تفسير القرآن
الفجر / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 14

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 14
 

سورة الفجر
مكية، وآياتها ثلاثون

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية، تطلُّ على آفاقٍ متنوعةٍ يَطوف فيها القلب البشري في أجواء النداوة والروعة الكونية، في القسم بالفجر والليالي العشر التي اختلف الناس في المراد منها، والشفع والوتر اللتين قد يراد بهما الصلاة الليلية المسماة باسمهما، وبالليل الذي يسير في أجواء الكون ليبسط على الأفق ظلامه المزركش بنقط النور المطلّة على كل حبات الظلام، ليخشع الخاشعون فيه، وليبتهل المصلون في هدوئه، ثم تُوجه الفكر إلى التاريخ، تاريخ الطغاة، عادٍ وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد من خلال القدرات التي يملكونها، في ما حرّكوه منها في طريق الطغيان والشر، فأكثروا فيها الفساد، فلم يمهلهم الله كثيراً، بل أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، وصب عليهم العذاب بسياطه الجهنمية، فهو بالمرصاد لكل طاغيةٍ ومفسدٍ في الأرض، مهما كان قوياً، أو مسيطراً.

ثم انطلقت في أجواء المفاهيم الإنسانية في ما يستوحيه الإنسان خطأً من المواقع التي يعيشها في مفردات حياته، فقد يوسع الله على الإنسان في الرزق، ليختبره هل يشكر أو يكفر، فيظن الإنسان أن ذلك يمثل كرامة له من الله، وقد يضيّق الله عليه ليختبره، هل يكفر أو يصبر، فيظن أن ذلك يمثل إهانةً وتحقيراً من الله له، فيؤكد القرآن الحقيقة الموضوعية في حياة هؤلاء الناس الذين نزل القرآن في مجتمعهم، وهي، أنهم يختزنون في نفوسهم حب المال بالمستوى الذي يجعلهم يحصلون على ما لا حق لهم فيه، فيجمعونه من حلّه وحرامه، ويمتنعون عن إكرام اليتيم، وعن الحضِّ على طعام المسكين، ثم ينفتح الأفق على مشارف الآخرة، حيث تدكّ الأرض وتعيش الزلزال المدمّر، وتتجلى القيامة في جلال الله الذي يسيطر عليها، وفي إشراف الملائكة المتحركين صفاً صفاً بأمر الله، في خشوع العبودية المنتظرة لإرادته في ما يصنعون، وفي جهنم التي تكاد تكون موقعاً قريباً من الناس، بحيث تقترب منهم حتى يشاهدوها، وفي هذه اللحظة، تهب الذكرى كريحٍ عاصفةٍ تهزّ الإنسان في وجدانه، فينفتح له باب الحقيقة على مصراعيه، ويبدأ في استثارة الحسرة في نفسه، ليتمنى أن يكون قد قدّم لحياته الأخروية شيئاً في ما مضى من حياته الدنيوية، ولكن لا فائدة، فقد كفر من دون حجةٍ، وعاش الغفلة في مواقع التذكر، ولذلك فسوف يعذب عذاباً لم يعذب أحدٌ مثله، وسيوثق وثاقاً لم يوثق أحدٌ مثله.

ويبقى للنفس المطمئنة التي أقبلت على الله واطمأنّت لموقعها عنده، فعاشت الإيمان به، والعمل الصالح في خطّ رضوانه، أن يناديها الله بأن ترجع إليه في دار قدسه راضيةً عن ربها مرضيةً عنده، ليدعوها إلى الدخول في عباده الذين اختصهم برحمته، وإلى الدخول في جنته التي هي موقع رضاه.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}     (1ـ14).

* * *

معاني المفردات

{وَالْفَجْرِ}: الصبح.

{وَالشَّفْعِ}: الزوج.

{وَالْوَتْرِ}: الفرد.

{لِّذِي حِجْرٍ}: لذي عقل ولبّ.

{إِرَمَ}: اسم مدينة.

{الْعِمَادِ}: ما تعتمد عليه الأبنية.

{جَابُواْ}: الجوب: القطع.

{لَبِالْمِرْصَادِ}: المرصاد: الطريق، المكان الذي يرصد منه ويرقب.

* * *

القَسَم بالأزمنة.. وعمق الطهارة الروحية

{وَالْفَجْرِ} أقسم بالفجر، هذا الزمن الخارج من قلب الليل، الذي يلتقط حبّات النور التي تنثرها الشمس من بعيد، لتذكر الكون بأن هناك، في حركة الشروق في شعاعها، ميلاد يوم جديد. إنه الزمن الذي يتنفس فيه الكون لهاث الليل وشهيق النهار، ليبدأ الإنسان صلاته لله، ليطهِّر بها قلبه وروحه وضميره، وليعدّ نفسه للمسؤوليات الكبار التي تنتظره في مواعيد الشروق أي النهار، ليكون زمن التخطيط للحركة والاندفاع نحو العمل.

