المقدمة + من الآية 1 الى الآية 16
سورة الغاشية
مكية، وآياتها ستّ وعشرون آية
في أجواء السورة
وهذه سورةٌ مكيةٌ تطوف بالإنسان في حديث يوم القيامة الذي يعبر عنه بالغاشية، التي تثير الناس بأهوالها وتغشاهم حتى يكادوا لا يرون شيئاً من شدة الهول في الموقف. وتتحدث عن الناس الذين يبدو مصيرهم في ملامح وجوههم، فهناك وجوهٌ خاشعةٌ توحي بالذل في خشوعها الذي لا يملك أفقاً يرتفع بصرها إليه، ومصيرها إلى النار التي تصلاها وتسقى فيها من عين شديدة الحرارة، وتأكل فيها طعاماً لا غذاء فيه، فلا يسمن ولا يغني من جوع. وهناك وجوه «ناعمة»، توحي بالسعادة والرضى والطمأنينة من خلال سعيها، ومصيرها الجنة العالية التي لا تسمع فيها إلا الكلام النافع للقلب وللروح، وتجري فيها العين التي تفيض بالماء العذب، وتجد فيها السرر المرفوعة التي يجلسون وينامون عليها، والأكواب الموضوعة المصفوفة الجاهزة للشراب متى أحسوا بالحاجة إليه، والوسائد التي يتّكئون عليها، والبسط الفاخرة التي يجلسون عليها، في ما يمثل ذلك كله من توفّر الأشياء التي توحي بالنعيم.
ثم توجه الجاحدين للتطلّع إلى خلق الله في الإبل كيف خلقت، وفي السماء كيف رفعت، وفي الجبال كيف نصبت، وفي الأرض كيف سطحت، ليفكروا في ذلك كله، وليتعرفوا من خلاله على عظمة الله المودعة في هذه الموجودات التي هي من خلقه. ثم يلتفت إلى النبي(ص) ليطلب منه أن يذكّرهم بالله وبكتابه وباليوم الآخر، لأن دوره ـ كرسولٍ ـ هو هذا الدور، فليس مسيطراً عليهم، وسينفتح عليه الناس، إلا المعرضين عن الدعوة الكافرين بها الذين سوف ينالون العذاب الأكبر في جهنم، فسيرجعون إلى الله وسيحاسبهم على كل مواقفهم الرافضة للإيمان.
وفي ضوء ذلك، تكون هذه السورة حركةً في إثارة الوعي التي تهز القلب لتدفع به إلى التأمل، والتطلّع إلى مسألة المصير في العالم الواسع الغامض بطبيعته الغيبيّة، الواضح بنتائجه الحاسمة، ليتذكّروا أنهم مهما طوّفوا بالدنيا، وأعرضوا عن نداء الله، فسيرجعون إليه ليحاسبهم على كل أعمالهم، فعليهم أن يراقبوا الموقف الصعب بجدّيةٍ ومسؤولية.
ــــــــــــــــــــ
الآيــات
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ* عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ* تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ* لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ* لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً* فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ* فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ* وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ* وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (1ـ16).
* * *
معاني المفردات
{الْغَاشِيَةِ}: يوم القيامة، سمّيت بذلك لأنها تغشى الناس وتحيط بهم.
{نَّاصِبَةٌ}: نصب الرجل ينصب نصباً، إذا تعب في العمل.
{آنِيَةٍ}: الآنية: البالغة النهاية في شدّة الحرّ.
{ضَرِيعٍ}: نبت تأكله الإبل يضرّ ولا ينفع، وإنما سمّي ضريعاً لأنه يشبه عليها أمره، فتظنه كغيره من النبت.
{نَّاعِمَةٌ}: منعّمة.
{لاغِيَةً}: اللغو من الكلام ما لا يعتدّ به.
{وَنَمَارِقُ}: وسائد.
{وَزَرَابِيُّ}: بسط فاخرة.
{مَبْثُوثَةٌ}: مبسوطة ومنشورة.
