*من المفسِّرين من اعتبر باطن الآيات القرآنية وأهمل ظاهرها، ومنهم من اعتبر الظاهر مثلما اعتبر الباطن، ومنهم من اعتبر الظاهر وأهمل الباطن، فما هو رأيكم في ذلك؟
ـ في الواقع أنا لا أفهم كلمة الباطن، ما معنى الباطن؟ إنّ القرآن كلمات، وللكلمات معان، وللمعاني لوازم، وللمعاني إيحاءات، والقرآن نزل بأعلى أساليب اللغة العربية في بلاغته. لذلك فالقرآن لا يختزن عدّة معانٍ، بل إن اللفظ له عدة معان، ففي اللغة العربية هناك «المشترك اللفظي»، مثل كلمة «العين»، فهي موضوعة للذات، كما في قولنا عن الشخص «عين»، وموضوعة لينبوع الماء، فتقال «عين ماء»، وموضوعة للذهب، وموضوعة لأشياء أخرى، فلا يصحُّ لنا أن نستعمل المشترك في معنى، إلاّ إذا أقمنا قرينةً على هذا المعنى، وأمّا إذا استعملنا المشترك ولم نقم قرينةً عليه، فإنه يكون مجملاً، ولا يكون مفهوماً كليّاً.
إذاً، ليس هناك معانٍ عرضية. وأما المعاني الطولية، فتعني أن القرآن له معنى ثانٍ، أي أن الكلمة موضوعة لمعنيين، فمن أين جاء المعنى الثاني؟ هل هو معنى مجازي أو حقيقي؟ لذلك علينا أن نفهم معنى التفسير الباطني على أساس أن يكون هناك عدة معانٍ، بحيث يختزنها اللفظ في نفسه، وهذا ليس موجوداً، لا على أساس المعنى العرضي، ولا على أساس المعنى الطولي. ولكن عندنا شيء آخر في القرآن، وهو أن الكلمة كما تختزن معناها، تختزن إيحاءاتها، فمثلاً نلاحظ أن الإمام الباقر(ع) عندما يأتي إلى قوله تعالى فيما يروى عنه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة:32)، يقول(ع) بأن «تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى». فليس معنى ذلك أن كلمة الحياة هنا اختزنت؛ بحسب مدلولها اللفظي، معنى الهدى ليكون الموت هو الضلال، ولكن نستوحي من هذا، أنَّ الله جعل للحياة المادية هذه الشمولية، بحيث يكون إحياءً الإنسان إحياء للناس باعتبار مبدأ الحياة، فإنَّ الحياة المعنوية والحياة الروحية والحياة الفكرية، هي أعلى قيمةً من الحياة المادية، فننتقل من المادي إلى المعنوي، على أساس الانتقال من معنى إلى معنى. ومن الممكن جداً أن يكون للمعنى له عدة لوازم وإيحاءات، كما في الرواية عن الإمام الكاظم(ع) في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}(عبس:24-26). فالرّواية تقول {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي علمه، فلا يمكن إنّ تقول أنّ المراد من كلمة الطعام هنا هو العلم، لأن بعدها {أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا}(عبس:25)، ثم يتحدث عن الفواكه والخضرة، وكلّها لا دخل لها بالعلم، ذلك أن العلم حالة معنوية.
ولكن يمكن أن يكون هذا التفسير منطلقاً من أن الله يتحدّث عن أنّه امتنّ على عباده بالطعام المادي، وأنّ الطعام الروحي هو الذي يرتفع بالإنسان إلى أعلى المستويات، فنستوحي من ذلك أنّ تركيز الله هو على الطعام المادي لا الروحي.
ولذلك، فإنَّ التعبير الباطني إمّا أن يكون من قبيل الإيحاء، أو أنها من اللوازم. ولذا نقول إنّه ليس هناك باطن بمعنى أنّ القرآن يستبطن معاني كثيرة على خلاف المعنى اللغوي. نعم، إن القرآن يستبطن استيحاءات كثيرة، ويستبطن لوازم كثيرة، وعلى الإنسان أن لا يفهم القرآن فهماً حرفياً، بل أن يفهمه فهماً فنياً إبداعياً من خلال مستوى الأسلوب الذي يوحي بالكثير مما لا تحمله الكلمة في قاموسها، ومما لا يعطيه المعنى في حرفيته. ولذلك كان منهجنا في تفسيرنا (من وحي القرآن) أننا نستوحي القرآن للواقع، ونستوحيه لحركة الإسلام. ونحن قلنا مراراً، إن القرآن هو كتاب الحركة الإسلامية، فقد أنزله الله دفعات ليثبّت به المؤمنين، وليثبّت به فؤاد النبي(ص)، حتى يرافق كلِّ المشاكل التي عاشها المسلمون، ليوجّههم بشكل تدريجي. ولذلك لن يفهم القرآن الحرفيون، ولكن يفهمه الحركيون، ولا أقصد بالحركيين الحزبيين، ولكن أقصد بهم الذين يعيشون الإسلام حركةً في الإنسان وفي الواقع، وهم الذين يعيشون الحياة والإنسان، هؤلاء هم الذين يمكن أن يفهموا القرآن جيداً.