*إنَّ أغلب آيات القرآن عالجت تاريخ الماضين والزمن الذي نزلت فيه ولم تعالج مشاكل مستقبلية، مع أنه كتاب لكلِّ زمن، فما تفسير ذلك؟
ـ إن القرآن عالج المستقبل من خلال تأكيد المفاهيم الحياتية المتصلة بمعنى الله ومعنى الإنسان ومعنى الزمن ومعنى الحرب ومعنى السلم ومعنى الاستقامة ومعنى الانحراف ومعنى العدالة والعزة والحرية والكرامة... فلقد أصَّل للإنسان كلَّ مفاهيمه التي لا تختلف مع الزمن. وهو عندما حدثنا عن الماضي، فإنّه لم يحدثنا عنه لنستغرق فيه ولنعيش فيه، ولكنَّه حدَّثنا عنه ليقدِّم لنا صورةً عن سقوط التجربة الإنسانية أمام نقاط الضعف الإنساني في بعض خطوط هذا الماضي، وعن نجاحها من خلال نقاط القوَّة التي اختزنتها فيما عاشته في هذا الماضي. لذلك كان الحديث عن الماضي يطل على الحديث عن المستقبل، لأنه عندما يحدثك القرآن عن تلك الأمم، يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}(البقرة:134)، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ}(يوسف:111)، أي خذ الدرس، وخذ الفكرة، وحاول أن تدرس عناصر الخطأ والصواب، وطبيعة نقاط القوة في تأثيراتها في الإنسان وتأثيراتها على الحياة.
وهناك نقطة يجب أن نفهمها، وهي أنَّ الإنسان مهما اختلف زمانه، يبقى واحداً في عناصره الإنسانية، فقد يختلف إنسان في طبيعة الجزئيات التي يمكن لها أن تزيد في كمية معلوماته وفي كمية قدراته وفي غنى تجاربه، ولكن الإنسانية واحدة، هل يختلف فرح الناس في الماضي في المعنى الإنساني للفرح، عن فرح النّاس في الحاضر؟ وهل يختلف حزنهم في الماضي في المعنى الإنساني للحزن، عن حزنهم في الحاضر؟ أليست الشهوة أو الطمع الإنساني في الماضي، هو معنى الشهوة والطمع الإنساني في الحاضر؟!.
إنَّ هناك أشياء تتَّصل بطبيعة إنسانيَّة الإنسان، ولذلك، فإنَّ الله عندما يحدِّثنا عن الخطوط التي عاشوها فأصابوا، فإنما يحدِّثنا عن المستقبل، لأنَّ الإنسان في تجربته الإنسانية ليس خاضعاً لماضٍ وحاضر ومستقبل. ومن هنا، فإنَّ ميزة القرآن أنه يحدثك عن الأشياء الحقيقية. وهذا ما استوحاه الإمام الباقر(ع)، عندما قال: «إنّ القرآن حيّ لا يموت، وإنّ الآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية، لمات القرآن، ولكني هي جارية في الباقين كما جرت في الماضي. إنّ القرآن حيّ لا يمت، وإنّه يجري كما يجري مجرى اللّيل والنّهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا».
إنَّ التجربة النَّاجحة هي نموذج لكلِّ التجارب الناجحة، والتجربة الفاشلة هي نموذج لكلِّ التجارب الفاشلة، ولذلك يبقى وهو يحدِّثك عن الماضي، في حديثٍ مستمرٍ عن المستقبل: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}، فلا تستغرقوا في جزئياتها، ولا تتعصّبوا لأشخاصها، لأن هناك تجربة تنتظركم، ولأن هناك مسؤوليةً تنتظركم، ولأن هناك كسباً ينتظركم، {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} فاعرفوا كيف تكسبون الكسب الأفضل، وكيف تمارسون التجربة الأنجح {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(البقرة:134).