* * *
حديث الغاشية
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وهي القيامة التي تفنّن التعبير القرآني عنها، للإيحاء بالأجواء التي تنطلق في مشاهدها وأهوالها وصدماتها الواقعية، ليواجهها القلب البشري، من خلال ذلك، بالخوف الشعوري الذي يدفع إلى المزيد من التفكير ومن التركيز، للوصول إلى مسألة الإيمان والانتماء إليه بكل قوّةٍ. ولعل التعبير عنها بالغاشية من خلال أنها تفرض نفسها على واقع الناس هناك، فتغشاهم وتحيط بهم، كما يحيط الغشاء بالموقع كله، أو لأنّ أهوالها الشديدة تغشاهم فتحول بينهم وبين الرؤية في شدّة تأثيرها عليهم، فتبدو للعيون كالدخان الذي يحجب الأفق بكثافته..
وإذا كان الخطاب للنبي(ص) كما يروى أنه مرّ على امرأة تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني»، فإنه ليس مختصاً به بالمضمون، بل هو شاملٌ لكل الناس الذين يبلّغهم النبي ذلك، فيأتيهم كل ما يأتيه، ويخاطبهم بكل ما يخاطبه به، لأن المضمون لا يتوجه إليه كرسول، بل كإنسان مسؤولٍ، لا بد من أن يتحمل مسؤولية نفسه من خلال القناعة الفكرية الباحثة عن الحق أينما كان.
* * *
صورة الأشقياء يوم القيامة
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} وتلك هي وجوه الأشقياء الذين رفضوا مواقف الخشوع لله في الدنيا، فلم يستغرقوا في مواقع عظمته، ولم يعيشوا روحية العبودية في الابتهال إليه، والصلاة بين يديه، والانفتاح على آفاق رحمته في مواقف رضاه، بل استكبروا وعاندوا وتمردوا على رسوله وكتابه، فجاءت الغاشية، التي أطبقت عليهم من كل جانب، فلا يجدون، الآن، مجالاً للفرار ولا للخلاص، ليعيشوا الخشوع في أجواء الذلّ والانكسار عندما يواجهون المصير المظلم في حاضرهم الذي تنتظره جهنم لتحتويهم في داخلها.
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} في ما توحي به كلمة العاملة من الجهد القاسي المرهق للأجساد الذي بذله هؤلاء في الدنيا، وكلمة الناصبة التي تدل على التعب والإرهاق، فقد عملوا وتعبوا وعاشوا الإرهاق الجسدي، فلم ينالوا من نتائجه المرضية، لأنهم لم يعملوا لله، بل عملوا لغيره. ولهذا، فإن ملامح وجوههم في يوم القيامة هي ملامح الوجوه التي أرهقها العمل وآذاها النصب، فلا تنبض بأيّة حيويّة، ولا توحي بأيّ إشراق.
{تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} فتلفحها بلهيبها الذي يغشاها ليحوّلها إلى لون السواد..
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}أي حارة بالغة الحرارة، لتزيدهم ظمأً كلما حاولوا التبرد بها. {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قيل: «الضريع نوع من الشوك يقال له الشبرق، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، وهو أخبث طعام وأبشعه لا ترعاه دابة، ولعل تسمية ما في النار به لمجرد المشابهة شكلاً وخاصّةً»[1].
{لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} لأنه لا يملك العناصر الغذائية اللازمة في إشباع أجهزة الجسم في ما تحتاجه من الغذاء، بل يدفع إلى الشعور بالجوع كلما أكله الآكلون.
إنها الصورة القاسية الشديدة للحياة التي يحياها هؤلاء في النار، مما لا ندرك واقعه، ولكننا نستوحي صعوبته وقساوته وشدّة تأثيره على الإنسان هناك.
* * *
راحة الأتقياء وسعادتهم يوم القيامة
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} رضيّةٌ نضرةٌ في ما توحي به النعومة من البهجة والراحة والسعادة، فليس هناك همٌّ يثقل ملامحها بالأذى، وليس هناك خوفٌ ينال انبساطها وإشراقها بالإرهاق، وهي وجوه المؤمنين الأتقياء السعداء.
