الأعلى
سورة الأعلى المقدمة الآيات 1 -19
سورة الأعلى
مكية وآياتها تسع عشرة
في أجواء السورة
وهذه السورة المكية تطوف بالنبي(ص) في تطلعاته الروحية التي تريد أن توجهه إلى الله سبحانه ليحدّق بالآفاق العليا التي تطلّ على أسرار عظمته، وليستلهم ـ من ذلك ـ الإيحاءات الإلهية، في ما تفتح به قلبه على كلِّ الحقائق في الأسماء الحسنى لله، وعلى الصفات العليا لكماله وجلاله، ليسبِّحه في موقع ربوبيته، وليختزن في داخل وعيه الرسالي أنه الأعلى، فلا شيء معه ولا شيء فوقه، وليتصوره في خلقه وتدبيره ورزقه، وليدفعه إلى ساحة الرسالة ليستوعب آيات الله في قلبه وسمعه ولسانه، فلا ينساها إلا ما شاء الله من ذلك، في ما يملك من أمور عباده، فلا يستقلون بشيء منها، ولا يبتعدون عن خط المشيئة التي تربطهم به، لأنه المهيمن على كل شيء، فهو الذي يعلم ظواهر الأشياء وخفاياها.
ويفتح له الطريقة اليسرى التي توصله إلى هدفه في الدعوة بأقرب الوسائل وأيسرها، لينطلق بالإبلاغ الذي يهزّ الوجدان الإنسانيّ في عملية تذكيرٍ بالحقائق الإلهية في المبدأ والمعاد وفي حركة المسؤولية فيما بينهما. وستتعمّق الذكرى في وعي الإنسان الذي يخشى ربّه ويتحسّس مسؤولية المعرفة في خط الطاعة، أمّا الأشقى الذي يعيش أجواء العبث واللاّمبالاة في حياته فإنه يتجنبها، ليبقى سادراً في غيّه، ولكنّه سوف ينتهي إلى «النار الكبرى» التي لا يحسّ فيها براحة الموت ولذّة الحياة، وتلك هي الخسارة الخالدة.
ثم تثير السورة الدعوة الإلهية لتطهير النفس وتزكيتها، باعتبار أنها سبب الفلاح في الدنيا والآخرة، حيث تنفتح في الجانب العمليّ على ذكر الله ومراقبته في كل الأمور، والوقوف بين يديه في الصلاة التي يعرج فيها المؤمن بروحه إلى الله، ولكنّ مشكلة الناس أنهم يؤثرون الحياة الدنيا ويبتعدون عن الآخرة من دون وعيٍ حقيقيٍّ بأن الدنيا متاعٌ، وأن الآخرة خيرٌ لهم في نتائجها الطيبة الخالدة، ما يجعل الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح أخذاً بأسباب الخير، وهي في الوقت نفسه دار الخلود التي يبقى للإنسان منها كل ما يحصل عليه فيها من النعيم الدائم.
إنها حقائق الكون والرسالة والدعوة وحركة الطاعة في حياة الإنسان التي تطل على مصيره في الآخرة، وهي رسالة الله التي أودعها في صحف إبراهيم وموسى(ع)، وعرّفها لنبيّه محمد(ص) كحقيقةٍ إيمانيةٍ قرآنيةٍ.
ــــــــــــــــ
الآيــات
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى* فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى* سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى* وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى* فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى* ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخرةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (1ـ19).
* * *
معاني المفردات
{سَبِّحِ}: أمرٌ بالتـنزيه.
{فَسَوَّى}: سوَّى الشيء: جعله متساوياً.
{غُثَآءً}: الغثاء: ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات.
{أَحْوَى}: أسود.
{النَّارَ الْكُبْرَى}: جهنم.
{تُؤْثِرُونَ}: تختارون.
* * *
السجود لله أقصى درجات الخضوع له
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} الخطاب لرسول الله(ص)، ولكنه لا يتعلق به وحده وبصفته الشخصية، بل بصفته الإنسانية في ساحة العبودية المنفتحة على مسؤوليته الرسالية في التزامها بالله فكراً وعقيدةً وعملاً. ولذلك، فإنّ الخطاب يمتدّ إلى كل إنسانٍ يراد له أن يعيش تلك الحقيقة في رحاب الله في مواقع الإحساس بعظمته وعلوّ مجده، إنها الدعوة إلى تسبيح الله الذي يعبر عن تنـزيهه الله عما لا يليق بشأنه، وتعظيمه في ما ينبغي له. وإذا كانت الدعوة للتسبيح المتعلقّة باسمه، فإن ذلك ينطلق من خلال ما يوحي به هذا الاسم من الدلالة على ذاته المقدّسة في مواقع الربوبية التي لا يدانيها أيّ موقع. فهو الربُّ الأعلى الذي لا يذكر اسم أحد مع اسمه، ولا يقترب إليه أحد في علوّه، فهو الأعلى في كل مواقع العلوّ، فلا يقف التصوّر في رحابه عند حدّ، بل يبقى في نظرته التصاعدية، فمهما تصوّر الإنسان درجة له في ذهنه المحدود، ستبقى هناك درجةً أعلى منها، لأن الله هو الأعلى في غير حدود، المطلق في كل صفات الكمال والجمال.
