تفسير القرآن
الطارق / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 10

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 10
 

سورة الطارق
مكية، وآياتها سبع عشرة

في أجواء السورة

وهذه سورة مكية تبدأ بالقسم بالسماء وبالنجم الثاقب الذي عبّرت عنه بالطارق، في ما يمكن أن يهزّ المشاعر بموسيقاه الحادّة، ثم تؤكد الحقيقة التي جاء القسم لتقريرها وإثباتها وهي الرقابة على كل نفسٍ من خلال الحافظ الذي يحفظ عليها أعمالها، ثم تلتفت إلى سرّ الخلق الإنساني لتطلب من الإنسان النظر إلى طبيعة الماء الدافق الذي {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ}، فهو المادّة الأولى التي خلق منها، ليفكر في طبيعتها، وفي الأسرار المودعة فيها، ليعرف أسرار العظمة الإلهية التي أبدعت من هذا الماء إنساناً، من دون أن يكون فيه شيءٌ يوحي بذلك، لينتقل من هذه الحقيقة إلى حقيقةٍ إيمانية مفادها أن الله قادرٌ على إرجاعه إلى الحياة بعد الموت، حيث يقف هناك بإنسانيته التي لا تملك الحفاظ على أسرارها، لأن السرائر سوف تتمزق ولا يبقى هناك ما يسترها، كما لا يملك الإنسان أيّة قوّةٍ ذاتيةٍ يدافع بها عن نفسه، كما لا يملك أيّ ناصر ينصرها من عذاب الله، فليعرف كيف يوثق علاقته بربه ليحمي نفسه بذلك من عذابه.

وتعود السورة إلى القَسَم بالسماء ذات الرّجع، وهو المطر الذي ترجع به السماء مرّةً من بعد مرّة، وبالأرض ذات الصدع، وهو النبت الذي يشقّ الأرض وينبثق منها، لتؤكد بالقسم، القول الفصل الحاسم الذي لا يوحي بالهزل. فليفهم الكافرون الذين يكيدون للمؤمنين ويكيد الله لهم، وليأخذوا مهلتهم، فلن يفوتهم عذاب الله.

ـــــــــــــــــــ

الآيــات

{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} (1ـ10).

* * *

معاني المفردات

{وَالطَّارِقِ}: الآتي ليلاً، وهو هنا: اسمٌ للنجم الذي يظهر في الليل.

{الثَّاقِبُ}: المضيء، العالي.

{دَافِقٍ}: الدفق: تصبب الماء وسيلانه بدفع وسرعة.

{الصُّلْبِ}: الظهر.

{وَالتَّرَآئِبِ}: جمع: تريبة، وهي عظم الصدر.

{رَجْعِهِ}: إعادته.

{تُبْلَى}: تُختبر.

{السَّرَآئِرُ}: ما أسرّه الإنسان وأخفاه في نفسه.

* * *

والسماء والطارق

{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ} تبدو لنا السماء بعظمتها واتّساعها وهي تشرف على الأرض، كما لو كانت سقفاً مرفوعاً، وتبرز كلمة الطّارق المأخوذة من الطرق ، وهو الضرب بشدة يسمع له صوت، وشاع استعماله في الإتيان ليلاً، لأن الآتي في الليل يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ويدقها، فتثير التساؤل الذي يوحي بالاهتمام والتفخيم، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ما هي طبيعته؟ وما هويته؟ فيأتي الجواب، بأنه {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} الذي يثقب ظلام الليل بنوره. والظاهر أن المراد به أيّ كوكبٍ من الكواكب.

* * *

الملك الحافظ للأعمال

{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} وهذا هو ما أراد القسم تأكيده، وكلمة «لما» بمعنى «إلاّ»، أي ما من نفسٍ إلا وعليها حافظ يحفظ عليها أعمالها لتحاسب عليها يوم القيامة، والظاهر أن المراد بالحافظ الملك الذي يكتب صحيفة الأعمال.

وقد احتمل صاحب الميزان(رحمه الله)، «أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها وأعمالها، والمراد بالحافظ جنسه، فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت ولا تفسد، حتى إذا أحيا الله الأبدان، أرجع النفوس إليها، فكان الإنسان هو الإنسان الدنيويّ بعينه وشخصه، ثم يجزيه بما تقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شرّ.

