من الآية 21 الى الآية 30
الآيــات
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكّاً دَكّاً* وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (21ـ30).
* * *
معاني المفردات
{دُكَّتِ}:الدك: هو الدق الشديد.
* * *
يوم يتذكّر الإنسان ولا تنفعه الذكرى
{كَلاَّ} ليس الأمر كما تحلمون وتتوهمون في ما تعيشونه من أحلام المال وأوهام الخيال، فهناك واقعٌ صعبٌ مرير ستواجهون ثقله وصعوبته في الموعد المحدد في يوم الفصل الذي تسبقه الأوضاع الكونية الجديدة التي تقلب الكون رأساً على عقب.
{إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} بحيث تتغير معالمها وتتحطم، فلا يبقى هناك شاخصٌ على سطحها، في انقلابٍ كونيّ شديدٍ يطلّ على أجواء القيامة.
{وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أمّا مجيء الله إلى أجواء القيامة كما يجيء الملك في الوضع المتجسد المحسوس، فهو أمرٌ غير متصوّر، لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولذلك فلا بد من حمله على أمر الله، أو هيمنته وإشرافه على الوضع كله، ما يجعل من حضوره الذي يوحي به المجيء حضوراً معنوياً، باعتبار أنه أقوى حضورٍ، فهو في عالم الغيب أعظم من كل موجودٍ في حضوره في عالم الحسّ..
ويقف الملائكة صفاً صفاً في وقفة استعداد لتلقّي أمر الله في ما يعهده إليهم من المهمّات في يوم القيامة.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّم} فقرّبت إلى الموقف لتقف متأهّبةً في استعداد الطاعة إلى الله وفي كل ما يأمرها به.
{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ} حقائق الأشياء، وتنكشف عنه حجب الغفلة، ويعلم أن ما قرره الله في كتبه، وما جاءت به الأنبياء في تعاليمها، هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي من أين له الذكرى، فوجودها كعدمه في هذا الموقف الذي {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} [الأنعام: 158]، لأنه لا يستطيع تدارك ما فاته من الفرص الكثيرة، ولا مجال الآن للتوبة وللعمل الصالح.
* * *
الحسرة على ما ضاع من العمر
{يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} هذه التي أعيش فيها هذا الجوّ الجديد الذي لن يرتفع بالإنسان إلا من خلال ما قدّمه من أعمال الخير التي تمثل رأس ماله في الآخرة، التي هي الحياة الحقيقية، لأنها الحياة الخالدة، بينما لا تمثل الدنيا إلا اللهو واللعب، كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
وتلك هي الحسرة التي يشعر بها الإنسان الذي ضيّع كل فرص الخير في الدنيا فتحولت إلى حسراتٍ يوم القيامة.
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ *وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} والضمير في «عذابه ووثاقه» عائدٌ إلى الله، فهو الرب العظيم الجبار القاهر فوق عباده، الذي يعذب العذاب الذي لا يساويه عذاب أيّ شخص في شدته، ويوثق الوثاق الذي لا يماثله وثاق أحدٍ في قوّته.
وهناك قراءة أخرى «لا يعذَّب» بفتح الذال «ولا يوثَق» بفتح الثاء، بالبناء للمفعول وضميرا «عذابه ووثاقه» ـ على هذا ـ للإنسان. ويكون المعنى هو الحديث عن حجم عذاب الإنسان ووثاقه، وبلوغه الحدّ الذي لا يبلغه حجم أيّ عذاب آخر أو وثاق آخر.
* * *
النفس المطمئنة
{يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} التي عاشت الطمأنينة الروحية، في انفتاحها الفكري الإيماني على آفاق الله في صفات الكمال والجمال، فتخلقت بأخلاقه، ووثقت به، واطمأنت إليه وإلى قضائه، والتزمت بطاعته، وأنابت إليه، فهي معه لا مع الناس، وعندما تكون معهم، فإنها تتحرك بالشعور الإيماني في محبة الله ورضاه، في ما يريده لها أن تكون علاقتها بهم قريبةً إلى رضوانه، لأنها ترضى برضى الله وتسخط بسخطه، فتوالي من والى الله وتعادي من عاداه.