وقد ورد عن النبي(ص): «اجعلوها في سجودكم»[1]، ولعله بلحاظ أن السجود يمثل أقصى درجات الانحطاط في مواقع الخضوع، فأريد لهذا الجوّ الخاضع الذي يعيشه الساجد، أن يرتبط في وعيه بمواقع السموّ العليا التي يستوحي منها الشعور العبادي بانسحاق الأسفل أمام الأعلى، وذوبانه فيه، ما يجعله في أفضل درجات العبودية في إحساسه العميق بمقام ربه وموقعه منه.
ولعل التأكيد على التسبيح، ينطلق من الأسلوب القرآنيّ التربويّ الذي يراد له أن يربّي الإنسان المؤمن على الاستحضار الدائم لعظمة الله في نفسه، وتنـزيهه عما لا يليق به، لتبقى العقيدة في صفائها ونقائها مشرقةً في ذاته، وليبقى للإنسان الحد الفاصل بين ما هو الإنسان في كل مواقعه المحدودة، وبين ما هو الرب في آفاق العظمة المطلقة التي لا حدود لها، حتى لا يتأنسن الإله في شعوره، ولا يتألّه الإنسان في وعيه الفكري وحركته العملية، عندما يظل الذهن مشدوداً إلى الله في الآفاق التي لا يشاركه فيها أحد.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} فجعل كل مخلوقٍ متناسباً في أجزائه وأجهزته، كاملاً في عناصر وجوده، جاهزاً لتحقيق غايته، ميسّراً لحركته الوجودية نحو ما خلق لها، سواء في وجوده الذاتي في حياته الفردية، أو في وجوده الاجتماعي في حياته الاجتماعية. وهذا ما يلمحه المتأمّل في دراسة كل المخلوقات الجامدة والحية، الصغيرة والكبيرة، من أصغر ذرّةٍ إلى أضخم المجموعات الكونية الهائلة.
* * *
الذي قدّر فهدى
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فجعل للكون نظاماً يتحرّك نحو غايته بكلِّ دقةٍ وتوازن، وركّب في كل موجود الأسرار الخفية التي تجعل له وعياً ذاتياً نحو المواقع التي أراد له أن يتحرك فيها، ليحفظ استمرار وجوده من خلال الوصول إليها، وليحقّق رغباته الخاصة في حركتها. وهذا ما نلاحظه في كل مخلوقٍ عاقلٍ أو غير عاقلٍ، فهناك نوعٌ من الهداية التكوينية التي تجعله يتحرك غريزياً نحو حاجاته ومواقعه، وهناك نوعٌ من الهداية الإرادية التي تدفعه إلى تحريك إرادته في حركة جسمه وعقله نحو تحقيق الشروط الطبيعية أو الضرورية التي تحقق له النتائج العملية أو الفكرية في حركة وجوده.
* * *
الهداية تتجلى في مخلوقاته
وقد نحتاج إلى تقديم بعض النماذج الوجودية في المخلوقات غير العاقلة في ما ركّب الله فيها من عناصر الهداية التي تحركها نحو غاياتها بيسرٍ وسهولةٍ، وذلك في ما نقله العالم د.كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك في كتابه: «الإنسان لا يقوم وحده» الذي ترجمه الأستاذ محمود صالح الفلكي بعنوان: «العلم يدعو إلى الإيمان»، ونقلاً عن كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب قال: «إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزار الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر، تطير أسراب من معظم طيورنا[2] إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار، ولكنها لا تضلّ طريقها. والحمام الزاجل إذا تحيّر من جرّاء أصواتٍ جديدةٍ عليه في رحلةٍ طويلةٍ داخل قفص، يحوم برهةً ثم يقصد قُدماً الى موطنه دون أن يضلّ.
والنحلة تجد خليّتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار، وكل دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن، هذه، هي ضعيفة في الإنسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجةٍ إلى هذه الغريزة وعقولنا تسدّ هذه الحاجة. ولا بد أنّ للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبيةً ـ مكبرةً ـ لا ندري مبلغها من الإحكام، وأن للصقر بصراً تلسكوبياً مكبّراً مقرّباً. وهنا أيضاً يتفوّق الإنسان بأدواته الميكانيكيّة، فهو بتلسكوبه يبصر سديماً بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوّة إبصاره مليوني مرَّةً ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية، بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها!
وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل، وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح، ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلاً بالأشعّة تحت الحمراء التي للطريق. والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافىء اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل. ونحن نقلب الليل نهاراً بإحداث إشعاعٍ في تلك المجموعة التي نسميها الضوء...»[3].
* * *
معجزة خلق النحلة وعملها
«...إن العاملات من النحل تصنع حجراتٍ مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية، وتعدّ الحجرات الصغيرات للعمّال، والأكبر منها لليعاسيب ـ ذكور النحل ـ وتعدّ غرفة خاصة للملكات الحوامل. والنحلة الملكية تضع بيضاً غير مخصّبٍ في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضاً مخصّباً في الحجرات الصحيحة المعدّة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات. والعاملات اللاتي هنّ إناثٌ معدّلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد، تهيّأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدّمات هضمه، ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدّمات الهضم عند مرحلةٍ معيّنةٍ من تطوّر الذكور والإناث، ولا يغذّين سوى العسل واللقح. والإناث اللاّتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات».
«أمّا الإناث اللاّتي في حجرات الملكة، فإنّ التغذية بالمضغ ومقدّمات الهضم تستمر بالنسبة لهنَّ، وهؤلاء اللاّتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطوّرن إلى ملكات نحل، وهنَّ وحدهنَّ اللاّتي ينتجن بيضاً مخصباً. وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجراتٍ خاصة وبيضاً خاصاً، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء! وهذه التغييرات تنطبق بوجهٍ خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضروريّةً لوجودها. ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تمّ اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة، وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة!»[4].
* * *
معجزة خلق الحواس عند بعض الحيوانات
والكلب بما أوتي من أنفٍ فضوليٍّ يستطيع أن يحسّ الحيوان الذي مرّ. وليس ثمة من أداةٍ من اختراع الإنسان لتقوّي حاسّة الشم الضعيفة لديه، ومع هذا فإن حاسّة الشمّ الخاصة بنا ـ على ضعفها ـ قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة.
وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثيرٌ منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقّةٍ تفوق كثيراً حاسّة السمع المحدودة عندنا، وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال، كما لو كانت فوق طبلة أذنه. ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجِّل وقع شعاعٍ شمسي!
إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشّاً على شكل منطاد بالون من خيوط العنكبوت، وتعلقه بشيءٍ ما تحت الماء، ثم تمسك ببراعة فقّاعة هواءٍ في شعر جسمها، وتحملها إلى الماء، ثم تطلقها تحت العشّ. ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش. وعندئذٍ تلد صغارها وتربيها، آمنةً عليها من هبوب الهواء. فها هنا نجد طريقة النسج، بما يشمله من هندسةٍ وتركيبٍ وملاحةٍ جوّيّةٍ!
«وسمك «السلمون» الصغير يمضي سنواتٍ في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاص به. والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النُّهيْر الذي وُلد فيه. فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ إن سمكة «السلمون» التي تصعد في النهر صُعداً إذا نقلت إلى نُهيرٍ آخر أدركت توّاً أنه ليس جدولها، فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر، ثم تحيد ضدّ التيّار، قاصدة إلى مصيرها!»[5].
* * *
معجزة خلق ثعابين الماء
"وهناك لغزٌ أصعب من ذلك يتطلّب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك، فإنّ تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموّها، هاجرت من مختلف البرك والأنهار. وإذا كانت في أوروبّا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا. وهناك تبيض وتموت. أمَّا صغارها تلك التي لا تملك وسيلةً لتعرف بها أيّ شيءٍ ـ سوى أنها في مياهٍ قفرةٍ ـ فإنها تعود أدراجها وتجد طريقها إلى الشاطىء الذي جاءت منه أمهاتها، ومن ثمَّ إلى كل نهرٍ أو بحيرةٍ أو بركةٍ صغيرةٍ.. ولذا يظلّ كل جسمٍ من الماء آهلاً بثعابين البحر. لقد قاومت التيارات القوية، وثبتت للأمداد والعواصف، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطىء، وهي الآن يتاح لها النموّ، حتى إذا اكتمل نموّها دفعها قانونٌ خفيٌّ إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها. فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟
لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماءٍ أمريكيٍ في المياه الأوروبية، أو صيد ثعبان ماء أوروبي في المياه الأمريكية. والطبيعة تبطىء في إنماء ثعبان الماء الأوروبي مدة سنة أو أكثر لتعوّض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها (إذ إن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي) تُرى هل الذرّات والهباءات إذا توحّدت معاً في ثعبان ماءٍ يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟!"[6]
* * *
عجائب الخلق في بعض الحيوانات
"وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارةً خفيّةً. وقد يكون الذكر على مسافةٍ بعيدةٍ، ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها، مهما أحدثت أنت من رائحةٍ بعملك لتضليلها. ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعةٍ؟ وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي، فضلاً عن السلك اللاّقط للصوت «إيريال»؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟!
.. إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية. وهما يتيحان لنا الاتصال السريع، ولكننا مرتبطون في شأنهما بسلكٍ ومكانٍ. وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقةً علينا من هذه الوجهة.
والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبةٍ من جانبهم! كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرةٍ إلى أخرى، والرياح، وكل شيءٍ يطير أو يمشي، ليوزّع بذوره، وأخيراً أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ! فقد حسّن الطبيعة وجازته بسخاءٍ، غير أنه شديد التكاثر، حتى أصبح مقيداً بالمحراث، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن، وعليه أن يربّي ويهجّن، وأن يشذّب ويطعم، وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه، وتدهورت المدنيّة، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية!.
وكثير من الحيوانات هي مثل «سرطان البحر» الذي إذا فقد مخلباً عرف أن جزءاً من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة، ومتى تمَّ ذلك كفَّت الخلايا عن العمل، لأنها تعرف بطريقةٍ ما أن وقت الراحة قد حان!
وكثير الأرجل المائيّ إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين. وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأسٍ بدلاً منه. ونحن نستطيع أن ننشّط التئام الجروح، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحرّكون الخلايا لتنتج ذراعاً جديدةً، أو لحماً أو عظاماً أو أظافر أو أعصاباً؟ ـ إذا كان ذلك في حيّز الإمكان ـ؟!
وهناك حقيقةٌ مدهشةٌ تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد، فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطوّرها، إذا تفرّقت، صار لكلٍّ منها القدرة على خلق حيوانٍ كاملٍ. ومن ثمَّ فإنه إذا انقسمت الخليّة الأولى إلى قسمين، وتفرّق هذان، تطور منهما فردان. وقد يكون في ذلك تفسيرٌ لتشابه التوأمين، ولكنه يدلّ على أكثر من ذلك، وهو أنَّ كل خليّةٍ في البداية يمكن أن تكون فرداً كاملاً بالتفصيل، فليس هناك شكٌّ إذاً، في أنك أنت، في كل خليّةٍ ونسيج!»[7].
* * *
عجائب جوزة البلوط
ويقول في فصل آخر:
«إن جوزة البلوط تسقط على الأرض، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة، وتتدحرج في حفرةٍ ما من الأرض، وفي الربيع تستيقظ الجرثومة، فتنفجر القشرة، وتزدرد الطعام من اللبِّ الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه «الجينات» ـ وحدات الوراثة ـ وهي تمد الجذور في الأرض، وإذا بك ترى فرخاً أو شتلةً ـ شجيرةً ـ وبعد سنواتٍ شجرةً! وإن الجرثومة بما فيها من جيناتٍ قد تضاعفت ملايين الملايين، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقةٍ وكل ثمرةٍ مماثلةٍ لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها. وفي خلال مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج أوّل شجرة بلوط منذ ملايين السنين»[8].
* * *
الخلايا ومعجزة عملها
وفي فصل ثالث يقول:
«وكل خليّةٍ تنتج في أيّ مخلوقٍ حيٍّ يجب أن تكيّف نفسها لتكون جزءاً من اللحم، أو أن تضحي بنفسها كجزءٍ من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى. وعليها أن تصنع ميناء الأسنان، وأن تنتج السائل الشفّاف في العين، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن. ثم على كل خليّةٍ أن تكيّف نفسها من حيث الشكل، وكل خاصيّةٍ أخرى لازمةٍ لتأدية مهمتها. ومن العسير أن نتصوّر أن خليّةً ما هي ذات يدٍ يمنى أو يسرى، ولكنّ إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى.
...وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعةٌ لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب وفي المكان الصواب!»[9].
* * *
ذكاء بعض الحيوانات الغريزيّ
وفي فصل رابع يقول:
«في خليط الخلق، قد أتيح لكثيرٍ من المخلوقات أن تبدي درجةً عاليةً من أشكالٍ معيّنةٍ من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري. فالدبّور مثلاً يصيد الجندب النطّاط، ويحفر حفرةً في الأرض، ويخز الجندب في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوعٍ من اللحم المحفوظ..
وأنثى الدبّور تضع بيضاً في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها، فيكون ذلك خطراً على وجودها. ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرّره دائماً، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض. والعلم لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة!.
وإن أنثى الدبور تغطي حفرةً في الأرض، وترحل فرحاً، ثم تموت، فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية، وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئاً يسمّى صغاراً، بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها!
وفي بعض أنواع النمل، يأتي العَمَلة منه بحبوبٍ صغيرةٍ لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء، وينشىء النمل ما هو معروف «بمخزن الطحن»، وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكاً كبيرةً معدّةً للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت، فإنّ «أعظم خير لأكبر عددٍ»، يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام. وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحّان، فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود. ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه!.