ويؤيّد ذلك كثيرٌ من الآيات الدالة على حفظ الأشياء كقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَالَّتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}»[1] [الزمر:42].

ونلاحظ أنّ هذا الاحتمال بعيد عن الظهور من خلال أن السياق ينطلق في بيان مسؤولية الإنسان عن أعماله التي يواجهها في يوم القيامة، ما يفرض عليه الدقّة في المحاسبة والمراقبة، وعدم الشعور بالحرية المطلقة في ما يأخذ به وفي ما يدعه، ولا موجب للحديث عن حفظ النفوس وعدم بطلانها بالموت، فإنّ طبيعة الحديث عن المعاد يفرض ذلك من دون حاجةٍ إلى هذا التعبير البعيد عن الذهن، أما ما ذكره شاهداً على ذلك من الآيتين، فالظاهر أن المراد بهما حفظ النفس في الحياة من الموت قبل إتيان الأجل، والله العالم.

* * *

فلينظر الإنسان ممّ خلق

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} فلا يستغرق في وجوده الكامل السويّ الذي يوحي بالقوّة والجمال، بل يدرس مبدأ خلقه قبل تكوينه من خلال ما يلاحظه من طبيعة الطريقة في التناسل، {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} يندفع ويسيل بدفع وسرعةٍ، وهو المنيّ {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} أي صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة، وهي عظام صدرها العلوية. وهكذا يكون اللِّقاء بينهما واتحادهما هو الوسيلة لبداية رحلة الوجود الحيويّ للإنسان، ابتداءً من الخلية الواحدة التي لا تفتأ أن تتكاثر، وصولاً إلى إنتاج هذا الإنسان الحيّ الكامل بكل خصوصيّاته البشرية منها، وتوجيه الإنسان إلى أن ينظر إلى ذلك قد يؤدّي به إلى اكتشاف القوانين المودعة في حركة هذا الماء الدّافق الذي يمثّل ملايين الخلايا في الدفقة الواحدة، فكيف تحصل الخليّة الواحدة منها ـ التي يوجد منها الإنسان ـ على غذائها في جدار الرحم من حولها الذي يتحوّل إلى بركةٍ من الدم السائل للغذاء الطازج؟ وكيف تنقسم إلى عدة خلايا، تتخصّص كل مجموعةٍ منها لبناء الجسم الإنساني في أجهزته، من الهيكل العظمي، إلى الجهاز العضلي، والجهاز العصبي، إلى غير ذلك من الأجهزة التي تمثل أسس الحياة الإنسانية الجسدية؟ مع ملاحظةٍ مهمّةٍ، وهي وضع كل عضلةٍ أو عصبٍ أو عضوٍ في موضعه، فلا تخطىء عملية التركيب والنمو في شيءٍ من ذلك، كما لا تخطىء عملية الشكل والصورة في الملامح الدقيقة الخاضعة لعوامل الوراثة التي قد تمتدّ في تأثيرها إلى عشرات السنين، فكيف حدث هذا؟ ومن الذي ألهم الخلية الواحدة من هذا الماء الدافق بهذا التكاثر والتقسيم والتوزيع والتصوير والتنظيم؟ ثم هذه الدقة في خصائص الأجهزة والأعضاء، بحيث يكون كل واحدٍ منها عالماً مستقلاً، في عناصرها الذاتية في حال انفرادها بعمل، أو تعاونها في بعض الأعمال.

ولو أراد الإنسان أن يرسم مخططاً لهذا التكوين الهائل، في طبيعة عناصر هذا الوجود الإنساني وخصائصه، لاحتاج إلى جهود ضخمةٍ من العلماء والمتخصصين، وعشراتٍ من السنين، ولن يستطيعوا أن يبلغوا كل الأسرار التي ينفتح منها للإنسان في كل اكتشاف علميٍّ سرّ جديد. ويبقى للروح سرُّها، وللعقل تعقيداته، وللذاكرة غوامضها، مما قد يتعب الفكر، فلا يستطيع استيعابها بشكلٍ مطلق. فكيف هي عظمة الخالق القادر على أن يودع كل هذه الأسرار والحركة والإبداع في هذه الخلية الواحدة التي لا تدرك بالعين المجرّدة؟ وكيف يمكن أن يستبعد أحدٌ من خلقه قدرته على بعض شؤون حركة الإنسان في إعادته إلى الحياة بعد الموت من جديد؟

