغبة الذاتية فيه، تخضع غالباً للاهتمامات الروحية والشعورية في النتائج النهائية التي ينتهي إليها أمر العمل.
* * *
إن بطش ربك لشديد
ويتوجه الخطاب للنبي(ص) من جديد ليؤكد له الحقائق الإيمانية التي لا بدّ من أن يبلّغها للناس في ما هي القوّة الإلهية، في قوّة البطش، وقوّة القدرة، وشمولية الإرادة وحتمية نتائجها في كل شيء، وفي سعة سلطانه ورفعة مجده.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} والبطش هو الأخذ بعنف، فلا دافع لأخذه، ولا رادّ لحكمه، فما قيمة بطش الناس أمام بطشه، فهو مالك السماوات والأرض، وهو الجبّار القاهر فوق عباده، ما يجعل الوجدان يهتز أمامه ويستصغر كل شيء معه. فإذا دخل الإنسان في مقارنةٍ بين بطش الله وبطش الإنسان، وقف في حياته ليبتعد عن مواقع بطش الله، حتى لو تعرّض لبطش الناس.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} فله النشأة الأولى في إيجاده للحياة، وله النشأة الأخرى في إعادته للحياة بعد الموت، وله البدء والإعادة في كل ما يتجدد في الحياة كالليل والنهار، من موقع السيطرة على الوجود كله، وعلى حركة الحياة كلها.
* * *
الله الغفور الودود
{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} الذي يغفر الذنوب لعباده إذا تابوا وأنابوا إليه، وقد يغفر الذنب لمن يراه مستحقاً لذلك من خلال طبيعة العناصر الحيّة في شخصه وعمله والذي يمنح عباده المؤمنين الذين عاشوا الودّ له ودّه ومحبته لهم، وتلك هي الربوبية الرؤوفة الرحيمة الودودة التي تذكر العباد بالصداقة التي يريد الله لها أن تعيش في العلاقة بين الله وعباده، في ما يوحي به ذلك من الحنوّ الغامر الذي يفيض على القلب فيملأه حباً وخيراً وسلاماً. وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن يتطلعوا إليه في المحبة المتبادلة بينهم وبين الله، فإنه الحب الذي لا حبّ أعلى منه، وأيّ حبٍّ أعظم من أن تحب الله الذي خلقك وأنعم عليك بكل نعمه، وأيُّ حبٍّ يفيض عليك، أعظم من أن يحبّك الله ليدخلك في رحاب رحمته ونعيم رضوانه، إنها إيحاءات أن يكون الله ـ وحده ـ هو وليّك، وأن تكون وليّ الله في مواقع رضاه.
وربما نستوحي من صفة الودود لله، أن علاقته بعباده تنطلق من موقع الودّ لهم، فهو يتودّد إليهم بكل وسائل الودّ، حتى لو تنكّروا له، كما جاء في الدعاء: «الحمد لله الذي تحبب إليَّ وهو غنيٌّ عني»[1]، «وتتودّد إليَّ فلا أقبل منك كأن لي التطوّل عليك، ثم لم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إليَّ والتفضل عليَّ بجودك وكرمك»[2].
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فهو صاحب الملك في ما توحي به كلمة العرش، من العلوّ والرفعة والسيطرة المطلقة، وهو صاحب المجد من خلال كماله في ذاته وفي صفاته {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، فإذا أراد شيئاً فعله، فهو الذي يريد ويختار ويخلق ويقضي ويدبّر الأمر كله، فلا حدّ لإرادته، ولا حدود لفعله إلا في ما لا تتعلق به إرادته.
* * *
وقفة مع طواغيت التاريخ
{هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} هل عرفت من خلال هذا الحديث، كيف كان الطغاة في الأرض، المستكبرون فيها، المستبدّون بحكمها، في ما يملكون من قوّة البطش، وكيف أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر؟ فأمّا فرعون الذي بلغ به الغرور أن قال: أنا ربكم الأعلى، فكان أن أغرقه الله وجنوده في البحر، وأبقى المستضعفين من بني إسرائيل بقيادة موسى(ص) ليكونوا ورثة الأرض من بعده.
وأمّا ثمود فقد أهلكهم الله فلم يُبْقِ منهم أحداً، وأنجى نبيّه صالحاً الذي عانى الكثير من تكذيبهم، والمؤمنين الذين وقفوا معه ضدّ قومهم وأهلهم.
وهذا لونٌ من ألوان الإرادة الإلهية الحاسمة التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء. فليعرف الكافرون مواقع إرادة الله في عذاب الطغاة والمستكبرين.
* * *
الله محيط بالكافرين
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ} إنه تقرير للحقيقة الثابتة في واقع الكافرين الذين رفضوا الإيمان عناداً واستكباراً وقرّروا ـ من خلال عقدتهم المتخلفة المستكبرة ـ أن لا يلقوا بأسماعهم وعقولهم إلى كلمات الإيمان، ما يجعل التكذيب بالرسل والرسالات موقفاً حاسماً لا يبحثون له عن مبرّر، ولا يريدون أن يقدموا له أيّ تفسير، ولكن إلى أين يذهبون ويهربون؟ هل يملكون ملجأً من الله، أو مهرباً من عذابه؟ {وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} فلا يعجزون الله في شيءٍ من أمرهم، لأنه القادر عليهم، المهيمن على أوضاعهم من كل جهة.
* * *
القرآن مرجع كل حقيقة
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} فهو الذي يملك المجد كما لم يملكه كتاب، لأنه كلام الله الذي لا شيء أرفع منه، وأيّ مجد لكلامٍ كما هو كتاب الله في مجده، وهو الكتاب الذي لا يقترب إليه الباطل لأنه محفوظٌ من التحريف ومن الزيادة والنقصان، فهو المرجع الأخير للحقيقة كلها في جميع مجالاتها.
ـــــــــــــــ
(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي، ص:222.
(2) (م.ن)، دعاء الافتتاح، ص:216.
تفسير القرآن