وهناك أنواعٌ من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير ـ واختر منهما ما يحلو لك ـ إلى زرع أعشاشٍ للطعام في ما يمكن تسميته «بحدائق الأعشاش» وتصيد أنواعاً معيّنة من الدود والأرق أو اليرق، ـ وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية ـ وهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازاتٍ معينة تشبه العسل ليكون طعاماً له.
والنمل يأسر طوائف منه ويسترقّها. وبعض النمل حين يضع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب. وبينما يضع بعض عملة النمل الأطارف في مكانها، تستخدم صغارها ـ التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير ـ لحياكتها معاً! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقةٍ لنفسه، ولكنه قد خدم الجماعة!
فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك»[10].
وإذا كنا قد قدّمنا بعض النماذج المتنوعة التي استطاعت تأملات العلم واكتشافاته أن تقدّم لنا فيها أسرار الإبداع ودقة التدبير وروعة الهداية في خلق الله، فإن هناك الكثير الكثير في كل ما خلق الله من الأسرار الكبيرة التي توحي بالعمق التدبيريّ للتقدير الإلهيّ الذي جعل في كل موجود نظامه الداخلي، وأودع في داخل ذلك النظام أسرار الهداية التي تقوده إلى غايته، من دون أيّ تكلّفٍ أو جهدٍ كبير، ما يدلّ على أن الكون كله ـ حتى في ما لم يكتشف الإنسان سرّه العميق وقانونه التفصيليّ ـ خاضعٌ للخطة الإلهية الحكيمة التي تعطي كل شيءٍ هداه، وتضع كل شيء في موضعه، بحيث إن الملاحظة البسيطة لكل الظواهر الكونية الصغيرة والكبيرة ولكل الظواهر الاجتماعية، تؤدي بالإنسان إلى القناعة بأن الكون لم ينطلق من الصدفة الطائرة، ومن الفوضى الهائجة، بل هو منطلق من تقدير العزيز الحكيم وهدايته، حتى أن الباحثين يفرضون ذلك مسبقاً قبل الدخول في البحث، ليكون المدخل لهم فيه الانطباع الذاتي والقناعة العميقة بوجود سرٍّ خفيّ لا بد للإنسان من اكتشافه.
* * *
إحياء الأرض من قدرة الله تعالى
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} المتمثِّل في الخضرة الممتدة في الأرض في سهلها وجبلها، في ما يرعاه الحيوان والإنسان، في العشب الأخضر الذي يبعث المتعة في العين وفي النفس، وفي كل ألوان الخضرة التي تتنوّع في خصائصها الغذائية وألوانها المختلفة. وهكذا تتجلى قدرة الله في حركة الأرض الميتة الجرداء التي لا تنبض بأية حركةٍ وأيّ اهتزاز، فإذا بالمطر يمنحها حيويّة الاهتزاز عندما يتفاعل مع تربتها ومع البذور المتناثرة على سطحها وعمقها، فإذا بالحياة تدب فيها، وتثير فيها كل خيرٍ وجمالٍ وروعةٍ وإبداع. ويأخذ النمو مداه التصاعدي في امتداد الأغصان، وفي نضارة الأوراق وحيويتها، حتى تنتهي كل طاقته في ذلك، ويبدأ رحلة الموت من جديد، وتأتي قدرة الله الذي أخرجه من الأرض {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى} فيتحوّل إلى أوراقٍ يابسةٍ وأغصان ذابلة، وتزول كل تلك الحيويّة النضرة في الألوان المتنوعة، فإذا هو أميل إلى السواد، فهو أحوى.
ويبلغ التقدير الإلهي مداه في ذلك كله لينتظر العودة إلى حركته في فصول جديدةٍ ورحلة جديدةٍ للنموّ والحياة الخضراء. وفي هذا إشارةٌ خفيّةٌ للتدبير الإلهي في إبداع الإنسان في إخراجه إلى الحياة ثمَّ في تحوّله إلى شيءٍ ميّتٍ.. ثم إلى تراب.. ثم تبدأ رحلة الحياة من جديد ولكن في عالم آخر..
* * *
سنقرئك فلا تنسى
ويمتلىء الوجدان في تطلعاته، والقلب في نبضاته، والروح في إيحاءاتها، بالتعبئة الروحية في الإحساس بعلو الله وعظمته وخلقه وتقديره وتدبيره وإخراجه المرعى، فإذا بالإنسان ـ النبيّ، أو الإنسان ـ الداعية، مفتوح الفكر لتلقي آيات الله بوعي، منفتح الروح على وحيه، في ما هو الإعداد النفسي لحمل الرسالة، والانفتاح على المسؤولية في حركتها...
