تفسير القرآن
الفجر / من الآية 15 إلى الآية 20

 من الآية 15 الى الآية 20
 

الآيــات

{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي* وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي* كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً* وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [15ـ20].

* * *

معاني المفردات

{فَقَدَرَ}: فضيّق.

{تَحَاضُّونَ}: تحثّون.

{التُّرَاثَ}: الميراث.

{لَّمّاً}: اللمّ: أكل الإنسان نصيب نفسه وغيره.

{جَمّاً}: كثيراً.

* * *

موقف الإنسان من ابتلاء الله أو تكريمه

وإذا كان الله بالمرصاد لعباده، فلا بد لهم من أن يراقبوه ويدققوا جيّداً في كل الأوضاع التي تصيبهم في ما يصدر منه بشكل مباشر، أو بلحاظ السنن الكونية والاجتماعية، مما قد يكون تدريباً لهم على الدخول في التجربة الحيّة في دائرة مشاكل الحياة، كالفقر والغنى، والأمن والخوف، ليعرفوا أن عليهم أن لا يحكموا حكماً قطعياً حاسماً على طبيعة الظاهرة الواقعية في حياتهم في إيحاءاتها السلبية أو الإيجابية، فربما كانت اختباراً وامتحاناً لإيمانهم، في ما يمكن أن تؤدي إليه مواقفهم في نهاية المطاف. ولكن الإنسان لا يتصرف بهذه الطريقة، فيرتبط بالسطح ليحكم على أساسه، ولا يرتبط بالعمق، فيجعل قضاء الله في حياته مثل موازين الناس في أوضاعهم على مستوى حركة العلاقات وطبيعتها.

* * *

النعمة ليست دليل كرامة الله للإنسان

{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} فيرى النعمة في ما وسّع الله عليه من رزقه امتيازاً وكرامة، بحيث يشعر بالامتياز الذاتي في الرعاية الإلهية دون سائر الخلق، فيدفعه ذلك إلى الشعور بالكبرياء والعلوّ على الآخرين. ولكن الإنسان لا يتعمق في المسألة جيّداً، فإن الله قد أجرى الحياة، في عطائه للناس أو منعه عنهم، على السنن الكونية والاجتماعية، فلا يعطي إنساناً لكرامته عنده، ولا يمنعه لاحتقاره لديه، ولكن لاقتضاء تلك السنن ذلك. ولا بد له من ملاحظة أنَّ ذلك قد يكون اختباراً طبيعياً لصدقه في إيمانه، لأن الله أراد من الناس الثبات في كل مواقع الاهتزاز الواقعية، فلا تسقطهم الزلازل، ولا تطغيهم المواقع، لأن مسألة الإيمان ليست حالةً طارئةً تبرز في حالات الرخاء، أو في حالة الشدّة، ولأن مسألة الرجوع إلى الله والالتزام بالإخلاص لربوبيته ليست أمراً مربوطاً بوضعٍ معيّن، بل لا بد من أن يكون الإيمان بالله والإخلاص له في جميع حالات الإنسان، فقد يبتلي الله الإنسان بالغنى لينظر في عمله، هل يشكر نعمة الله، فيخشع قلبه له، ويشعر بأن ما عنده هو منه سبحانه، ويبذل ذلك في طاعته، ويحرِّكه في مواقع رضاه، أو يفكِّر بنعمة الله عليه فيعتبر ذلك كرامةً وامتيازاً، أو يوحي لنفسه بأنه قد حصل عليها من خلال جهده وخبرته، وليس لله دخلٌ في ذلك، كما حدثنا الله عن قارون في قوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ثم يستعلي بما ملكه على الناس ليواجههم من موقع الكبرياء المالي.

ولهذا، فلا بدّ للإنسان من اعتبار النعمة اختباراً وامتحاناً، لا كرامةً وامتيازاً.

