*ما هو سرُّ قصَّة يوسف، خصوصاً بالنسبة إلى الشَّباب المسلم؟
ـ هناك حديث للإمام الصّادق(ع) عن الحرية، وهو حديث يمثِّل أعمق النظرات في معنى الحرية، بحيث لم يقترب من هذا التّعريف إلاّ بعض المفكِّرين الغربيين، مثل «جان بول سارتر»، وإن لم يصل إلى عمق ما وصل إليه الإمام(ع). فالإمام عندما يتحدث عن الحرية، يكشف عن أن الحرية لا تأتي من الخارج، فأنت حرّ بمقدار ما تكون إرادتك حرةً، وعقلك حرّاً، وموقفك حرّاً، فحريتك لا تقاس بالمساحة التي تملكها وتتحكّم فيها؛ قد تكون حراً وأنت في الزنزانة التي لا تتَّسع إلا لجسمك، وقد تكون عبداً وأنت في الصحراء. وللأسف، نحن مستغرقون فقط في فضائل أهل البيت ومآسيهم، أما المفاهيم الّتي جاؤوا بها وركّزوها، فكم من الناس يعرفونها وهي مفاهيم الإسلام الأصلية. يقول(ع) في حديثه: «إنَّ الحرَّ حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبةٌ صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق(ع)، لم يضرره حريته أن استعبد وقهر وأسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد أن كان مالكاً» فلقد كان عبداً بالمعنى القانوني: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}(يوسف:20)، كان عبداً بالمعنى القانوني، ولكن كان حراً بمعنى الإيمان وبالمعنى الإرادي الإنساني، فلم تقهر حريته، ولم تضره هذه العبودية القانونية وهذا السجن.
«ورحم به أمةً، وكذلك الصبر يعقب أجراً، فوطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا» وهنا يساوي الإمام بين الصبر والحرية، فبمقدار ما تكون صابراً على نقاط ضعفك، على شهواتك، على آلامك وعلى صرخات الجوع في معدتك، تكون حراً، لأن ما يستعبد الناس هو حاجاتهم، فنحن عبيد حاجاتنا، والآخرون إنّما يستعبدوننا من خلال ما يملكون من حاجاتنا، ولذلك نجد أن الاستكبار العالمي يحاول أن يصنع لنا الكثير من الحاجات الاستهلاكية التي لا نستغني عنها، فنضطرُّ إلى الخضوع له من أجل أن يصدر لنا السجائر، أو «البيبسي»، أو «الكولا»، أو مساحيق التجميل أو غير ذلك. هل كان آباؤنا يشربون «البيبسي» و«الكولا» وما إلى ذلك؟ ولكن الغرب صنع لنا حاجات، وأمسك بهذه الحاجات بيده، وأمسك بأعناقنا التي طأطأت لهذه الحاجات، فلم تكن لها إرادة أن ترفض، ولذلك خضعنا لحاجاتنا، ولمن يملك الجانب الاستهلاكي منها.
إن قصة يوسف هي قصة إنسان حرّ من خلال إيمانه، حرّ أمام شهوته، حر أمام الأقوياء، حر أمام ضغط السجن، وقد دخل السجن ودخل معه فتيان، وبدأ الدعوة إلى الله في السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ}(يوسف:39). ثم خطَّط لحركته في المسؤولية العامة، فأمسك بخزائن مصر، واستطاع أن يفجِّر عبقريته الاقتصادية في إدارتها بالطريقة التي تجاوز فيها المشاكل والصعوبات التي عاشها الناس هناك، ولكنه لم يحمل المسؤولية إلا بعد أن أظهر كل براءته من التهمة التي ألصقتها به امرأة العزيز، فانطلق من موقع السمعة الطيبة التي أوضحت للناس أنه كان الضعيف في المسألة الجنسية، فلم يسقط أمام الإغراء، من خلال عصمته الأخلاقية والروحية، ما يجعله في الموقع المميز الذي يوحي بالعصمة الاقتصادية. واستفاد في ذلك كله من معرفته الإلهامية في تفسير الأحلام، وبقي في المواقع كلّها ذلك الرسالي الذي يحدِّق برسالته من خلال ابتهاله إلى ربه: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف:101).
فكونوا الأقوياء الصابرين تحرزوا حريتكم في أيِّ موقع من مواقع الحرية. وهذا ما علّمنا إيّاه الإمام الحسين(ع): «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد»، «ألا وأن الدعيّ أبن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة».
وهذه هي مسألة الحرية، عندما تكون عقلاً حراً، وقلباً حراً، وموقفاً حراً، وتلك هي حركة الحرية في الإرادة القوية الصابرة أمام الإغراء وعناصر الانحراف، لترفض ما يريد الله لك أن ترفضه، وتقبل ما يريد الله لك أن تقبله، على مستوى القضايا الحيوية التي تتحدَّى في الإنسان التزامه وروحيته في الحياة ومع الإنسان كلّه.