* * *

الآية والاكتشافات العلمية

وقد تحدّث بعض المختصين بأن الاكتشافات العلمية لا توافق أن يكون نشوء هذا الماء الدافق من الصلب في الرجل، والترائب في المرأة، لأنَّ هناك من ينكر وجود منيٍّ للمرأة، فضلاً عن انطلاقه من ترائبها، وإذا كان المراد بذلك بويضة المرأة التي يفرزها جسدها لتلقحها النطفة، فإن التعبير لا يلائمها ـ أوّلاً ـ ثم إن مصدرها ليس الترائب ـ ثانياً ـ فكيف نفسر ذلك؟

وإذا كنا لا نملك اختصاصاً في هذا المجال، فلا نستطيع أن نخوض في حديثٍ علميٍّ تحليليٍّ لهذا الموضوع سلباً أو إيجاباً. ولكننا قد نلاحظ بأن الحديث عن إرادة الماء الممتزج من ماء الرجل والمرأة، من كلمة الماء الدافق، ناشىءٌ من بعض الروايات التي لا تمثل سنداً قطعياً، في ما هي الحقيقة الشرعية، كما أنّ هذا الكشف العلمي الناشىء من تأملاتٍ تجريبيّةٍ، لا يفيد إلاّ الظنّ، فلا يمكن لنا أن نتوقف هنا أو هناك، لنتحفّظ في الحقيقة القرآنية التي لا تصدر من تجربةٍ ظنيّة، بل هي وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد يكتشف الإنسان نظريةً علميةً جديدةً تقلب موازين هذا الاكتشاف رأساً على عقب، فتثبت بأن للمرأة ماءً كما هو للرجل، كما تتحدث عن مصدره بما لا يتنافى مع القرآن، ومن المحتمل أن يكون المراد من الماء ماء الرجل الذي يخرج من الصلب والترائب، إذا كانت كلمة الترائب تتسع لعظام الصدر العلوية للرجل، كما هي للمرأة، والظاهر أن الأمر كذلك، ولذا احتاج التخصيص بها إلى الإضافة؛ والله العالم.

* * *

قدرة الله على إعادة الإنسان إلى الحياة

{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فإن إعادته إلى الحياة ليست بأكثر صعوبةً من إيجاده بهذا الشكل الدقيق في عمق القدرة والإبداع، بل إنّ الإيجاد على غير مثال أشد في مسألة القدرة من الإعادة على صورة المثال الموجود.

{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ} وهي الأشياء الخفية التي كان الإنسان يسرّها ويخفيها في نفسه عندما كان في الدنيا، من أعماله التي كان يكتمها عن الآخرين، مما لا يستطيع أن يتحمل مسؤوليته أمامهم. فإنها تختبر وتكشف وتظهر حين يقف الإنسان للحساب على أساسها، فلا يبقى هناك سرّ هارب من المعرفة، أو بعيدٌ عن المسؤولية، بل يقف الإنسان هناك، في يوم القيامة، عارياً من كل ثيابه، ومن كل أسراره، ومن كل عناصر قوّته، وهذا ما يريد القرآن من الإنسان أن يتمثله في وعيه المسؤول، فلا يشعر بالحماية الطبيعية لأسراره السيّئة التي يملك أمر كتمانها، بل يفكر بأن الله سوف يظهرها على رؤوس الأشهاد، أو أنه المطّلع عليها في الدنيا والآخرة، فلا يأخذ حريته في تحريكها في حياته عصياناً وتمرّداً على الله في المناطق الخفية من واقعه العملي، ليدفعه ذلك إلى الدقّة في أعماله، حتى لا تكون بعيدة عن خط المسؤولية التي يواجهها غداً بين يدي الله.

{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} لأنه لا يملك أيّة قوّةٍ ذاتيةٍ مستقلةٍ، كما لا يملكها غيره، لأن القوّة لله جميعاً. فكيف يفكر في ذلك اليوم أن يحرّك هذه القوّة للدفاع عن نفسه، في مقابل قوّة الله؟

ـــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:290.