ويأتي الخطاب من الله، ليعدّ النبي للمهمة {سَنُقْرِئُكَ} كل الوحي الذي تتحمل مسؤولية وعيه في نفسك، وإبلاغه إلى الناس، وسنملأ قلبك به، وسيتعمّق في كيانك {فَلاَ تَنسَى} شيئاً منه، لأن النسيان لن يحصل إلا للذين يعيشون وعي القضايا في أجواء مشاغلهم وهمومهم واهتماماتهم، ولكنك تستوعبه وتحتضنه في وجدانك من خلال عمق الوعي وعمق المسؤولية، في أجواء اللطف الإلهي الذي يشرق في فكرك نوراً، وفي روحك روحاً، وفي مشاعرك طهراً وصفاءً، فلا يدنو النسيان إلى فكرك، ولا تقترب الغفلة من قلبك، لأن المسألة في القرآن ليست مسألتك الشخصية، في ما يتصل بحياتك الخاصة، وليست مسألة المرحلة الزمنية المحدودة، في ما يحكم حاجة تلك المرحلة، بل هي مسألة الإنسانية كلها في ما تحتاجه من رسالة الله، ومسألة الزمن كله، في ما يخضع له من إشراف الوحي على حركة الأوضاع العامة والخاصة المتحركة فيه {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} لأنك خاضع لمشيئته دائماً، كما هي كل حركة الوجود في مختلف أوضاعها في خضوعها للتدبير الإلهي، فلا تظنن أنك بمنأى عن الإمكانات المتحركة المتطورة في ما يمكن أن يعرض عليك من طوارىء، بل عليك أن تترقب المتغيرات التي قد تحدث من خلال مشيئةٍ جديدةٍ لله في أمرك، في ما يريد الله من قضايا في خطوط التدبير الإلهيّ، فقد تتعلق مشيئته بأن تنسى بعضاً منه، وربما لا يحصل شيءٌ من ذلك كما لم يحصل شيءٌ منه..
وذلك هو الخطّ القرآني العريض الذي يعمل على أن يؤكد في خط العقيدة التوحيدية ـ في ما يتضمنه الوعي الإنساني في ذلك، الحاجة المطلقة لله في كل الحالات الإنسانية، فلا يستسلم للثقة بقدرته ووضعه المستقر، بل يبقى منتظراً للمشيئة الإلهية في ما يخفى من بواطن الأمور، لأنّ الله هو الذي يعلم الغيب كله، كما يعلم الحس كله، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} فهما سيّان لديه، لأن كل ما في داخلهما جزءٌ من خلقه ومن إرادته، فهو الذي يقرّر للإنسان ما يختاره من ذلك كله.
وقد نستوحي من التأكيد على الإقراء مع عدم النسيان، أنّ عملية الوعي الحاضر للقرآن واستيعاب آياته وحفظه في دائرة الاستغراق في كلماته ومعانيه، يمثِّل قاعدةً قرآنيةً إسلاميّةً للدعاة إلى الله، لا بدّ لهم من أن يتوفّروا عليها، باعتبار أنها تمثل الأساس في القاعدة الفكرية النفسية لإبلاغ الرسالة في وعيٍ عامل حاضرٍ للمصدر الأساس للرسالة وهو القرآن.
* * *
ونيسرك لليسرى
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} وهذه المسألة الثانية التي تعهّد الله لرسوله أن ييسرها له، وأن يعدّ شخصيته الرسولية إعداداً قويّاً منفتحاً على الناس كلهم والحياة كلها، بروحه الطيّبة الطاهرة الحنون العطوف الرؤوف بالمؤمنين وبكل الناس الذين هم الساحة الطبيعية لدعوته، وبأخلاقه المتوازنة التي تتحرك في علاقته بالأفراد والمجتمعات من موقع الرحمة والرأفة، والحرص عليهم والتحسس العميق بآلامهم وآمالهم ومشاكلهم، والصبر على نوازعهم السلبية وأوضاعهم الملتوية، وبكلماته الطيبة الحلوة التي تمثل التعبير الأحسن والمعنى الأحسن والأسلوب الأحسن، والجدال {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والدفع {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، [النحل:125] من دون أن يؤثر ذلك سلبياً على جدّية الموقف وصلابة الفكرة، وبشخصيته الأصيلة في صفاته الذاتية، كإنسانٍ يعيش إنسانيته في نفسه ومع أهله ومع الناس، فلا يرى الناس منه إلا كل خير في صبره على الأذى وعفوه عمّن أساء إليه، وتعاليه عن القضايا الصغيرة، وانفتاحه على الآفاق الكبيرة الواسعة.