وإذا واجهتها المشاكل والضغوط والآلام والأحزان والتحديات، فإنها تتلقّى ذلك كله بصبرٍ جميلٍ، وروحٍ رضيّةٍ، وأملٍ كبيرٍ بالله، وثقةٍ بما عنده، فلا تجزع، ولا تهلع، ولا تسقط ولا تهتز، لأن الاطمئنان الروحي الذي يغمر روحها وحياتها، يتحوّل إلى اطمئنانٍ عمليٍّ بالنتائج الإيجابية من خلال الموقف القويّ الهادىء الواثق بالله.
وهكذا يمنح الإيمان صاحبه روحية الطمأنينة للحاضر وللمستقبل، لأنه يثق بالتدبير الإلهي، والرعاية الربوبية للناس وللحياة، فكل شيءٍ عنده بمقدار، وهو الرحمن الرحيم العليم الحكيم الخبير، فلا يخاف الإنسان من أيّ اهتزاز أو انحرافٍ في النظام الكوني المتقن، الذي يضمن للإنسان مصلحته على الصعيد العام أو الخاص، فلا يريد الله بعباده شرّاً، بل قد يوقع بهم المصائب والبلايا، ليختبرهم وليمنحهم الفرصة لينالوا أعلى الدرجات. وإذا فكر الإنسان بالحياة وبالموت، فإنه يفكر بأنهما بيد الله، فهو الذي يحيي ويميت وإليه المرجع، الذي يجعل الإنسان هناك في أمن وسلامٍ، إذا كان من المؤمنين الصالحين الذين عاشوا في محبة الله وساروا في طريقه المستقيم. وينطلق هذا النداء، ليوحي للإنسان بكل معاني التكريم والمحبة، والقرب والعطف.
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} بعد كل هذا العناء الطويل، والبلاء الكبير، والآلام الكثيرة، والصبر الجميل، والعضّ على الجراح، والاستعلاء على الأحزان، والابتعاد عن كل انفعالات الغربة والوحشة في محيط الكفر والضلال، ليستقبلك الله بعطفه وحنانه ورحمته ورضوانه.
{رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} في هذه العلاقة الروحية بين العبد وربّه التي تحركت في مواقع الرضى، فهي راضيةٌ بما قضى وقدّر، وبما حكم وشرّع، لأنها ترى أنها ملك الله، وله أن يتصرف في ملكه بما يشاء، ويحكم بما يريد، وهي مرضيّةٌ عنده سبحانه، بما آمنت به، وبما قامت به من فروض الطاعة لديه، والعمل على الحصول على محبته، وبذلك عاشت السعادة والطمأنينة في حبها لله، وحبّ الله لها. وهذا هو ما تستهدفه التربية القرآنية الإسلامية، في أن يعمل الإنسان على تربية نفسه على الرضى بقضاء الله من موقع الوعي برحمته وعلمه وحكمه، وعلى السعي للحصول على رضاه في موقع الالتزام بطاعته في أوامره ونواهيه. {فادْخُلِي في عِبَادِي} المؤمنين الصالحين المقرّبين الذين اختارهم الله لنفسه ليكونوا جنده الغالبين، وحزبه المفلحين، وأولياءه المطيعين.
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} التي أعددتها لكلّ نفسٍ مطمئنةٍ إلى ربها، وإلى قدره وقضائه، وإلى طريقها المستقيم في خط رضاه، وإلى كل النتائج الطيبة التي تلتقيها هناك في مستقبل الزمن، حيث تواجه الموقف بالثقة والثبات والاستقامة والسلام الروحي الكبير.
وهكذا تكون الجنة نهاية المطاف للمؤمنين الصالحين المتقين، حيث يستسلمون للنعيم الهانىء السعيد الذي يعيشون في داخله الراحة من كلّ ذلك العناء الطويل، والجهاد الكبير الذي ذهب بكل ذكرياتهم وآلامهم، ليبقوا مع الله في رضوانه الذي يهيمن على أرواحهم المتعبة لطفاً ورحمةً وحناناً، فيزيدها راحةً واطمئناناً. وذلك هو الفوز العظيم.
تفسير القرآن