{وَلَيالٍ عَشْرٍ} هذه الليالي التي تأخذ قيمتها من خلال الرعاية التشريعية الرسولية المنطلقة من وحي الله، لتجعل منها أزمنةً تحمل معنى الطهارة، وترتفع فيها العبادة، وتخشع فيها النفوس، وتصعد فيها الأعمال، وتوحي بعمقٍ روحيٍّ مميَّزٍ، فلا خصوصية لها في ذاتها، ولكن في ما منحها الله من عنايته، ومن موقع القرب فيها إليه، ولكن أين هي؟ قيل: إن المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها، وقيل: المراد بها الليالي العشر من أول المحرم، وقيل: المراد بها عبادة ليالٍ عشر على تقدير أن يراد من الفجر صلاة الفجر.

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قيل: إن المراد بهما صلاتا الشفع والوتر في آخر الليل، وقيل: مطلق الصلاة، ففيها شفع وفيها وتر، وهناك أقوالٌ أخر.

{وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ} تماماً كما هو المخلوق الحيّ المتحرك بإرادةٍ واختيار ليبسط ظلّه على الكون، فيطبع الفضاء ظلاماً، والأرض ظلاماً، وليتجول في كل مواقع الكون ساهراً في انتظار النهاية في آفاق بدايات الفجر.

* * *

وجوب الاعتبار بمن مضى

{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} أي لذي لبٍّ وعقل، يفكر جيّداً بكل الأمور التي تطرح عليه ليميز الحق من الباطل، وليؤكد الفكرة الثابتة التي يؤكدها الله بقسمه، لأنها تمثل الحقيقة الحاسمة، وهي أن الله لن يترك الطغيان وأهله في سلامٍ على الأرض، ولكنه يعذبهم ويزلزل قواعدهم بعذابه بطريقته الخاصة، وأنه يختبر عباده بالغنى والفقر، ليميز الشاكر من الكافر، والصابر من الجازع، وليعطي لكل ذي حق ثوابه، ولكل ذي باطلٍ عقابه.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وهم قوم هود الذين يمثِّلون القوّة الجبارة في التاريخ القديم، وكان مسكنهم في الأحقافِ، وهي كثبان الرمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن.

{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبلادِ} فقد كانت مدينةً لا نظير لها ذات قصور عاليةٍ وعمد ممدّدة، ولا نعرف من هؤلاء الجماعة ومن تاريخهم شيئاً ذا بال، إلا ما قصه القرآن علينا من أنهم كانوا ذوي بسطةٍ في الخلق أولي قوّةٍ وبطشٍ شديد، وكان لهم تقدّمٌ ورُقيٌّ في المدنية والحضارة، ولهم بلادٌ عامرةٌ وأراضٍ خصبة ذات جنّاتٍ ونخيل وزروع ومقامٍ كريم.

وقد اختلقت قصة جنة إرم المشهورة المروية عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه، مما لم يثبت له أساس في الروايات الإسلامية الصحيحة.

{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوا الصخر من الجبال، وشيدوا منها القصور، كما جاء في قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء:149].

وقيل: إن ثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وكانوا أولي قوّةٍ وبطشٍ شديدٍ.

{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ} وهو ـ على الظاهر ـ صاحب موسى(ع)، وقد قيل: إن إطلاق هذا اللقب عليه، «لأنه كان إذا أراد أن يعذب رجلاً بسطه على الأرض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الأرض، وربما بسطه على خشبٍ وفعل به ذلك، ويؤيده ما حكاه الله من قوله، يهدد السحرة إذا آمنوا بموسى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]. فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصليب»[1].

واحتمل سيد قطب في تفسيره، في ظلال القرآن، أن الأرجح، أنها «الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان»[2]؛ والله العالم.

* * *

الطغاة أساس الفساد الفكري والعملي

{الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبلادِ} وتجاوزوا الحدّ في الإساءة إلى الناس بمختلف الوسائل التي أثقلت كاهلهم بكلّ بغيٍ وطغيانٍ، مستغلّين قوتهم وضعف الناس، للضغط على حياتهم، واستغلال مواردهم، وفرض إرادتهم عليهم بالتعسف والقسوة. {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ} لأنهم لم ينطلقوا، في علاقتهم بالناس، من قانون عادل يخضع له الجميع، لينظّم لهم حياتهم، ويرعى موازين العدل في خلافاتهم، ويضع الحدود لهم حتى يعرفوا حدود أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم، فإذا تجاوزوها كان هناك أساسٌ شرعيٌّ للعقاب، لإرجاع المتجاوزين إلى الحدود المرسومة والضوابط المعلومة، بل انطلقوا في علاقتهم بهم من خلال تأليه الذات المتحركة من شريعة الاستكبار القائمة على القوّة، المنطلقة من الهوى، الخاضعة للعقدة المستحكمة في شخصية هذا أو ذاك من هؤلاء الطغاة المستكبرين، ممّا لا يجعل هناك أيّة ضابطةٍ لتصرفاتهم في الحكم والتشريع والإدارة والاقتصاد والحرب والسلم. فكلمات الطاغية هي القانون، ونزواته هي حيثيات الحكم، ومصالحه هي الأسس التي يخضع لها الاقتصاد، وغضبه ورضاه هما القاعدتان اللتان تحكمان الحرب والسلم، وبهذا يتحرك الطغيان من موقع اللاّقاعدة في ما هو مضمون الحركة في الحياة..

