تفسير القرآن
الطارق / من الآية 11 إلى الآية 17

 من الآية 11 الى الآية 17
 

الآيــات

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً* فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}(11ـ17).

* * *

معاني المفردات

{الرَّجْعِ}: المطر، لأنه يجيء ويرجع ويتكرر.

{الصَّدْعِ}: الشّقّ.

{فَصْلٌ}: الفصل: إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة.

{أَمْهِلْهُمْ}: التمهيل والإمهال بمعنى واحد، غير أن باب التفعيل يفيد التدريج، والإفعال يفيد الدفعة.

{رُوَيْداً}: قليلاً.

* * *

القرآن هو القول الفصل

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} صحيح أن الرجع قد يراد به لغة ـ كما تقدم ـ المطر، إلا أنه قد يعمم لينتحل كل الظواهر السماوية المتكررة البادية للحس أو للعيان، كما في طلوع الكواكب وغروبها ونحو ذلك. {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} وهو الشق، ولعلّ المراد به النبات عندما تنشق الأرض عنه، وأمثاله. وربما كان في القسم بهذين المخلوقين العظيمين من الظواهر البارزة فيهما، بعض الإيحاء برجوع الإنسان إلى الحياة بعد الموت، وانشقاق الأرض عنه وخروجه منها إلى الحساب يوم القيامة.

{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} هذا القرآن الذي يقرّر حقيقة الآخرة في ما توحي به من البعث بعد الموت، هو الحقيقة الحاسمة، لأنّ الله أنزله ليعرف الناس حقيقة الوجود في عالم الغيب وفي عالم الشهود، {وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ} لأن الله لا يهزل، بل هو الجدّ كل الجدّ في كلامه وأفعاله. وربما كان المراد به المضمون نفسه المتعلق بالمعاد، من دون توسيط القرآن في دلالته عليه.

* * *

إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً

{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} هؤلاء المشركون الذين يتحركون بكل وسائلهم الخبيثة المتعدّدة، ليخطّطوا الخطط، وليبتدعوا الحيل، ليكيدوا لك ـ يا محمد ـ وللمؤمنين معك، من أجل أن يسقطوا الرسالة بإسقاط موقفك وموقف المؤمنين، فلا تخف منهم، ولا تسقط أمامهم، فإنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليك بسوء، لأنهم لا يملكون الامتداد بهذا الكيد، فهم لا يملكون شيئاً من القوة المستقلة، {وَأَكِيدُ كَيْداً} فأنا الرّبّ القادر القاهر الذي يملك أمر الحياة والموت، وأمر النفع والضرر، ويعلم سرّهم وعلانيتهم، ويعلم حقيقة الأشياء الخفية التي يستخدمونها ضدّك، مما يعلمونه، كما يعلم الخفايا التي لا يعلمونها. فأنا الذي أكيد لهم، فأبطل كيدهم وتآمرهم، وأخطط الخطط للنبي وللمؤمنين في الوصول إلى النتائج الكبيرة التي تحقّق لهم النصر النهائي.

{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي انتظر بهم ـ يا محمد ـ ولا تعجل عليهم، فقد يحتاج الأمر إلى أن يطرحوا كل ما عندهم، وأن يتحرّكوا في خط المواجهة معك، وأن يثيروا الغبار في وجهك، وأن يأخذوا بأسباب القوّة التي يملكونها في مواجهتك، وأن ينالوا من المؤمنين موقفاً. وقد يحتاج المؤمنون أن يعيشوا تجربة الصراع ليتألّموا في مواقع الإيمان، وليضطهدوا في مواقف الدعوة، وليعانوا الكثير من الآلام في خطّ التحدّي الكبير، لتتعمق تجربتهم، وتتصلّب مواقفهم، ويكبر موقعهم، وتتّسع ذهنيتهم، من أجل أن ينتفعوا بذلك في تجربة الحركة المستقبلية في خط الدعوة والجهاد، لأن المؤمنين إذا لم يعيشوا التجربة القاسية في مواقع الصراع، فلن يستطيعوا أن يملكوا النتائج الكبيرة في ساحات الانتصار.

وهكذا أراد الله من رسوله أن يستوعب طبيعة المرحلة، ليكون انتظاره انتظار الخطة لا انتظار العجز، وليعرف أن الله قادرٌ على أن يعجل عليهم لو أراد النبي ذلك في ما يملك من الدرجة الرفيعة عنده. لكنَّ الله أراد له أن يتمهّل وقتاً قريباً، ليستكمل تجربته في الدعوة، ومتابعته لخطط الأعداء التي يكشفها الله له، وليثق بأن كيد الله فوق كيد الكائدين، وإرادته فوق بغي الكافرين.

* * *

من وحي الآيات

وقد نستوحي من ذلك، أنّ الدعاة إلى الإسلام والعاملين في سبيله، لا بدّ لهم من أن لا يتعبوا من خلال طول الزمن وامتداد المرحلة التي يتحرّكون فيها، وأن لا يتعقّدوا من المؤامرات المتنوّعة التي يدبّرها الكافرون ضدّهم بوسائلهم المختلفة، وأن لا يستعجلوا النجاح قبل توفّر شروطه الموضوعية، لأن طبيعة التعقيدات السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الاقتصادية قد تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ للحلّ من خلال الظروف الموضوعية المعقدة الخاضعة لأوضاع الزمان والمكان والأشخاص ونحو ذلك.

وعلى ضوء ذلك، فقد يكون من الضروريّ لهم أن يدخلوا في الحسابات الدقيقة للمواقف، وأن يدرسوا طبيعة خلفيات الكيد الاستكباري وظروفه وأوضاعه، وأن يتابعوا تطورات الساحة الإسلامية ومشاكلها ومواقفها، وأن يثقوا بالله في نصره للمؤمنين إذا أخذوا بأسباب النصر وتوكلوا على الله في ما لا يملكون أمره، لأِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً، فعليهم أن يأخذوا بتقدير الله للأمور، في ما تعبر عنه السنن الكونية للمجتمع وللحياة، ويضعوا في وعيهم أن الكافرين إذا كانوا {يَكِيدُونَ كَيْداً}، فإن الله يكيد لهم كيداً مماثلاً أو أعظم منه بما يبطل خططهم، ويهزم جمعهم، ويجعل الخير للمؤمنين في كل حال.