*تركَّز اهتمام القرآن الكريم على الجانب الروحي أكثر بكير من سواه من الجوانب التي يمارسها الإنسان في حياته، لماذا؟
ـ إنَّ الجانب الروحي للإنسان هو الأساس، فالقرآن كان يركِّز على توحيد الله، وعلى أن يؤمن الإنسان بأنَّ الله هو الحقيقة الأساس التي تنطلق منها كلُّ الحقائق، والتي تلتقي عندها كل الحقائق، والذي يتمثَّل الكون في وحدته من خلال انطلاقه من الله الواحد، لذلك فقضية التوحيد من القضايا التي تدخل في الجانب التصوّري للإنسان في المسألة الذهنية، وفي الجانب العاطفي، وفي الجانب الحركي الذي يتحرك فيه. فمن آمن بتوحيد الله، فإنه يملك الخطَّ الذي يتحرك به في حياته. ولذلك اختصر الله الإسلام كلّه بكلمتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(الأحقاف:13)، لأنه عندما تقول {رَبِّيَ اللهُ} ثم تتحرك في هذا الخط، فكأن التوحيد هو البوصلة التي تدلُّك على اتجاه الطريق من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، وكيف هو الخطّ الذي يربط بين البداية والنهاية.
هذا من جهة، كما أنَّ الإيمان بالله هو عمق الالتزام بالنسبة إلى الإنسان، لأن الله يريد للإنسان أن يعيش وجود الله في وعيه {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}(الحشر:19). فإنك عندما تنسى الله وتغفل عن وجوده وعن مراقبته، فإنك تنسى نفسك من دون قاعدة، ومن دون خطٍّ تسير عليه، ولكنَّ الله أراد أن يربط الإنسان به من كلِّ الجوانب الاجتماعية والفردية والسياسية.
لاحظ مثلاً قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(هود:113). فعدم الركون إلى الذين ظلموا يختصر كلَّ حركة الإنسان في مواجهة الطاغية، لكن لو أطلقها القرآن كشعار سياسي، فإنك حينها يمكن أن تتأثَّر به أو لا تتأثر، ولكن عندما يتوعَّدك بأنك إذا ركنت إلى الظالم فإن النار ستمسُّك، فإن الوقع يكون عليك أكبر.
كذلك عندما يحدثنا عن النماذج القلقة في المجتمع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ}(البقرة:204-206). إنه يحدثنا عن نموذج من نماذج الناس الذين يتحرَّكون سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً من خلال شعارات كبيرة، لكنه في الواقع يعيش حال تناقض مع هذه الشعارات ذلك أن ثمة بوناً شاسعاً بين القول والفعل. ولقد تحدث القرآن الكريم في الكثير من الموضوعات السياسية والاقتصادية مثل قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ}(البقرة:188).
لذلك، فالله أراد أن يربط حركة التوحيد وحركة المواجهة، أي الوقوف أمام الله تعالى يوم القيامة، وحركة المسؤولية من خلال نتائج المسؤولية، أراد أن يربط ذلك بالجانب الروحي والواقع. وأنا أقولها لكل المسلمين، إنكم تفقدون الجانب الروحي في عمق قلوبكم، وفي عمق إحساسكم، وفي عمق حياتكم، مع العلم أن عمق الإسلام هو الروح، وعمق الإسلام هو توحيد الله وتقوى الله والانفتاح عليه في كل الأمور, لذلك، اقرأوا القرآن قراءةً تفهمون فيها أن توحيد الله فيما يختزنه من كلِّ معاني الروح، هو المركز الذي تنطلق منه كل الخطوط.