ثم لا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فإن الطغاة يعملون على تغيير المفاهيم والقيم والقوانين لمصلحة طغيانهم، من أجل أن يغيّروا الذهنية العامة للتحوّل إلى رأيٍ عامٍّ لمصلحة النتائج السلبية التي يريدون لها أن تحرّك قضايا الواقع في مواجهة مسألة الحرية، التي تنطلق ثورتها في حركة الجماهير الغاضبة، ليقوموا بتدميرها، والناس تصفق لهم، والهتافات تلهج بأسمائهم. وهكذا يعملون على تحويل القانون العام والقيم الكبيرة التي يصوغونها على طريقتهم، إلى أداة قمعٍ لكلّ مَنْ يواجه ذلك، فيكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وهكذا، حتى يتحول الفساد واقعاً حيّاً في حياة الناس، ولكن في صورةٍ أخرى، كما لو كان بعنوان الصلاح، وهذا ما عبّرت عنه الآيتان الكريمتان في الحديث عن المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11ـ12].

* * *

كيف نستوحي النظرية في الواقع؟

وعلى ضوء ذلك كله، فإننا نستطيع استيحاء النظرية الإسلامية في الدائرة الاجتماعية والسياسية، وهي أن الطغيان في القوى الحاكمة والنافذة في واقع الأمة، يستلزم الفساد في كل جوانبها ومواقعها، حتى يُفسد المستضعفين الذين ينالهم طغيان الطغاة في عملية التعسف والظلم والقسوة، من خلال إفساد المجتمع كله. وإذا انتشر الفساد في المجتمع من خلال طغيان الطغاة، فإن الإرادة الإلهية تتدخل في عملية إنهاء الطغيان أو تخفيفه، أو إفساح المجال للقضاء على رموزه، ليتنفس المجتمع فترةً من الزمن، بحيث يمكن للمصلحين أن ينفذوا إلى بعض ثغراته، ليدخلوا ـ من خلالها ـ إلى الساحات الواسعة التي يمكن لهم أن يغيّروا فيها الكثير أو القليل من قضاياها. وهذا ما نراه في كل فترات التاريخ التي سيطر فيها الطغيان، فإن السنن الكونية الإلهية في حياة الناس تفرض إيجاد الظروف المتنوعة والتحركات المختلفة لتغيير حالة الثبات التي تحكم واقع الطغيان للعمل على خلخلة قواعده وإسقاط رموزه وهزّ مواقعه، لتستمر حركة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل بشكل متوازن، ولتبقى للقوى المستضعفة الإمكانات الذاتية للوقوف في مواجهة المستكبرين بالوسائل الطبيعية الممكنة. وربما تتدخل القدرة الإلهية بصورة المعجزة، كما حدثنا القرآن الكريم عن هذه الفئة الطاغية وهي عاد وثمود وفرعون.

* * *

بين الطغيان والعذاب

{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فأفاض عليهم عذابه، كما لو كان فيضاناً يغمرهم بكل مياهه الحارة اللاهبة، ويلهب ظهورهم وكيانهم كمثل السوط الذي يهوي على الأجساد فيلذعها بما يثيره من الآلام القاسية الصارخة، وذلك بمختلف ألوان العذاب التي قضت عليهم أجمعين، فلم تبق منهم باقية.

وينطلق التاريخ بعدهم ليبدأ مرحلة جديدةً في فكرٍ جديد، وصراع جديد.

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فهو المهيمن على الواقع كله، وعلى الأمر كله، والراصد لكل أعمال الطغاة وأوضاعهم. وستبقى مسألة الطغيان تفرض نفسها على الواقع المتجدد، وستبقى إرادة الله تلاحق كل الطغاة لتنزل عليهم العذاب بشكلٍ مباشرٍ، في ما يخلقه الله من وسائل العذاب، أو بشكلٍ غير مباشرٍ، في ما يتحرك به المستضعفون بوسائلهم الخاصة، ليعملوا على القضاء عليهم أو إضعافهم.

وهكذا يقف الدعاة إلى الله، والمستضعفون في الأرض، لينفتحوا على الأمل الكبير، عندما تضيق بهم الحياة، وتشتد عليهم الضغوط، وتزحف نوازع اليأس إلى حياتهم، فإذا بالله في قدرته ورصده وإشرافه على أوضاع عباده، يوحي لهم بمتابعة طريق الدعوة والجهاد في سبيله والأخذ بأسباب الحرية، ليقول لهم: إني معكم، وليقول كل واحد لصاحبه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فيزدادون قوّةً وثباتاً واندفاعاً في حركة الصراع.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:20، ص:318.

(2) في ظلال القرآن، م:8، ج:30، ص:517.