وهكذا أتاح الله له، أن يكون الرسول الإنسان الذي يفيض على الحياة كلها باليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور، من خلال أن هذه المعاني هي صفة الرسالة كما هي صفة الرسول، فقد أراد الله بالناس اليسر ولم يرد بهم العسر، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، وبذلك، كانت شخصيته منطبعة بشخصية الرسالة التي قال عنها: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة»[11]. وهكذا يسّره الله للشريعة اليسرى، وللعقيدة اليسرى في بساطتها وصفائها ونقائها، كما يسّره للطريقة اليسرى في تبليغه للرسالة وفي مواجهته للمشاكل، وفي انفتاحه على الناس كلهم، ليكون ذلك أساساً للدخول إلى قناعتهم من أقرب طريق، وللتأثير في أوضاعهم لتغييرها إلى الأفضل، بأفضل الأساليب الميسّرة.
وهذا ما نستوحيه كعمل للدعاة إلى الله في تربيتهم لشخصياتهم على اليسر والرفق والسماحة واللين، والتوازن الأخلاقي والعملي بالمستوى الذي ييسر لهم الدخول إلى قلوب الناس من موقع المحبة، وإلى أفكارهم من موقع اليسر الفكري والتعبيري، وإلى حياتهم من موقع اليسر العملي، بحيث يعملون على تقديم الإسلام إلى الناس في عقيدته وشريعته ومنهجه ومواقفه السياسية والاجتماعية والجهادية في هذا الاتجاه، ليحبّبوه إليهم في صورته الميسّرة، بدلاً من أن يفرضوا مزاجهم المعقّد القاسي عليهم في خط الدعوة والحركة والموقف، كما يفعل بعض المبلّغين الذين يرون في مهمّة الدعوة مهنةً تقليديةً، يؤدّونها إلى الناس بشكل جامدٍ لا يخلو من القسوة والعسر والتعقيد، فإذا لم يتجاوب الناس معهم، اتهموهم بالبعد عن الحق وعن الدين والرفض لمفاهيمه وأحكامه ومناهجه، بدلاً من أن يتهموا أنفسهم بالبعد عن اليسر في أسلوبهم وفي شخصياتهم وفي طريقتهم في إدارة العلاقات مع الناس.
وقد قصَّ الله علينا أخلاقية الرسول في شخصية الإنسان الداعية، فقال سبحانه: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]، وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال سبحانه في صفته وصفة رسالته: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغلالَ الَّتي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
فقد كان خلقه عظيماً، بحيث تحوّل إلى تجسيد عمليٍّ في حركة رسالته، في ما يختزنه من عمق الرحمة القلبية التي كانت رحمةً من الله لهم، في ما تمثل به أسلوبه من اللين في الكلمة والنظرة والمعاملة المنطلقة من الرقّة في المشاعر القلبية، وعمل على أن يضع عن الناس الأثقال التي أثقلت حياتهم، والأغلال التي كانت تكبّلهم. وهكذا، أرادنا الله أن نجعله القدوة كما التزمناه نبياً في إبلاغ الرسالة، فقال سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]. ما يفرض على الدعاة إلى الله أن يعيشوا الروح النقية الطاهرة كما عاشها في انفتاحه بالرحمة على الناس كلهم، وأن يبلّغوا بالأسلوب الطيّب الأحسن كما بلّغ، وأن يكون نهجهم النهج القرآني في تيسير الفكرة والأسلوب والدعوة كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:22].
* * *
فذكر إن نفعت الذكرى
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} فإن دور الرسول أن يخرج الناس من الظلمة الفكرية والروحية التي تمنع النور من النفاذ إلى عقولهم، وينقذهم من حالة التخبط الحائر الذي يعيشونه أمام أشباح الظلام وتهاويله، وأن يحطّم أسوار الغفلة التي تحول بينهم وبين الانفتاح على المعرفة التي تذكرهم بالله وباليوم الآخر وتعرّفهم مسؤوليتهم، لينطلقوا إلى الآفاق الواسعة التي تلتقي بالرسالة الهادية في العقيدة وفي الشريعة، وفي المنهج الفكريّ والروحيّ والعمليّ في الحياة. ولا بدّ له من أن يكرّر الكلمة في أكثر من موقع، ويطلق الفكرة في أكثر من أسلوب، ويتابع التجربة حتى يستنفد كل احتمال، ولا ييأس مهما كانت التحديات صعبةً، لأن المسألة هي تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بينهم وبين الذكرى، لينطلق الإنسان حرّاً في فكره وإرادته، وقد تحتاج التجربة إلى وقتٍ طويلٍ، وأسلوبٍ متنوّع، ونَفَسٍ طويل، لأن التخلف الفكري، والرواسب الجاهلية، والعاطفة التقليدية المرتبطة بالآباء وبالمجتمع، قد تفرض نفسها على الشخصية من كل جانب، بحيث لا يتمكن الداعية من القضاء عليها في وقت قصير ،لا سيما عندما تتحرّك كل هذه العناصر لتضع الرفض في موقف الكافر. ولهذا فرض القرآن الدعوة إلى التذكر في أجواء احتمال إمكانية النفع التي تختزن فرضيّة عدم النّفع.
