*كثيراً ما يحمل العلماء نصوصاً واضحة من القرآن والحديث على غير معناها الظاهري، أو يلجأون إلى تأويلها وتفسيرها بمعانٍ بعيدة عن دلالاتها الظاهرية، وإلى تأويل نصٍ عام، فهل هنالك حدود وضوابط لعملية تأويل النصوص وفهمها وتحديد مصاديقها؟ وهل هنالك حدود لاجتهاد العالم في فهم وتفسير نصٍ ما؟
ـ إنَّ النصوص التي بين أيدينا، سواء كانت نصوص الكتاب أو نصوص السنّة، هي نصوص جاءت على حسب قواعد اللغة العربية في دلالاتها، واللغة العربية تتحرك بين الحقيقة والمجاز، فالاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ فيما وضع له، والاستعمال المجازي هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له للمناسبة بينه وبين المعنى الموضوع له، ويذكر في المجاز الاستعارة، ويعيش بين الحقيقة والمجاز الكناية، فهناك قواعد للّغة العربية. وأعتقد أن قواعد اللغة العربية لا تتجمَّد عند ما بحثه الأقدمون، فهناك إبداعات جديدة في طريقة فهم النص وفي طريقة استيحائه، ولذلك لا يمكن أن نخضع فهم النص لحالات سريعة في الجانب الفكري، بل إنّ تأويل النص عندما يقوم لدينا الدليل العقلي الذي هو على مستوى الحقيقة باستحالة شيء، وقد يأتي النص القرآني ليظهر منه أنه يعبر عن هذا الشيء المستحيل كما لو كان الواقع، مثلاً: بالنسبة إلى رؤية الله عزَّ وجلّ، فهل يرى الله أو لا يرى؟
وهذه مسألة عقلية انطلق العلماء في البحث الفلسفي والكلامي عنها، في أنه يستحيل رؤية الله عزّ وجل، لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(الشورى:11)، فهو ليس جسداً حتى يرى، فكيف هو؟
ليست لدينا أيَّة وسائل نستطيع أن نعرف من خلالها حقيقة الله في ذلك. لذلك فالله ليس كمثله شيء {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(الأنعام:103)، ونلتقي مثلاً بآية تقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(القيامة:22-23). يعني تنظر إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا في أكثر من آية تتحدث عن الرؤية، فهنا في هذا المجال نقول: عندما قام الدليل العقلي القطعي على أنَّ الله يستحيل رؤيته، فهذه الاستحالة العقلية تكون قرينةً ودليلاً على أن المراد بعبارة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} معنى غير المعنى الظاهر، بمعنى أن يكون النظر إلى الله هو النظر إلى دلائل عظمته... وهكذا.
أو إنَّ الآيات التي تدلُّ على أن الله جسد، والدليل العقلي دلَّ على أن الله لا يمكن أن يكون جسماً، فعندما نجدُ أيضاً كلمة {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة:64)، و{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}(الفتح:10)، و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}(القصص:88)، فهنا نقول إنهُ لا بدَّ من أن نؤوّل ذلك على أساس أنَّ المراد من الوجه (الذات)، والمراد من اليدين وسيلتا العطاء، والمراد من اليد وسيلة القوة... وما إلى ذلك، فمثلاً عندما نأتي إلى الآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(البقرة:255)، فكلمة (كرسيّ) ظاهراً تعني المكان الذي يجلس عليه الإنسان، وهنا نستوحي من قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، أنه ليس المراد به الكرسي المادي، وإنما هو كناية عن استيعاب السلطة، لأن الكرسي هو مكان السلطة، لذا فالكرسي أو العرش ليس هو المكان الذي يجلس عليه الله، بل هو منطقة من المناطق التي تمثِّل أعلى موضع وأرفع مكان... وهكذا.
وأما إذا كان هناك نصٌ قرآني، وكان هناك في المقابل حديث يؤول هذا النص، بحيث يقول إنّ المقصود بهذا المعنى (كذا) غير المعنى الظاهر، فهنا نلاحظ أن هذا النص الذي جاءَ ليفسر القرآن بغير ظاهره، هل يستقيم مع قواعد اللّغة العربية أو لا يستقيم؟ هل يمكن أن يحتفظ القرآن ببلاغته مع هذا النص أو لا يحتفظ؟ لذلك فليس كل حديث، حتى لو كان صحيحاً، يأتي بتفسير للقرآن غير التفسير الظاهري نقبله، إلا إذا كان هذا التفسير يبقي التعبير القرآني، في مستوى البلاغة، لأن هذا التفسير عندما ينـزل بالنص القرآني عن مستواه البلاغيّ، فإن معنى ذلك أن القرآن يفقد بلاغته، ومن المفروض أن القرآن هو قمَّة الإعجاز في اللغة العربية. ولذلك، لا بدَّ من أن يكون لدى الإنسان ثقافة فنية أدبية في قواعد اللغة العربية، حتى يستطيع أن يوازن بين النص القابل للتأويل، وبين النص غير القابل للتأويل، ومع الأسف، فإن الطريقة التي درجَ عليها الكثيرون من العلماء في استنطاق قواعد اللغة العربية، ربَّما تؤدي إلى الكثير من تشويه صورة فهم النص القرآني، أو فهم النص النبوي، أو أحاديث أهل البيت(عليهم السلام).