{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} حيث يفيض الرضى منها لأنها تجد ما عملته من خيرٍ وتقوى في الدنيا، في ما تحصل عليه الآن ـ من رضى الله ـ فترضى به وتطمئن له، وتحس بالراحة النفسية التي تنعكس على ملامحها روحاً وسروراً، فها هم يتطلعون إلى النتائج الطيبة لأعمالهم ليرتاحوا بعد الجهد الكبير الذي عانوا منه في الدنيا، وبعد الآلام الكثيرة التي عاشوها وصبروا عليها هناك.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} في ما يدل عليه العلوّ من ارتفاع الدرجة وعلوّ المقام الذي يطرد عنهم كل ذكريات الواقع الطبقي الذي كان ينظر إليهم نظرة الاستعلاء، ويعاملهم من مواقع الاستكبار، ليضعهم في الدرجة السفلى من السلم الاجتماعي للطبقات، فكان المستكبرون في الدرجة العليا، وكان المستضعفون المؤمنون البائسون في الدرجة المنحطّة على مستوى الحقوق التي لا يملكون منها إلا القليل، وعلى مستوى المسؤوليات التي تثقل حياتهم بالأعباء والتكاليف لمصلحة المستكبرين. وقد تبدّلت المواقع الآن، ولكن لا من خلال العقدة المستحكمة التي كانت تحكم الواقع المستكبر، بل من خلال العمل ونتائجه.
{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} فهناك تعيش الجوّ الرضيّ الهادىء الوديع الجدّي، الذي يحمل الناس فيه مسؤولية الحفاظ على المعاني الروحية السابحة في رحاب القداسة في جنة الله التي أعدّها لتكون المجتمع الطاهر المنفتح على الخير كله، والنفع كله، فلا مجال فيه لأيّة كلمة لغوٍ، سواء كان ذلك في نطاق الكلمات الصادرة عن حالة الانفعال، في ما يمكن أن يسيء إلى الناس، مما يجرح الذوق والكرامة، أو كان في نطاق الكلمات الجوفاء التي لا تحمل أيّ معنًى نافعٍ أو أيّة فكرةٍ مفيدةٍ جادّةٍ، تماماً كما هي التفاهات والنفايات.. وهكذا يعيش مجتمع الجنة روحية المضمون الحيّ المتحرك في مواقع رضى الله، ليزدادوا مع كل كلمةٍ فكراً نافعاً وروحاً طيبةً جديدةً.. ويأتي الحديث عن النعم الحسية التي توحي بالحالة الروحية الناتجة منها، في مقابل العذاب الحسي الذي يعانيه الكافرون في ما يوحي به من الحالة النفسية الصعبة التي تمثل عذاباً جديداً بالإضافة إلى العذاب المادي.
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} تثير في الجوّ الكثير من المتعة واللذة الروحية والجمال، فهي تمثل الينبوع المتدفق الذي يخرج من الأرض، ويتدفق ويجري لينشر فيها الخصب والنضرة والخضرة والجمال، وهي تثير الجو البارد الوديع الذي يجعل أهل الجنة ينتشرون في ظلاله على ضفاف هذه العين، وفي امتداد جريانها، لينعموا باللقاءات الحلوة اللذيذة البديعة التي يجتمع إليها الناس عند ضفاف الينابيع.
{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} فلا تنالها الأيدي، فتبقى في جدّتها ونظافتها، ليكون الإنسان الذي ينام أو يستلقي أو يجلس عليها هو أوّل إنسان يلمسها.
{وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} في حالة إعدادٍ سريعٍ لتناولها من قِبَل المؤمنين الشاربين فيها. {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} وهي الوسائد والحشايا للاتّكاء في راحة واسترخاءٍ {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وهي البُسط ـ جمع بساط ـ ذات الخمل ـ السجاجيد ـ مبثوثة هنا وهناك للزينة وللمتعة وللجلوس عليها.
وربما كان الحديث عن هذه الأشياء التي تمثل عناصر الأوضاع المريحة السعيدة الاسترخائية، منطلقاً من الجوّ الذي يعيشه الناس في مجتمع الدعوة الأوّل، حيث تلتقي معاني الراحة والاسترخاء في مثل هذه الأوضاع، بأحاسيس اللذة والحلاوة والمتاع في مجتمع أهل الجنة، في ما يثيره ذلك من خيالات حلوةٍ، وأحلام لذيذة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:309.
تفسير القرآن