{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} لأن الذي يثير الخوف من الله في نفسه، لا بد من أن يعود إلى وعيه لينفتح فيه على ربه وعلى يوم الحساب بين يديه، ليدفع بموقفه إلى خطِّ التراجع عن الخطأ، ليلتزم خط الصواب.
* * *
جـزاء الأشقـى
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} الذي يمثل الذروة في الشقاء، لأن الكفر قد أطبق على عقله، وجمد كل إشراقة روحه، فعاش في ظلمة الفكر ووحول الجهل، واستسلم للشهوات المنحطّة، وفقد كل إحساسه بالمعاني الطاهرة في حياته، وتنكَّر لكل القيم الروحية في شخصيته، فانطلق في حالة العناد رافضاً لمنطق الرسالة، ولحركة الإيمان بالله، فواجه مصيره المظلم.
{الّذي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي نار جهنم التي تمثل الخطورة الكبرى في شدّة لهيبها، وحرارة سعيرها، وسوء طعامها وشرابها {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} فلا يعيش راحة الموت التي يتجمّد فيها الإحساس بالحياة في كل آلامها وأحزانها، ولا يعيش أمن الحياة ولذتها، ولذا فإنه يتطلّع إلى الموت كما لو كان أمنيةً من أعذب أمانيه، كما جاء في قوله تعالى عن أهل النار في حوارهم مع مالك خازن النار: {وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وهكذا يكون جزاء الذين يرفضون الذكرى، لأنهم يريدون الاستمرار في اتجاه الجحود.
* * *
جزاء من تزكى
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} وتطهرّ من كل أرجاس الكفر والضلال، فعاش الطهر والصفاء والنقاء والانفتاح على الله، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} في ما تمثله الصلاة من معنى القرب من الله في الطاعة لأوامره ونواهيه، والتجسيد العملي للعبودية، حتى لا يشغله عن الله مالٌ أو شهوةٌ أو طمعٌ في أيّ شيءٍ من حطام الحياة الدنيا إذا كان منافياً لرضاه سبحانه وتعالى. وهذا هو خط الفلاح الذي يلتقي بالمصير الأخروي السعيد في رضوان الله، وفي نعيم جنته الذي أعدّه الله للذين يعيشون الحضور القلبي، الموصول به تعالى، الذي يتحوّل إلى ذكرٍ في القلب، وعلى اللسان، وفي العمل، حيث يعيش الإنسان المؤمن صلاة الفكر والروح والجسد.
* * *
الآخرة خيرٌ من الدنيا
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} فترفضون التزكية والتطهر والخروج من عبادة المادة إلى عبادة الله تعالى، وتستسلمون للحياة الدنيا في لذاتها وشهواتها وقيمها المادية القائمة على أنانية الذات، وثورة الغريزة، وجشع الطمع، والاستعلاء على الناس، والبغي عليهم بغير حقٍ، والإخلاد إلى الأرض في كل إيحاءاتها التي تدفع الإنسان إلى الأسفل، وتمنعه من التطلّع إلى الأعلى في رحاب الله تعالى.
{وَالآخرةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} لأنها تمنح الإنسان السعادة الدائمة التي لا شقاء فيها ولا موت في طبيعتها، فهي الخير كله، والخلود كله. فكيف تفضِّلون الشقاء على السعادة، والفناء على البقاء؟
* * *
وحدة الرسالات
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} فقد أكدت على المفاهيم الرسالية التي لا يستنفدها الزمن، لأنها تمثل الحقائق الخالدة في امتداد الحياة، ولهذا، جاء بها القرآن في ما أنزله الله على نبيه منها، في ما أراد الإيحاء به من وحدة الرسالات في وحدة الرسل، ما يعني أن الحقائق التي تشترك بها الرسالات في دعوة الأنبياء، هي الأساس في تأكيد الشخصية الإنسانية الواحدة، التي تمثل وحدة الإنسانية في حركة الرسالات على امتداد الزمن.
ــــــــــــــــــــ
(1) البحار، م:18، ج:55، ص:247، باب:5، رواية:54.
(2) يقصد طيور أميركا.
(3) في ظلال القرآن، م:8، ج:30، ص:543ـ544.
(4) (م.س)، م:8، ج:30، ص:544ـ545.
(5) (م.س)، م:8، ج:30، ص:545.
(6) (م.س)، م:8، ج:30، ص:545ـ546.
(7) (م.س)، م:8، ج:30، ص:546ـ547.
(8) (م.س) م:8، ج:30، ص:547.
(9) (م.س) م:8، ج:30، ص:547ـ548.
(10) (م.س) م:8، ج:30، ص:548ـ549.
(11) البحار، م:23، ج:66، ص:505، باب:30، رواية:6.
تفسير القرآن
الأعلى