* * *

الفقر ليس إهانةً من الله للفقير

{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه} أي ضيّق عليه رزقه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي}. وهذا هو نوع آخر من أنواع الواقع الصعب الذي يتحول بفعل مشاكله المرتبطة به ليكون اختباراً وامتحاناً، فقد يبتلي الله بعض عباده بالفقر لينظر في تصرّفه وانفعاله به، هل يصبر على ذلك، فلا يبيع دينه بمال الكافرين، ولا يغيّر مواقفه بإغراءات المستكبرين، ولا يسخط على قضاء الله، ولا يسقط أمام الأوضاع السلبية التي تتحداه، ليفقد صلته بربه أو يكفر، فيعتبر ذلك إهانة واحتقاراً من الله له، وينحرف عن الخط المستقيم على أساس ذلك، ثم يبتعد كثيراً عن الله، ليقترب من ساحة أعدائه؟

* * *

لا قيمة للمال في الخط الإلهي

{كَلاَّ} إنّ الله يرفض هذا المفهوم المنحرف الذي يعتبر المال قيمةً كبيرة في الخط الإلهي، كما هو قيمة في المفهوم الإنساني العام في المجتمعات الإنسانية، لأن الله قد أعطى المال للكافرين به، كما منع المال عن بعض أوليائه، ولم يرد للمال قيمةً ذاتيةً في طبيعته، بل اعتبر حركة الإنسان في الجانب العملي في مسؤوليته الشرعية الإيمانية في تحريك المال في موارده التي يحبها الله، وهي القيمة، لأن قرب الإنسان وبعده عن الله لا يتحدد بحجمه المالي، بل بحجمه العملي، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وهذا ما يريد للناس أن يتمثلوه في وعيهم ووجدانهم، ليكون هو الموقف الإسلامي الذي يمثّل مفهومه للمسألة المالية في حركة الواقع في الإسلام. ولكن المشكلة أن مفهومهم يبتعد عن هذا الخط في أوضاعهم العملية، في الوضع السلبي تجاه تصرف المال في الموارد التي يحبها الله، فيبخلون عن اليتيم، ولا يتواصون في إطعام المسكين.

* * *

الاستغراق في حب المال وترك عمل الخير

{بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} عندما يعطيكم الله المال الذي يأمركم أن تقدّموا لليتيم بعضاً منه، لأنكم تخافون على أنفسكم الفقر، ولا تفكرون أن الله الذي أمركم بالعطاء هو الذي يعوّض عليكم ما تبذلونه منه، {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} لأنكم تهملون الفئات المحرومة التي تعيش المسكنة الاقتصادية في أوضاعها الخاصة والعامة، باعتبار أن القضية لا تهمّكم، من خلال العقلية الذاتية الأنانية التي لا تفكر إلا بمشاكلها، ولا تهتم بمشاكل الفقراء الآخرين. فالمسألة المهمّة هي أن نشبع مع أولادنا، والمشكلة أن نجوع لنعمل على إيجاد الحل لذلك، وليست المسألة المهمة أن يشبع الآخرون مع أولادهم، وليست المشكلة أن يجوع المساكين لنفكر في إيجاد الحل لهم.

{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} واللمّ: أكل الإنسان نصيب نفسه وغيره، وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيّب من الخبيث. وقد كان هناك جماعة من الناس، في زمن نزول الآية، يستغلّون ضعف اليتامى، ولا سيّما الإناث منهم، لينهبوا أموالهم ويأكلوها من دون حقّ، فيأكل الكبير حصة أخيه اليتيم الصغير أو أخته اليتيمة الصغيرة، لأنهما لا يستطيعان الدفاع عن نفسيهما، من دون أن تمنعه عن ذلك رحمةٌ أو شفقةٌ، لأن استغراقه في المسألة المالية الذاتية قد جمَّد كل رحمةٍ لديه، وكل إنسانيةٍ عنده.

{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} أي كثيراً عظيماً، لأنكم تربيتم على الاستغراق في حب المال كجزءٍ من حب الدنيا التي استغرقتم فيها، وأخلدتم إلى الأرض في كل إيحاءاتها المادية، وربما تطور الأمر بكم إلى أكل أموال الناس بالباطل، وإلى جعل الربا أساساً لمعاملاتكم، وإلى التقاتل وسفك الدم الحرام للحصول على المال الحرام، وذلك من خلال النظر إلى المال على أساس أنه القيمة كل القيمة، والسعادة كل السعادة، والخير كل الخير، فلا قيمة أكبر منه، ولا سعادة أكثر من الحصول عليه، ولا خير إلا ما يمثله الحصول عليه من الخير.