*ذكر القرآن الكريم نماذج كثيرةً للمرأة الصالحة المؤمنة، مثل امرأة فرعون، وامرأة عمران أمّ موسى، وبنت يعقوب، وزوجات النبي، إلا أنه لم يسمِّ إحداهن باسمها إلا مريم، لماذا؟
ـ إن مريم اختصت بدورٍ لم تبلغه امرأة أخرى، وهو قضية أن الله جعلها مظهراً لقدرته التي لم يسبق لها مثيل، فالله خلق آدم من الطين بشكل مباشر، وبلا أب وبلا أم، وخلق الناس من أب وأم، أما أن يُخلق إنسان من أم بلا أب، فهذه تجربة حيّة حركيّة.
أما حركية أمّ موسى، فهي من الجانب المأساوي الذي عاشته بالنسبة إلى افتقاد ولدها {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}(القصص:10). و(ابنتا شعيب) اللتان عندما جاء موسى واستسقى لهما وتزوج بواحدة منهما، فقد كان دورهما إيجاد الصلة بينه وبين شعيب، بحسب الواقع الذي عاشه هناك، ليحصل على الأمن بعد خوفه من قوم فرعون الذين كانوا يلاحقونه ليقتلوه.
أمّا امرأة فرعون، فلم يكن لديها حياة حركية فوق العادة، ذلك أن حياتها كانت تعيش في قضية رفضها لفرعون وعمله، والله تحدث عن هذا الموضوع على أساس أنه يريد أن يبيِّن وجود إنسانة رافضة لمجتمع فرعون، فهناك «امرأة فرعون»، وإنسان رافض مثل «مؤمن آل فرعون»، فأراد الله أن يوحي من خلال ذلك، أن كلاً من امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون يعطيان درساً لمن يقول إن مجتمعي مجتمع شرير، فلست قادراً على أن أتخلص منه! فالقرآن يقول له: أي بيئة أخطر من بيئة فرعون، هذه هي امرأته، زوجته، زوجة الّذي كان يدّعي أنّه الإله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}(النازعات:24)، ومع ذلك، فإن هذه الإنسانة، وبسببٍ من أصالة إيمانها وقوة إرادتها وعقلها ووعيها، استطاعت أن تتخطّى كلَّ هذه الأمور، وأن تطلب من الله أن يبدلها بيتاً في الجنة.
وهناك أيضاً نقطة ثانية، وهي أنّ الله أراد أن يبيِّن للرجال وللنساء معاً، أنَّ هناك من النساء من تملك عقلاً يفوق عقول الرجال، وإرادةً تفوق إرادتهم، وقوة شخصية تفوق قوّة شخصيّتهم، مثل امرأة فرعون، {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}(التحريم:11).
أما مريم(ع)، فقد كانت في حياة حركية، أوَّلاً: نذرتها أمُّها لبيت المقدس {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}(آل عمران:35)، ولما وضعتها قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}(آل عمران:36)، ثم بعد ذلك {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ثم في مسألة عبادتها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}(آل عمران:37). وعندما انطلقت وجاءها جبرائيل بالروح، وعاشت هذه التجربة بين الخوف والرجاء، وعاشت هذا الجوّ، حيث أعطاها الله القوة: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا}(مريم:26). وهكذا تسلَّحت بالقوة بعد أن عاشت الضعف {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}(مريم:23). ومع ذلك، عندما جاءت قومها بكلِّ العظمة الإنسانية الروحية، قالوا {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}(مريم:29). قالت لهم: كلّموه.. {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا}(مريم:29).
فهناك حياة حركية من قبل ولادتها إلى أن ولدت عيسى(ع). ومن هنا، فالقضية قد تحتاج إلى هذا النوع من الحياة المتحركة الطويلة. أما نساء النبي، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعالج وضعهن وواقعهن والمشاكل التي كانت تعرض للنبي من خلالهن، لذلك لم تكن هناك حاجة للقول يا فلانة. يكفي أن يناديهن {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(الأحزاب:32). فلا توجد ضرورة إلى ذكر الأسماء، والله العالم.